مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضِّل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحمد لله الذي أنعم علينا بالنعم الكثيرة، وجعلنا أخوة متحابِّين، وجعل التعاون خُلق إسلامي كريم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله وصفيُّه من خلقه، وصلّى الله عليه وسلّم تسليمًا كثيرًا.[١]
الوصية بتقوى الله
أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوه في السرّ والعلن، فقد عزّ القائل: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا).[٢][٣]
الخطبة الأولى
أيّها الأخوة المؤمنون، قام الدين الإسلامي على بناء مجتمع قوي رصين، فجعل التعاون خلقًا كريمًا وحثّ عليه، وهو فعل الخير الذي نُؤمر به، واجتناب الشرّ الذي نُهينا عنه، فكلّ خير يفعله الإنسان ويساعد غيره من المسلمين في فعله يُحقِّق مفهوم التعاون.[٤]
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "التعاون معناه التساعد، وأن يُعين الناس بعضهم بعضاً على البرّ والتقوى، فالبرّ: فعل الخير، والتقوى: اتّقاء الشّر، وذلك أن الناس يعملون على وجهين: على ما فيه الخير، وعلى ما فيه الشر، فأمّا ما فيه الخير فالتعاون عليه أن تساعد صاحبك على هذا الفعل وتيسر له الأمر، سواء كان هذا مما يتعلّق بك أو مما يتعلّق بغيرك".[٤]
وللتعاون على البرّ والخير أهمية كبيرة، فقد حثّ الله -تعالى- عليه في كتابه الكريم، حيث قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)،[٥] وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[٦][٤]
فالله عزَّ وجلَّ يُوجِّهنا إلى أنْ يكون كلامنا فيما بيننا بالبرّ وحُسن الخلق، والابتعاد عن الإثم والمعاصي، وما يخالف أوامر الشريعة، ويقول الله -تعالى-: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).[٧]
كما أن الله -تعالى- قد وصف المؤمنين من عباده بأنّهم متكافلين متعاونين، فالله -تعالى- يقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).[٨][٤]
وقد حثّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- على التعاون في كثير من أحاديثه، كما أنَّ التعاون يُعين المسلمين في الاجتماع على أمرهم، وقد حثّ الله -تعالى- على التشاور، بل جعله مبدأً إسلاميًا راسخًا، فاحرصوا عباد الله على اغتنام الخيرات في الدنيا، فما هي إلا دار فناء، ولا تتركوا بابًا للخير فيها إلا وطرقتموه، وعلينا بالتعاون والتكافل فيما بيننا.[٤]
أيها الأحبة، إن الله -تعالى- جعل لنا القرآن منهاجًا نستقي منه السُّبل التي تنير حياتنا، وقد جعل التعاون على البرِّ قاعدة راسخة، وتطبيقها فعل الخير، وترك المنكر، وعدم التعاون على باطل ومحرّم، فاجتماعُنا على فعل الخير برّ وتعاون، واجتماعُنا على ترك المنكر تعاون، وقد ترك لنا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مثالًا مُشرقًا في سيرته، حين تعاون مع أصحابه على بناء المسجد.[٩]
وقد تشاركوا بيوتهم ومنازلهم عندما هاجروا، وكذلك تعاونهم على الجهاد في سبيل الله؛ فقد تشاركوا في حفر الخندق، وقد أوصى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمته بالتعاون، وأخبر أن مساعدة الرجل لأخيه في رفع متاعه صدقة، أي إنَّ عون المسلم لأخيه صدقة يُؤجر عليها، وكذلك إغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم.[٩]
بل إنّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أوصى المسلم بنصرة أخيه المسلم سواء كان ظالمًا أو مظلوماً، والمراد من نصرته ظالمًا أن يتمّ تعريفه بظلمه، وردعه، وإرشاده إلى الصواب، وغيرها من الأفعال الاجتماعية، وعلى المستوى الفردي يستطيع المرء أن يطبق مفهوم التعاون؛ فمساعدة الرجل لأهل بيته تعاون، ومساعدته للكبير من أسرته وتوقيره من التعاون، والشعور بالجار الفقير تعاون.[٩]
ولا حصر لصور التعاون بين المسلمين، وأعظم ذلك التعاون على نصرة الدين الإسلامي، والدعوة إليه؛ وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو السبب في خيرية هذه الأمّة، وقد أمر الله -تعالى- به في مواضع عديدة من كتابه، ومن التّعاون نشر الصورة المشرقة للإسلام، وذلك بالتزام الأخلاق التي أُمرنا بها ونشرها للناس.[١٠]
والتّعاون يكون بالقيام بحاجات المسلمين وقضائها؛ كمساعدة المكروب بتفريج همِّه، والمحتاج بقضاء دينه، فالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ).[١١][١٠]
