مقدمة الخطبة
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، وجعل لنا طريقاً لبرّ من نحبّ بعد موتهم بالتصدّق عنهم بجميع أنواع البرّ، وتفضّل على موتى المسلمين بانتفاعهم بعظيم الأجر والثواب على ذلك.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدً عبدالله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصّرة بتقوى الله في السرّ والعلن، وأُحذّركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[٢]
الخطبة الأولى
عباد الله، حثّ الإسلام على الإحسان إلى الأموات بعد موتهم، وجعل التصدق عنهم والدُعاء لهم جزءً من هذا الإحسان، وقد ثبتت العديد من الأدلة في فضل الصدقة عن الشخص الميت، ومن ذلك حديث: (أنَّ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهو غَائِبٌ عَنْهَا، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شيءٌ إنْ تَصَدَّقْتُ به عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فإنِّي أُشْهِدُكَ أنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا).[٣][٤]
وكذلك قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أنَّ رَجُلًا أَتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ، إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ).[٥][٤]
وهذا كُله من عظيم فضل الصدقة عن الميت ومن الخير الذي يصله من الأحياء وهو في قبره، وعلى ذلك فالناس تتفاوت أحوالها يوم القيامة، فمنهم من يكون في ظل عرش الله -تعالى-، ومنهم من يكون في حر الشمس، ومنهم من يكون ظل أعماله الصالحة التي تقيه من حر يوم القيامة.[٦]
فاعلموا -يا عباد الله- أنّ الصدقة عن الميت من باب البرّ به، حيث جاء في الحديث الذي يرويه الإمام مُسلم: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له)،[٧] فالعبد يوم القيامة يطلب من ربه أن يُعيده إلى الدُنيا ليتزود من الأعمال الصالحة؛ فتكون الصدقة عنه من باب حقّه على الحيّ في الدنيا.[٨]
وإنّ الحرص على القيام بالصدقات وخاصةً الجاريّة منها هو ما يُميز عباد الله الصالحين، فقد كان الصحابة الكرام يقومون بها عن موتاهم، حيث قام سعد -رضي الله عنه- بحفر بئرٍ وتصدّق به عن أُمه.[٨]
وإنّ الأعمال الصالحة التي يوهب ثوابها للميت تعدّ من الخير الذي يصله؛ كالدُعاء، أو الاستغفار، أو الصدقة؛ كبناء مسجدٍ عنه، أو حفر بئر ماء في إحدى الدّول الفقيرة له، أو بإطعام الطعام، أو بكفالة الأيتام، أو ببناء المدارس ودور تحفيظ القرآن الكريم عن روحه، وإنّ أفضل ما يُقدم للميت هو أداء الفرائض عنه؛ كقضاء الصيام، والحجّ، والكفّارات؛ لأنها من الديون التي تبقى في ذمته بعد موته، فهي الديون المُتعلقة بالله -تعالى-.[٩]
ودلّ على ذلك قول النبيّ الحبيب -عليه الصلاةُ والسلام-: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقالَ: لو كانَ علَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى).[١٠][٩]
وقد اتّفق عُلماء المُسلمين على أن الصدقة عن الميت مما ينتفع به بعد موته، واتّفقوا على وصول أجرها وثوابها إليه، لما ثبت عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وأُرَاهَا لو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا).[١١][١٢]
فلنتذكّر -معاشر الفضلاء- إخواننا الذين سبقونا للدار الآخرة بالصّدقات والدعاء، فهم والله في أمسّ الحاجة إلى ذلك بعدما انقطع عملهم بالموت، وإنّ مما اتّفق العُلماء عليه في وُصول أجره للميت: الحج، والعُمرة، والأُضحية، والدُعاء، والاستغفار، وتعدّدت آراؤهم فيما عدا ذلك من الأعمال؛ كالصيام، وصلاة التطوع، وقراءة القُرآن.[١٢]
ومن الأفكار الأخرى في زماننا والتي يُمكن فعلها عن روح الميت: توزيع الأشرطة التي تحتوي على دُروس العلم والمُحاضرات المفيدة بنيّة الصدقة عن الميت، فالصدقة أيا كانت من أفضل الأنواع التي يُمكنُ للحيّ أن يُقدّمها للميت، وقد جاء عن الإمام الشافعيّ والإمام النوويّ أن الصدقات من الأعمال التي ينتفع بها الميت وتلحقه سواءً أكانت الصدقة مادية أو غير ماديّة.[١٣]
والصدقة عن الميت من الأمور المشروعة والنافعة له، كما أن المُتصدق يناله أجر الصدقة، فإذا تصدق المسلم عن أبيه أو أُمّه أو غيرهم فللمُتصدّق أجرها وللمتوفّى أجر، كما أنها تُعدُ من البرّ بهم والإحسان إليهم بعد موتهم، وينال به المسلم عند الله الأجر والثواب العظيمين.[١٤]
وبارك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المُسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، الدّاعي إلى رضوانه، الهادي إلى إحسانه، وصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه وسلِّم تسليماً كثيراً.
