مقدمة الخطبة
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد أنْ حثّنا على طلب العلم، وأعلى مكانة العُلماء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، اللهم صل عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أُوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، والذي بطاعته يكرم أولياءه، وبمعصيته يُضلّ أعداءه، وأُحذّركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).[٢][٣]
الخطبة الأولى
عباد الله، اعلموا أن الله -تعالى- فضّل العلم فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)،[٤] وهذا يحثُّ المُسلم على طلب العلم، فالعلم نور وهُدى، والجهل ظُلمةٌ وضلال، وأفضل العلم التفقّه في الدّين وتعلّم أحكامه، فالعُلماء هُم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يُورِّثوا الأموال وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه وطلبه فقد أخذ بالنصيب الأكبر والحظّ الأوفر من ميراثهم.[٥]
وقد أعلى الله -سبحانه وتعالى- من شأن العلم والعُلماء في آياتٍ كثيرة، فقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)،[٦] ومن أعظم الصدقات الجارية التي تبقى للإنسان بعد موته العلم الذي يُنتفع به، فالعُلماء الربانيون لا تزال آثارهم وكُتبهم وأقوالهم ظاهرةً إلى قيام الساعة، فلنسارع إلى طلب العلم لننال بركته، ونعلّم غيرنا، ونعمل به.[٥]
ولنعلم -إخوني في الله- أنّ مَن تعلّم العلم للمُراءاة فقد عرّض نفسه للعقوبة من الله -تعالى-، فلا يكون هدف أيّ واحدٍ منّا من العلم لكسب المال أو السمعة والكبرياء، وعلى المسلم أن يبذل جُهده ويُشمّر عن ساعد الجد، سواءً أكان مُعلماً أو مُتعلماً، فيستقبل العلم والدراسة بهمةٍ ونشاط، ولا ينسى توجيه نيته وقصده لله -تعالى-.[٥]
ومن ذلك -إخواني الأفاضل- أن ينوي المُعلم بتعليمه لغيره الإحسان لهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أُمور دينهم ودُنياهُم، الأمر الذي يكون له الأثر البالغ في تحسين أخلاقهم، كما ينبغي على المُعلم أن يتمثل بأفضل الأخلاق والآداب؛ ليكون قدوةً لغيره من المُتعلمين، فقد اعتاد الناس أن يأخذوا دينهم من قدواتهم.[٥]
عباد الله، حثّنا الإسلام على طلب العلم، بل وجعله من الواجبات؛ إذ لا يُمكن الوصول إلى التقوى إلا بمعرفة ما يُتقى من المعاصي والفُسوق، ولا تستقيم الحياة إلا بالقيام بأُصول الإيمان وشرائع هذا الدين القويم، وهذا كُله لا يتحصل إلا بطلب العلم الذي عليه المدار في القيام بالطاعات والبُعد عن المُنكرات والمُحرمات.[٧]
ومن أراد الله -تعالى- به الخير يسّر له سُبل العلم وطُرقه، ومن لم يُرد به الخير أعرض به عن طلب العلم وسماعه، وقد عدّ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- دُروس العلم وحلق الذكر من رياض الجنة، فبها يعرف المُسلم الصراط المُستقيم، والحلال والحرام، والصلاح والفساد، ويعرف به كذلك سُبل الهُدى والضلال، وليعلم كُل واحدٍ منا أنّ طلب العلم والسعي إليه من أعظم القُربات والطاعات لله -تعالى-.[٧]
عباد الله، فلنحرص على طلب العلم ومجالسه، فمجالس العلم خيرٌ من الدُنيا وما فيها، لذلك نفى الله -تعالى- المُساواة بين العالم وغيره، وبين من يطلب العلم ومن يتقاعس عن طلبه، لقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).[٨][٧]
عباد الله، إنّ ممّا يؤكّد على أهمية العلم ومكانته أنّ أوّل آيةٍ نُزولاً كانت تحثُّ على القراءة والعلم، وهي قوله -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)،[٩] بل وجعل الله -عز وجل- العُلماء ورثةَ الأنبياء، بل وساوى النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- في بعض أحاديثه بين مداد العُلماء ودماء الشُهداء.[١٠]
وظهر اهتمام المُسلمين بالعلم في كثيرٍ من الصور؛ كارتحالهم في طلبه، وانتقالهم من بُلدانهم إلى بُلدانٍ أُخرى في طلبه، وحذّر الله -تعالى- العُلماء من كتْم العلم وإخْفائه، لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)،[١١] وظهر فضل المُسلمين على العلم في كثيرٍ من العلوم المُختلفة.[١٠]
