مقدمة الخطبة
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، سبحانه مُنبّه الغافلين، وغافر الذنوب للعباد المساكين، مُزيّن قلوب المؤمنين بنور التوفيق، منزل الذكر الحكيم ليهتدي به العباد لكل حقٍ ورشاد، خلق الناس فمنهم أشقياء ومنهم سعداء، أحاط بعلمه الخلق فهو سميعٌ بصيرلا يعجزه شيء، تجري الأمور بحكمته، وتُقسّم الأرزاق وفق مشيئته، لا يشغله شيء عن شيء فكل شيء عنده بقدر، كرَّم الإنسان على باقي المخلوقات، وجعل للوالدين أتمَّ التكريم والتعظيم، فخصَّ الأم بالطاعة والبر، وألزم عباده بطاعتها، والاهتمام بقضاء شؤونها، وما تحتاجه، فهي من حملت همَّ أبناءها، ورعتهم حق الرعاية، فلذلك تستحق أن يكرمها أبناءها، ويرعونها، ويبرونها، فاللهم احفظ لنا أمهاتنا، وجميع أمهات المسلمين، وأعنا على برهم وطاعتهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.[١][٢]
الوصية بتقوى الله
أيها الناس، اتقوا الله -تعالى- القائل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)،[٣] فإنّ الله -عزوجل- وعد عباده المتقين بتفريج كروبهم، وجعل لهم من كل ضيقٍ وهمٍّ مخرجا، ورَزقهم الرزق الواسع الوفير، ويسّر أمورهم، وعظّم أجورهم.[٤]
الخطبة الأولى
أيها الإخوة، إنَّ الأم من أعمدة البيت، ومصدر الاُنس لأهل البيت، ففي وجودها تطيب الحياة، وتسكن النفس، والله -عزوجل- قد أوصانا بها، وجعل حقها فوق كل ذي حق، وذكر الله -عزجل- في محكم كتابه بعض النصوص القرآنيَّة الدالة على أهميّة بر الوالدين؛ لما لهما من فضل في تربية الأبناء، وخصَّ الأم لما تتحمَّله من مشقة وصِعاب في سبيل تربية أطفالها، وتنشئتهم تنشئة صحيحة، فقال -عز وجل-: (وَوصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)،[٥] وأوحى سبحانه إلى نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- بأحاديث نبويَّة كثيرة تدل على عِظم شأنها، وعلوِّ مكانتها، إذ جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال له النبي الكريم: (أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ).[٦][٧]
يا عباد الله، من كان يريد أن يغفر الله له ذنبه، ويستر عيبه، فعليه بطاعة أمه، وبرّها، ورعايتها، وقضاء شؤونها وحاجاتها، وفي الحديث الصحيح: (أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها)[٨]، فأخبر -عليه الصلاة والسلام- أنَّ من أسباب مغفرة الذنوب؛ بر الأم، والخالة بمنزلة الأم.[٩]
وإنَّ من موجبات البركة للمؤمن، والرزق الواسع، والعمر الطويل؛ طاعة الأم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)[١٠]، وأعظم صلة؛ هي صلة العبد بوالديه، وأكمل الإحسان؛ هو الإحسان للأم، وذكر لنا -عليه الصلاة والسلام- أنَّ رجلًا كان مُجاب الدعوة لكثرة برِّه بأمه.[٩]
يا أيها الناس، إنّ برالأم من أعظم الفضائل فهي من شيم الأخلاق، ويعدُّ برها من أخلاق الأنبياء؛ فقد مدح الله عزوجل نبيه يحيى -عليه السلام- بقوله -تعالى-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا).[١١][٩]
فيا أيها البار بأمّه، قال -تعالى-(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)،[١٢] عاملها بالذل والعطف والرحمة واللين، ولا تقسو عليها، وافعل ما تحبّه أمك حتى قبل أن تطلبه، لا تعارض رأيها، بل ناقشها بهدوء، طيّب خاطرها، وجالسها، وتودد إليها بإدخال السرور على قلبها، وتقديم الهدايا لها، وردّد في صبح ومساء: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، واعلم أنّ البرّ في كبر سنها آكد وأوجب، فاحفظ سكناتك وأقوالك وأفعالك، وكن بارّاً بها، وارحم ضعفها.[١٣][٩]
أيها الناس، إنَّ لإمهاتنا علينا حق، فواجبٌ على المؤمن أن يحسن إليها كما أحسنت إليه في صغره، وأن يرعاها كما رعته، وسهرت الليالي في سبيل حفظه والقيام على شؤونه، فقال -سبحانه وتعالى-: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).[١٤] وقد روي عن أبي الليث السمرقندي أنّه قال: "لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا، وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا، فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذلك فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ، وَالإِنْجِيلِ، وَالزَّبُورِ، وَالْفُرْقَانِ وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا، وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا".[٩]