عباد الله، اعلموا أن التصدُق عن الميت بأي نوعٍ من أنواع الصدقة من الأعمال المشروعة، وأمّا الصدقة عنه وقت الدفن فلم يرد به دليلٌ من الشرع، فالأفضل التصدُق عنه من غير تحديدٍ لوقتٍ مُعين حتى وإن صادف ذلك وقت الدفن؛ لأن العبادات من الأُمور التوقيفيّة في الإسلام، وهذه الصدقة فيها أجرٌ للمُتصدق الحي وأجرٌ للميت المُتصدق عنه، وقد أجمع العُلماء على انتفاع الميت بما يُقدمه له الحي من الصدقة والدُعاء وغيرهما.
الدعاء
- اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم ثبتنا على صراطك المُستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، يا أرحم الراحمين.
- اللهم إنّا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، ونعوذ بك من الكُفر والفقر ومن عذاب القبر وعذاب النار.
- اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وذكرنا وأُنثانا.
- اللهم اغفر وارحم لمن سبقنا إليك من المُسلمين، واجعل قبورهم روضةً من رياض الجنة، ولا تجعلها حُفرةً من حُفر النار يا رب العالمين.
- اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، وراقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، واجعلنا هداةً مهتدين لا ضالين ولا مُضلين، واجعلنا من عباد المُخلصين.[١٥]
- اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، واهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.[١٦]
- اللهم آتنا في الدُنيا حسنة، وآتنا في الآخرة حسنة، وقنا واصرف عنا عذاب النار.
عباد الله، إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين، خطب المسجد الحرام، 1423:موقع مكتبة المسجد النبوي الشريف، صفحة 8. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:1
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:2756، صحيح.
- ^ أ ب محمد التويجري (2009)، موسوعة الفقه الإسلامي (الطبعة 1)، صفحة 106، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1004، صحيح.
- ↑ محمد بن قاسم العاصمي، موضوعات صالحة للخطب والوعظ، صفحة 270-271. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
- ^ أ ب عبدالعزيز بن أحمد الغامدي، "خطبة عن الصدقة الجارية والوقف"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 1/3/2022. بتصرّف.
- ^ أ ب نوح علي سلمان، "المنجيات والبر والصلة"، دار الإفتاء الأردنية، اطّلع عليه بتاريخ 1/3/2022. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1148، صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:2760، صحيح.
- ^ أ ب تقي الدين بن تيمية (1995)، مجموع الفتاوى، السعودية:مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 314-315، جزء 24. بتصرّف.
- ↑ الموقع بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد (2009)، القسم العربي من موقع الإسلام، سؤال وجواب، صفحة 4642، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فتاوى نور على الدرب، صفحة 312-313، جزء 14. بتصرّف.
- ↑ شحاتة صقر، دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ، الإسكندرية:دار الخلفاء الراشدين، صفحة 101، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 515، جزء 7. بتصرّف.