مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي جعل العلم مفتاح النَّجاح، وطريق النَّجاة والفلاح، أحمده سبحانه وأشكره، جعل العلم أساس كلِّ نهضةٍ، والمعرفة حُلية كلِّ أمَّةٍ، والثَّقافة عنوان كلِّ مجتمعٍ، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، رفع شأن العلم فأقسم بالقلم، وامتنَّ على الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم، وأشهد أنَّ نبينا محمد عبد الله ورسوله، أرسله ربُّه هادياً، وإلى التزوُّد بالمعرفة والعلم داعياً، -صلّى الله وسلّم وبارك عليه-، وعلى آله وأصحابه أولي النُّهى والعلم والعرفان، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسان.[١]
الوصية بتقوى الله
أمَّا بعد،عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فالتَّقوى خير زادٍ، وهي نِعم العدة ليوم المِعاد، فاتَّقوا الله تفوزوا، وعلى الخيرات تحوزوا، حيث قال - تبارك وتعالى- في محكم التَّنزيل: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّـهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)،[٢] فاتَّقوا الله واجعلوا خشيته بين أعيُنِكم، وجاهدوا أنفسكم على التَّمسُّك بها.
الخطبة الأولى
أيّها المسلمون: بالعلم ترقى المجتمعات، وتزدهر الأوطان، وتُبنى الحضارات، ولا يكون بناء الأمَّة راسخاً، وصلاحها ماجداً، ومُجتمعها متماسكاً، إلا إذا كان بالعلم موصولًا.[٣]
بقوة العلم تقوى شوكةُ الأمم فالحكم في الدهر منسوبٌ إلى القلم
كم بين ما تلفِظُ الأسياف من عَلَقٍ وبين ما تنفُث الأقلام من حِكَم
لو أنصفَ الناس كان الفضل بينهم بقطرةٍ من مِدَادٍ لا بسفكِ دم
فاعكف على العلم تبلغ شأوَ منزلة في الفضل محفوفة بالعز والكرم
أيُّها المسلمون: العلم هو الشَّرف الرَّفيع الذي يُوقَّر طالبه ويؤدبُّه، ويُجلُّ في العيون صاحبه، فهو أعزُّ مطلوبٍ، وأشرف مرغوبٍ، أعظم من أن يُشهر، وأوضح من أن يُظهر، تسابق الفضلاء لطلبه، وتنافس الصَّالحون لتحصيله، رفع الله به أهله درجاتٍ، وبلّغهم به أعالي الجنَّات، ونفى المساواة بينهم وبين غيرهم مرَّاتٍ ومرَّات، يقول ربُّ البريَّات: (يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)،[٤] وقال ابن عباس: "درجات العلماء فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين خمسمائة عام".[٥]
وفي مأثور الأمثال والحَِكم: "العلم في الفتنة يحرصك، وفي الوحشة يؤنسك، وعلى أَسِرَّة العز يُجْلِسك"، قال المزيني-رحمه الله-: "سمعتُ الشافعيَّ -رضي الله عنه- يقول: من تعلَّم القرآن عظُمَت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقدارُه، ومن كتَب الحديث قويت حُجتُه، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن نظَر في الحساب جزُل رأيُه، ومن لم يصُن نفسَه لم ينفعه عِلْمُه".[٦][٧]
ومن عظيم منزلة العلم، وكريم مرتبته، أنَّ الله -تعالى- أمر نبيَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يستزيد منه، وما أمره أن يستزيد من غيره؛ فدلَّ ذلك على أنَّ العلم مُقدَّمٌ غاية التَّقديم، وأنَّ للمُشتغل فيه عند الله المقام الكريم، وما أجمل قول الله -تعالى-: (وَقُل رَبِّ زِدني عِلمًا)،[٨] زيادةً تُحرك الهمم، وتُقوي العزائم، وتتوق النفوس إلى الأجر والثواب، من الله الكريم الوهاب، قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).[٩][١٠]
إنَّ العلم طريقٌ موصلٌ إلى الجنان، وسبيل مُبعد عن النِّيران، يقول -عليه الصَّلاة والسَّلام-: (مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ، وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ).[١١][١٠]
وفي هذا الحديث قصَّةُ، فعن كثير بن قيس، قال: "كنت جالسًا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدَّرداء، أتيتك من المدينة، -مدينة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لحديث بلغني أنَّك تُحدّث به عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: قال أبو الدرداء: فما جاء بك تجارة؟ فقال الرجل: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ وهذا الاستفهام للإيضاح عن سبب المجيء، وأنَّه لم يأتِ لتجارة أو عرض من أعراض الدُّنيا، وأنَّه ما جاء به غير طلب ذلك الحديث، فلما عرف أبو الدرداء -رضي الله عنه- نيَّة الرجل، وأنَّه ما جاء إلا لطلب العلم، ذكر له الحديث".[١٢]
الناسُ مِن جهة التِمثالِ اَكفاءُ أَبوهُمُ آدم والأمُ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ أسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
فَفُز بِعِلمٍ وَلا تَطلُب بِهِ بَدَلاً فَالناسُ مَوتى وَأهُلُ العِلمِ أَحياءُ
أيُّها المسلمون: إنَّ العلم الشَّرعيَّ أنفس ذخيرةٍ تُقتَنى، وأطيب ثمرةٍ تُجتَنى، فهو أشرف العلوم قدراً، وأعظمها أجراً، وأقومها قيلاً، وأصحُّها دليلاً، وأهداها سبيلاً، وأعمِّها فائِدةً، وأتمِّها عائِدةً، وأسماها منقبةً، وأعلاها مرتبةً، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ).[١٣][١٤]
وإذا أردتَ من العلوم أجلَّها نفعًا وأزكاها وأعلى المَطلَبِ
فعـلومُ توحيدِ الإلهِ وبعدَهُ فقهٌ بدينٍ فهو أعلى المكسَبِ