والعلم النافع الذي يتركه صاحبه يُعد من الصدقات الجارية التي تلحق الإنسان بعد موته، ويبقى له أجرها إلى يوم القيامة، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).[١٢]
وقد أقسم الله -تعالى- بالقلم، وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على أهمية العلم، فأهل العلم من كرام الناس، وأهل البصيرة الذين يهتدون بالعلم ويهدون به غيرهم من الناس لهم شأن رفيع، كما أنهم أكثر الناس خشيةً لله -تعالى-، فقد أخبر الله -تعالى- عنهم في كتابه فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).[١٣][١٤]
وبارك الله لي ولكم في القُرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المُسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونتوكل عليه، ونُثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونُصلي على سيد الخلق وحبيب الحق مُحمد وعلى آله وصحابته والتابعين، أمّا بعد:
عباد الله، لقد ثبتت الكثير من الأدلة التي تُبين فضل العلم والعُلماء، وعُلو منزلة أهله، ومن يبحثون عنه، حيث إن السَّير في طريق العلم سببٌ لدُخول الجنة، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ)،[١٥] ويقصد بالعلم بالإضافة للعلم الشرعي كذلك كل علمٍ من علوم الدنيا النافعة للناس؛ من علوم الطب والهندسة والصناعة وغيرها.[١٦]
بل وقد رفع الله -تعالى- مكانة العُلماء وأعلى شأنهم في الدُنيا والآخرة، فيرفعهم في الدار الآخرة في درجات الجنة، وقد عدّ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- العُلماء ورثة للأنبياء؛ لما لهم من مكانة عالية بسبب تحمّلهم للأمانة العظيمة، ألا وهي ميراث الأنبياء في العلم.[١٧]
الدعاء
- اللهم إنّا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل.
- اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ أو عمل.
- اللهم إنّا نسألك علماً وحلماً وإيماناً وتقوى.
- اللهم يسر لنا دُروب العلم.
- اللهم اجعلنا ممن يحرصون على العلم والتعلم.
- اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
- اللهم إنّا نسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً ودُعاءً مُستجاباً.
- اللهم آتنا في الدُنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا اللهم عذاب النار، وتوفّنا مع الأبرار.
- اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين.[١٨]
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين (1432)، خطب المسجد الحرام، صفحة 8. بتصرّف.
- ↑ اختيار وكالة شئون المطبوعات والنشر بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد (1423)، خطب مختارة (الطبعة 3)، السعودية:وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ، صفحة 36. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية:70-71
- ↑ سورة الزمر، آية:9
- ^ أ ب ت ث محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 318-320، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ سورة المجادلة، آية:11
- ^ أ ب ت عبد الرحمن السعدي (1991)، الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات (الطبعة 1)، صفحة 177-179، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة الزمر، آية:9
- ↑ سورة العلق، آية:1
- ^ أ ب محمد منير مرسي (2005)، التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، صفحة 20-22. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:159
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
- ↑ سورة فاطر، آية:28
- ↑ حسين شعبان وهدان، "فضل العلم وأهله"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 2/3/2022. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2699، صحيح.
- ↑ محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 7-8، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ محمد بن صالح بن عثيمين، "الحث على طلب العلم"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 2/3/2022. بتصرّف.
- ↑ عبد العزيز السلمان، مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار، صفحة 410، جزء 2. بتصرّف.