أيها الأحبَّة، إنَّ من التعاون إخراج الصدقات للمحتاجين، ومساعدة المساكين، فقد روى أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه كان مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في أحد أسفاره، فجاء أعرابي إليه ينظر عن شماله ويمينه، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (مَن كان معه فضلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهْرَ له، ومَن كان له فضلٌ من زادٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا زادَ له).[١٢][١٠]
أيها الأحبَّة، إنّ للتعاون فوائد عديدة منها، سرعة الإنجاز في الأعمال الفردية، والشعور بالقوّة لدى الفرد، وهو دليل على حبِّ الخير للناس، كما يساعد التعاون على مواجهة ما يخافه الإنسان بعد اطمئنانه بوجود من يعاونه، وهو من ثمرات الإيمان.[١٣]
وهو حاجة من حاجات الإنسان التي لا يستطيع التخلِّي عنها، وهو سبب في النجاح والتقدم، والتعاون ينزع الحقد من قلوب الناس، ويساعد في نشر الألُفة والمحبَّة بينهم، وهو طريق لنيل رضا الله -تعالى-، وكسب طاعته ومحبّته.[١٣]
عباد الله، إنّ التعاون على البرّ، من المقاصد التي جعلها الله -تعالى- تتحقّق باجتماع الناس، فيعين الناس بعضهم بعضًا، فالإنسان بطبعه خُلِقَ اجتماعيًا لوا يقوى ولا يقدر على العيش وحده، فجعل الله -تعالى- الإنسان يعيش في جماعات يُعينون بعضهم، ويحقِّقون مطلبهم بمساعدة بعضهم.[١٤]
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظَّالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله، إنَّ منافع العباد لا تتحقّق إلا بالتعاون، فالتعاون فضله كبير، وهو سببٌ لتآلف القلوب، وسبيل لنشر الألُفة والمحبّة بين الناس، وهو طريق لتحقيق المصالح الدينية والدنيوية للعباد.[١٥]
وهو السبيل المُمَهَّد لوصول الإنسان إلى مُراده ومطلوبه، وهو سبب في قوّة المسلمين، فاجتماعهم وتعاونهم يزيد هيبتهم في نفوس الغير، ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصف المسلمين بأنَّهم كالبنيان المرصوص يَشدُّون بعضهم بعضًا، وهو كذلك سبب لعلوِّ الدرجات يوم القيامة، وباب لزيادة الحسنات.[١٥]
والتعاون سبيل للعزّة، فهي صفة يكتسب بها الفرد العزّة، وينال الرِّفعة والقوّة، فالعمل الصالح والتعاون على البرِّ والتقوى، سبيل لنيل رضا الله -تعالى-، وسبب في بناء مجتمع إسلامي محصَّن رصين.[١٥]
الدعاء
- اللهم إنّا نسألك الخير في أمرنا كلّه، اللهم ارزقنا المحبّة والتعاون.
- اللهمّ اجمع كلمتنا وألِّف بين قلوبنا، وباعد بيننا وبين معصيتك.
- اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.
- اللهم إنَّا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل.
- اللهم آتنا في الدنيا حسنة وآتنافي الآخرة حسنة، وأجرنا من عذاب النار، وأدخلت الجنة مع الأبرار.
- اللهم انصر المسلمين في كلّ مكان، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل الإسلام والمسلمين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هوالغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين، خطب المسجد النبوي، صفحة 39. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:131
- ↑ مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 7. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج "خطبة عن فضل التعاون في الإسلام"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 8/10/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية:2
- ↑ سورة المجادلة ، آية:9
- ↑ سورة البقرة، آية:177
- ↑ سورة التوبة، آية:71
- ^ أ ب ت "التعاون بين المسلمين "، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد ، اطّلع عليه بتاريخ 8/10/2021. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "وتعاونوا على البر والتقوى "، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 8/10/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2699، حديث صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي سعيد الخدري ، الصفحة أو الرقم:6497، حديث صحيح.
- ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، صفحة 1027. بتصرّف.
- ↑ محمد صالح المنجد ، كتاب كونوا على الخير أعوانا، صفحة 6. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "التعاون على البر والتقوى"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 8/10/2021. بتصرّف.