مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إلهاً واحد أحداً فرداً صمداً، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره: (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ).[١][٢]
وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل.[٣]
الوصية بتقوى الله
يا عباد الله، فإنني أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- وطاعته، وأحذّركم ونفسي من مخالفة أمره وعصيانه؛ لقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)،[٤] ولقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).[٥]
الخطبة الأولى
عباد الله، إنَّ النفاق وأهله أشد خطرا من الكفر على الإسلام والمسلمين؛ لأن النفاق غير ظاهر؛ فيحذر المسلمون من أصحابه، أما الكفر فهو ظاهر للمسلمين؛ فيحذرون من أهله وشرهم، ولذلك يا عباد الله يجب علينا الحذر من الوقوع في دائرة النفاق وعلاماته؛ فقد توعد الله المنافقين بالدرك الأسفل من النار، فقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).[٦]
واعلموا يا عباد الله أنَّ للنفاق علامات وأمارات، تدل على النفاق ووجوده في أصحابه، ويعرفون بها، وهذه العلامات كما بينها الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ).[٧]
وموضوعنا الذي يهمنا اليوم في خطبتنا اليوم هي العلامة الرابعة، وهي إذا خاصم فجر، هذه العلامة ما أحوجنا يا عباد بأن نكون بعيدين عنها كل البعد، حريصين على تجنبها كل الحرص، ومعنى إذا خاصم فجر يعني إذا تجادل أو تشاجر مع أحد؛ فإنه يميل عن الحق، ويقول الباطل، ويشتم ويرمي بالبهتان والأشياء القبيحة،[٨] فلا ينصف نفسه ولا ينصف غيره.
فطوبى لمن أنصف نفسه وأنصف غيره، وقال كلمة الحق، ومال عن الباطل، والفجور في الخصومة يا عباد الله داخلٌ تحت الكذب الذي هو من كبائر الذنوب، وإذا كان كذلك؛ فإن الخصومة تهدي إلى النار، فالخصومة والكذب يهديان إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
عن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا).[٩]
ولا ينبغي للمسلم أن ينظر لنفسه نظرة التعظيم، ولغيره نظرة الاحتقار، فإن هذا ليس من شيم وأخلاق أهل الإسلام؛ لأن أهل الإسلام أهل حق وأهل صواب، بل يجب على المسلم يا عباد الله أن يتهم نفسه، وأن يعتقد أنه معرض للخطأ، وغيره معرض للصواب، فلا بد أن يقول كلمة الحق في نفسه وفي غيره، حتى لو كان هذا الغير كافرا.
قال الله -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).[١٠]
وألدّ الخصام هنا يعني شديد الخصومة،[١١] وأقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما أمر، والصلاة والسلام على النبي المبعوث لسائر البشر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله إرغاما لمن كفر، وبعد عباد الله:
إنَ الفجور في الخصومة من سوء الأخلاق مع الله -عز وجل-، وهو من سوء الأخلاق مع خلق الله؛ لأن في الخصومة عدم الاستحياء من الله -عز وجل-، وفيه تعدٍّ على حقوق الآخرين فينبغي علينا أن نقول الحق، ولو كان المخاصمون لنا هم أعداؤنا؛ لأن ديننا الحنيف كله حق، وهو مبني على حق.
واعلموا يا عباد أن الله -تعالى- صلى على نبيه، وأمرنا بالصلاة عليه؛ فقال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)،[١٢] فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدعاء
- اللهم طهرنا قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، ومعاملاتنا من الغش والخيانة.
- اللهم أصلح شباب وفتيات الأمة، وردنا إليك ردا جميلا.
- اللهم اغفر للمسلمين وللمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الرعد، آية:11
- ↑ ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، الرياض:مكتبة المعارف، صفحة 4، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، الرياض:مكتبة المعارف، صفحة 4، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:1
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ سورة النساء، آية:145
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:34، صحيح.
- ↑ أحمد القسطلاني (1323)، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (الطبعة 7)، مصر:المطبعة الكبرى، صفحة 263، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم ، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:2607، صحيح.
- ↑ سورة البقرة، آية:204- 206
- ↑ محمد الأرمي (1430)، الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (الطبعة 1)، مكة المكرمة:دار النهاج، صفحة 587، جزء 24. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية:56