خصائص النقد في العصر الجاهلي
اتصل النقد بالأدب منذ طليعته في العصر الجاهلي اتصالًا لازمًا لما يترتب على العملية النقدية من تطور الأدب والارتقاء بمستواه من جانب الفكرة ومن جانب الأسلوب واللغة، وقد كانت العملية النقدية في العصر الجاهلي متاحة بين يدي كل أديب مبتدع، وكل مستمع ذواقة للأدب، ولذلك فقد كان النقد يستند إلى حكم الذوق بعيدًا عن الموضوعية والعلمية، تتمثل خصائص النقد في العصر الجاهلي في أنه: نقد فطري، ونقد جزئي، ونقد موجز، والعموميّة.[١]
نقد فطري
كيف يتأثر النقد بالأدب؟
عرف العرب في العصر الجاهلي ببراعتهم الأدبية لا سيما فيما يتصل بالأجناس الأدبية التي فرضتها عليهم طبيعة العصر الجاهلي وكانت تلبي احتياجاتهم اليومية كنظم الشعر وصياغة الخطب، حيث شكلت هذه الأجناس الأدبية الوسيلة الإعلامية التي يتناقل بها العرب أخبارهم ويسجلون تاريخهم ويحفظون أيامهم ومفاخرهم، فكانت آدابهم فطرية مطبوعة تنطلق من أفواههم على سجيتها دون تصنع أو تكلف، وبما أن النقد كان متصلًا بالأدب بشكل أو بآخر، فقد اكتسب منه طبيعته الفطرية البعيدة كل البعد عن الإمعان والتحليل المتكلف.[٢]
لقد كان النقد الأدبي معروفًا وفاعلًا في العصر الجاهلي كما كان شائعًا بين الأدباء أنفسهم والمتلقين الذين كانوا يحتكمون في نقدهم إلى ذائقتهم الفنية بما تمليه عليهم من استحسان بعض المواضع البلاغية والأسلوبية أوالمعاني والمضامين تبعًا لسليقتهم العربية وأحاسيسهم اللغوية الدقيقة والتي تدفعهم للحكم على القصيدة بأكملها بالجودة والبراعة أو الخطأ وعدم الاستحسان.[٣]
لعلّ من أبرز الأحكام النقدية التي جرت في العصر الجاهلي مثبتة خاصية اتباع الفطرة والسليقة في إطلاق الأحكام النقدية، وتبرز فيها الذاتية المطلقة ، بينما كانت تبعد كل البعد عن التأثر بالعصبية القبلية المعروفة في العصر الجاهلي، حكم أم جندب زوجة الشاعر امرئ القيس لعلقمة على زوجها[٤]، حيث أنشد:[٤]
فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ
- وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب
فقد رأت أم جندب أن امرأ القيس قد أجهد فرسه بسوطه وأرده في حركته بساقه، في حين أن علقمة قد أدرك صيده وهو مطلق عنانه دون زجر أو ضرب بالسياط أو إرشاد بالدفع بالساق[٤]، كما في قوله:[٤]
فأدركهنّ ثانيًا من عِنانه
- يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب
على الرغم من سيادة حكم الذوق العام والفطرة الأدبية على الأحكام النقدية التي كان يصدرها النقاد الجاهليين على الشعراء والأدباء بشكل عام، إلا أن أحكامهم لم تكن تتسم بالعشوائية المطلقة، فهم يستندون إلى قواعد وأحكام مخزنة في عقولهم وتفرضها عليهم سليقتهم اللغوية وما فطروا عليه من البيان والبلاغة، فهم أهل الفصاحة الذين تحداهم الله تعالى بالقرآن الكريم، ولعل الجاهليين لم يكونوا بحاجة لتدوين هذه القواعد والأحكام نظرًا لارتكاز آدابهم في الأساس على مبدأ الشفاهية، ولقلة استخدام الكتابة في مجمل أمور حياتهم. [٥]
نقد جزئي
ما الفرق بين النقد القديم والنقد الحديث؟
يتميز النقد الأدبي في العصر الجاهلي بالجزئية، حيث إنّ الناقد يتناول خلال نقده للقصيدة الجزئية التي تلفت انتباهه سواء كانت في اللفظ والتركيب النحوي أم كانت في المضمون أم الإيقاع العروضي، ثم إنّه يطلق حكمه على القصيدة أو النص الأدبي في مجمله من تلك الجزئية بينما يغض الطرف عن سائر عناصرالعمل الأدبي الذي يقوم بنقده، بخلاف النقد في العصر الحديث الذي يقوم بنقد العمل الأدبي بتناوله من جميع عناصره.[٦]