والعلوم الدُّنيويَّة شديدةُ الأهميَّة، وتعلّم النَّافع منها من فُروض الكفاية التي يجب على المسلمين القيام بها، فإذا أهملوها أثِموا جميعاً، وإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، قال بعض العلماء: "إنَّ القيام بفروض الكفاية أفضل من القيام بفرض العين؛ لعموم نفعها وإسقاط الإثم بالقيام بها عن جميع الأمَّة".[١٥] فاللهمَّ إنَّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً، اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع، ومن دعوةٍ لا تُسمع، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنَّه كان للأوابين غفوراً.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، هدانا لنور الإسلام، وأرشدنا لطريق العلم والإيمان، وأشهد أنَّ نبينا محمَّد عبد الله ورسوله، الهادي إلى طرق الخيرات، والمُحذِّر من مسالك الضَّلالات، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أولي الفضل والكرامات، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم تُبلى السَّرائر، وتُكشفُ المكنونات.[١٦]
أيُّها المسلمون: العلم يورث الخشية، ويُثمر العمل، قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)،[١٧] وقد قيل: "من كان بالله أعرف كان منه أخوف"، وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عباده، ومذاكرته تسبييح، والبحث عنه جهاد، وبذله قربة، وتعليمه من لا يعلمه صدقة".[١٨] وإنَّ من أعظم الآيات في مدح العلماء، قوله -تعالى-: (شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)،[١٩] فالله -عزَّ وجل- استشهد في هذه الآية بشهادة أهل العلم على أعظم وأجلِّ مشهودٍ عليه، وهو توحيده سبحانه، وقرن شهادتهم بشهادته -سبحانه- وشهادة الملائكة المقرَّبين، وفي هذا تزكيةٌ لهم وتعديلٌ وتوثيقٌ، وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها؛ لأنَّ الله -تعالى- لا يستشهد بمجروحٍ.[٢٠]
إنَّ الله لم يقصر الأجر على العُلماء في حياتهم؛ بل امتدَّ الأجر بعد وفاتهم، فيُخلد ذكره عند الورى، وإن كان مدفوناً تحت الثرى، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).[٢١][٢٠]
قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
الدعاء
- هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرَّحمة المُهداة، والنِّعمة المُسداة، نبيِّكم محمد رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه-: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾،[٢٢] اللهمَّ صلِّ على محمد وأزواجه وذريّته كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
- اللهمَّ إنَّا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهمَّ اجعل الحياة زيادةً لنا من كلِّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلِّ شر.
- اللهمَّ إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسَّلامة من كلِّ إثم، والغنيمة من كلِّ بر، والفوز بالجنِّة، والنِّجاة من النِّار، ربنا آتنا في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النَّار، سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.[٢٣]
المراجع
- ↑ حسين شعبان (20-9-2017)، "فضل العلم وأهله"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الطلاق، آية:5
- ↑ عبد العزيز الغامدي (15-10-2016)، "خطبة فضل العلم والعلماء وبدء العام الدراسي"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة المجادلة، آية:11
- ↑ أحمد القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، صفحة 153.
- ↑ الخطيب البغدادي، كتاب شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، صفحة 69.
- ↑ صلاح البدير (31-8-2019)، "نصائح لأبنائنا الطلاب"، ملتقى الخطبى، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة طه، آية:114
- ↑ سورة الزمر، آية:9
- ^ أ ب خالد الشايع (9-2-2013)، "فضل العلم ومكانته"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن أبي الدرداء، الصفحة أو الرقم:73، اختلف في هذا الحديث اختلافا كثيرا.
- ↑ عبد الملك بن قاسم، ورثة الأنبياء، صفحة 50. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن معاوية بن أبي سفيان، الصفحة أو الرقم:3116، صحيح.
- ↑ شهاب الدين الألوسي، تفسير الألوسي، صفحة 3. بتصرّف.
- ↑ خالد الرفاعي (19-12-2010)، "العلم الدنيوي: النية والإخلاص"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ محمد الشرافي (23-1-2014)، "فضل العلم والحث على طلبه"، ملتقى الخطبى، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة فاطر، آية:28
- ↑ أحمد الأهدل، كتاب الأخلاق الزكية في آداب الطالب المرضية، صفحة 35.
- ↑ سورة آل عمران، آية:18
- ^ أ ب عبد العزيز الفايز (7-12-2017)، "منزلة العلم والعلماء"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 1-7-2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
- ↑ سورة الأحزاب، آية:56
- ↑ ياسر الحمداني، كتاب جواهر من أقوال الرسول، صفحة 647. بتصرّف.