فإنَّ الأم تفني شبابها، وتصيبها الأمراض والأوجاع مما تعانيه من آثار الحمل، والولادة، والرعاية، والفطام، وهي في مقابل ما تقدمه لأبنائها لا تنتظر رد الجميل، ولا تريد إلا قلباً رؤوفًا، ولساناً يذكرها بخير، ويدعو لها، وطوبى لِمَنْ أفنى عمره في طاعتها وبرِّها، فطاعة الأم أحق ما تفنى له الأعمار، وتوهب له الجهود، ومن واجباتها علينا في حياتها، وبعد وفاتها؛ الدعاء والاستغفار لها في كل وقت وحين، والإكثار من الصدقة عنها، وصلة رحم أقربائها.[٧][٩]
اسألوا الله أن تكونوا ممَّن يدخلون الجنان ببرهم لوالديهم، وبارك الله لنا ولكم في أمهاتنا وآبائنا وجعلنا بارين بهم، وأستغفر الله لي ولكم، والحمدلله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد والشكر لله على فضله وتوفيقه ونعمه الكثيرة، ومن نعمه وجود الوالدين في حياة المؤمن؛ فهما وسيلة لدخول الجنة والتنعم بنعيمها، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ).[١٥]
أيها الناس، إياكم وعقوق الوالدين، فعقوبة العقوق ستكون في الدنيا قبل الآخرة، فقد حذرالله -عزوجل- عباده من عقوق الوالدين في كتابه الحكيم: ( وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا* وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا).[١٦][٧]
فيا إخوتي من عقّ أمه، وغفل عن برِّها، وطاعتها وهجرها، وأبكاها، وتركها، وأمضى حياته بعيداً وغافلاً عنها، وماتت دون أن تراه ويراها، ماذا ستكون حجتك وأنت بين يدي الله -تعالى؟- وعندما تُسأل عنها ماذا سيكون جوابك؟ فاحذر أيها المؤمن، واستدرك ما فاتك من بر والديك، والزم قدميهم دائمًا، ولا تنسَ فضلهما ما حييت، واتقوا الله عباد الله، والصلاة والسلام على رسول الله.[٩][١٧]
الدعاء
هلّم معي يا أخوتي، نرفع أيدي الضراعة لله تعالى:[١٨][١٩]
- يارب أسعد أمهاتنا، واشرح صدورهنّ، وأرح قلوبهنّ، وأبعد عنهن كل ما يُحزنهنّ، اللهم إنا استودعناك راحتهنّ؛ فاجعلهنّ أسعد خلقك.
- اللهم اخفض لأمهاتنا أصواتنا، وطيّب لهنّ كلامنا، وألن وأعطف عليهنّ قلوبنا، وارزقنا برهنّ، ورضاهنَّ حتى مماتنا.
- اللهم امنح أمهاتنا بركةً في العمر، وأسعد قلوبهن، وفرج عنهم همومهنّ، ويسر لهنّ أمورهنّ.
- ربي إننا نحبهنّ حباً لا يعلمه سواك، فاجعل الجنة مسكنهنَّ ومكانهنَّ.
- ربي زد أمهاتنا مكانة حين يركعن، وزدهن إخلاصًا حين يسجدن، وزدهنَّ صحة وعافية حين يكبرن ولا تحرمهن الفردوس يا أرحم الراحمين.
- اللهم ارزق أمهاتنا فوق عمرهن عمراً، وفوق صحتهنّ عافية، ولا تحرمنا من وجودهنّ ورضاهنّ.
- اللهم أعنّا على برهنّ حتى ترضى عنا، وأعنا على الإحسان إليهنَّ في كبرهنَّ.
- اللهم أسعد قلوب أمهاتنا واستجب دعواتهنّ، وطهر همومهنّ، واغفر ذنوبهنّ، وأرح بالهنّ.
- أسأل الله العلي القدير العزيز الجبار أن يشفي جميع أمهات المسلمين.
- اللهم أفرح قلوبهنّ، و قلوب أحبابهم بشفائِهم، اللهم إني أوكل إليك أمر من آذاها فخذ لها حقها، واجبر كسر قلبها.
- ربّ ارحمهما كما ربوْنا صغاراً، وأعتق رقابهم من النًار، وأدخلهم الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.
- اللهم أدخلنا الجنة ببرآبائنا وأمهاتنا، وتجاوز عنّا تقصيرنا في حقوقهم، وأعنّا على البر بهم.
- اللهم جازِ أمهاتنا عنّا خير الجزاء، واجعلهنّ من سيدات أهل الجنّة.
- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
- ↑ سليمان العودة، "وبالوالدين إحسانا"، المكتبة الشاملة الحديثة، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ أحمد سلطان (6/3/2016)، "27 مقدمة من أروع مقدمات الخطب"، الألوكة الشرعية، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الطلاق، آية:2-3
- ↑ سليمان بن حمد العودة (2013)، شعاع من المحراب (الطبعة 2)، المملكة العربية السعودية:دار المغني للنشر والتوزيع، صفحة 188، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ سورة لقمان، آية:14
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2548، صحيح.
- ^ أ ب ت يحيى الشيخي (17/9/2016)، "الله الله في الأم (خطبة)"، الألوكة الشرعية، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:1904، صحيح.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ منصور الصقعوب (29/2/2016)، "خطبة عن الأم"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 2067، صحيح.
- ↑ سورة مريم، آية:14
- ↑ سورة الاسراء، آية:24
- ↑ سورة الاسراء ، آية:24
- ↑ سورة لقمان، آية:14
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2551، صحيح.
- ↑ سورة الإسراء، آية:23-24
- ↑ "بر الوالدين"، إسلام ويب، 31/05/2004، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ أمير المدري، "أُمك أُمك أُمك"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ "دعاء الوالدين"، إسلام ويب، 13/11/2011، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.