قد ضمت مصادر الأدب الكثير من المواقف النقدية في العصر الجاهلي التي تثبت وقوف النقاد على جزئية من جزئيات العمل الأدبي وإطلاق حكم نقدي من خلالها، ومن ذلك أن النقاد كانوا قد عابوا على النابغة الذبياني قصيدته عندما وجدوا إقواء في بيت من أبياتها[٧]، حيث يقول:[٨]
أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ
- عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ
أَفِدَ التَرَجُّلُ غَيرَ أَنَّ رِكابَنا
- لَمّا تَزُل بِرِحالِنا وَكَأَن قَدِ
زَعَمَ البَوارِحُ أَنَّ رِحلَتَنا غَداً
- وَبِذاكَ خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسوَدُ
قصيدة النابغة الذبياني كانت تقوم على روي الدال المكسورة، إلا أنه أخطأ حين قال" الغدافُ الأسودُ" بضم الدال في بيت واحد من أبياته ولم يدرك ذلك حتى أتي بمغنية تغنيها فظهر الإقواء محدثًا خللًا في إيقاع القصيدة، وقد وعاب النقاد قصيدة النابغة لهذا الخطأ ولم يلتفتوا لسائر عناصرها التي قد تجعل منها قصيدة جيدة.[٧]
لعل خاصية النقد الجزئي لم تكن إلا انعكاسًا للبنية الفنية لهيكل القصيدة، حيث كانت تقوم على الجزئية الموضوعية التي تنطوي تحت مسمى وحدة البيت والتي تستوجب تحقيق التناسق والانسجام بين شطري البيت الواحد، فيما قد تتعدد الموضوعات التي تعرض لها أبيات القصيدة والتي يراعي الشاعر فيها حسن التخلص لتخفيف وقع الانتقال من موضوع لآخر.[٩]
نقد موجز
لم لا يعلل النقاد الجاهليون أحكامهم؟
لقد بدا النقد الأدبي في العصر الجاهلي موجزًا شديد الاختصار، حيث يقتصر على الحكم النهائي ولا يتطرق الناقد إلى تعليل هذا الحكم وتبيان أسبابه، كما أن الشاعر المنتقد يكتفي في كثير من الأحيان بما وجه إليه من حكم نقدي دون أن يطلب تعليلًا أو تحليلًا لذلك، فكأنه يدرك مسبقًا مرجعية هذا الحكم وأنه عائد لذوق الناقد وحسب، إلا أنّ الناقد لا يمتنع عن تحليل حكمه وتعليله إذا ما طلب منه ذلك كما فعلت أم جندب حينما عللت حكمها لعلقمة على زوجها.[٤]
من أبرز الأحكام النقدية التي تعكس الإيجاز في الحكم وتجنب التعليل أنّه عندما تحاكم الشعراء الأربعة: الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وعبدة بن الطبيب، والمخبل السعدي، لدى ربيعة بن حذار الأسدي في قصائد كانوا قد أنشدوها أمامه، فكان حكمه على النحو الآتي: أن الزبرقان شعره كلحم أسخن لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيئًا فينتفع به، أما عمرو فشعره كبرود حبر يتلألأ وكلما أعيد فيه النظر نقص البصر، أما مخبل فقد قصر شعره عن شعر أصحابه بينما هو يعلو على شعر غيرهم، أما عبدة فشعره كمزادة أحكم حرزها فليست تقطر ولا تمطر، وهذه في مجملها أحكام موجزة تلخص حال شعر كل من هؤلاء الشعراء مع عدم التعليل أو التبرير من قبل الناقد.[١٠]
لعلّ الإيجاز في الحكم النقدي ضرب من ضروب التفاعل البلاغي الذي قد ينشده النقاد في النصوص الأدبية التي يحكمون فيها، وبما أن أهل العصر الجاهلي كانوا أهل بلاغة فإن الأحكام النقدية التي يطلقونها ينبغي أن تكون موجزة بحيث تؤدي المعنى المقصود بأقل ما يمكن من اللفظ، وبالتالي فإنّ الشاعر أو الأديب يتلقى هذا الحكم ويدرك مقصوده دونما الحاجة إلى تبرير أو تحليل لهذا الحكم، وإن كان الحكم مختزلًا في كلمة واحدة وذلك كما في حكم طرفة بن العبد بالإشارة إلى خطأ في المعنى حين قال: "استنوق الجمل"، وذلك في بيت المسيب بن علس[١١]، حيث قال:[١١]
وَقَدْ أَتناسَى الهَمَّ عِندَ احْتِضَارِهِ
- بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَريّةِ مكْدَمِ
العمومية
ما هي أبرز سلبيات النقد الجاهلي؟
إنّ فكرة عدم وجود قواعد ثابتة ومدونة للاحتكام إليها عند نقد النصوص الأدبية، واللجوء إلى حكم الذائقة العامة وما تمليه سليقة الناقد وفطرته الأدبية عليه قد أدى إلى أن تتّسم الأحكام النقدية في العصر الجاهلي بالعمومية، فالناقد يصدر أحكامه على النص الأدبي عامته تبعًا لنقطة معينة إيجابية أو سلبية يقف الناقد عندها، وهذه الخاصية تعد من سلبيات النقد الجاهلي فالأحكام النقدية إذا كانت عامة افتقرت إلى الدقة وأصبحت الأحكام بذلك بعيدة عن الموضوعية حيث يتغافل الناقد عن كثير من المحاسن والانسجام بين سائر عناصر العمل الأدبي في سبيل إبراز الخطأ الذي لفت انتباه الناقد.[١٢]
لعل من أشهر تلك الأحكام النقدية العامة ما كان منها موجهًا للمعلقات، حيث لاقت هذه القصائد استحسان الناس عامتهم وقالوا بجودتها وتفوقها على سائر القصائد التي قيلت في العصر ذاته، فعلقت على جدران الكعبة فخرًا واعتزازًا بها، وتكريمًا لأصحابها، وليس ذلك وحسب فقد تكون قصيدة واحدة سببًا في استحسان كافة القصائد لشاعر ما كما حصل ذلك مع الناقد النابغة الذبياني الذي أطلق حكمًا عامًا على الشاعرلبيد بن ربيعة بقوله: اذهب فأنت أشعر العرب وذلك فور أن أنشده معلقته [١٢]، حيث يقول فيها:[١٣]
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها
- بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها
- خَلَقًا كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهدِ أَنيسِها
- حِجَجٌ خَلَونَ حَلالُها وَحَرامُها
إنّ عمومية الأحكام النقدية في العصر الجاهلي كانت قد انطلقت من عمومية الأدب نفسه، فقد كان الأدب عامًا متاحًا لكافة فئات المجتمع تتشاركه الأفراد والجماعات ويتناقلونه من جيل إلى جيل، حتى أن قد بلغ الأمر في عمومية الأدب والنقد معًا أن خصص العرب للأدب أسواق كسوق عكاظ وذي المجنة وذي المجاز وغيرها، حيث كان الشاعر فيهم يعتلي منصة وينشد شعره بينما تتحلق عامة الناس من حوله ويتوزعون بين مستمع وبين ناقد يشارك في إضفاء لمساته من خلال ما يبديه من ملاحظات على ما سمع فتتباين بين الرضى وتصيد الأخطاء وكل ذلك من منطلق الذائقة الخاصة للناقد نفسه.[١٤]
المراجع
- ↑ محمد الرندي، القضايا الكبرى للنقد الأدبي القديم، صفحة 1. بتصرّف.
- ↑ أحمد أمين، النقد الأدبي، صفحة 357. بتصرّف.
- ↑ محمد عامر خليفة، النقد الأدبي في العصر الجاهلي، صفحة 64. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج محمد صايل حمدان، معاذ السرطاوي، عبد المعطي نمر موسى، قضايا النقد القديم، صفحة 23. بتصرّف.
- ↑ سامي جودة الزيدي (2012)، "القراءة والكتابة عند العرب قبل الإسلام وعصر النبوة"، مجلة آداب ذي قار، العدد 6، المجلد 2، صفحة 74. بتصرّف.
- ↑ محمد عامر خليفة، النقد الأدبي في العصر الجاهلي، صفحة 64. بتصرّف.
- ^ أ ب أحمد أمين، النقد الأدبي، صفحة 358. بتصرّف.
- ↑ "أمن آل مية رائح أو مغتد"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 20/2/2021.
- ↑ يحيى خان، الوحدة العضوية في القصيدة العربية قديمًا وحديثا، صفحة 102. بتصرّف.
- ↑ إحسان عباس ، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، صفحة 13. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد صايل حمدان، معاذ السرطاوي، عبد المعطي نمر موسى، قضايا النقد القديم، صفحة 24. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد عامر خليفة، النقد الأدبي في العصر الجاهلي، صفحة 65. بتصرّف.
- ↑ "عفت الديار محلها فمقامها"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 21/02/2021م.
- ↑ أحمد أمين، النقد الأدبي، صفحة 358. بتصرّف.