المقدمة
الحمد لله الذي أمر بالصِّدق في الأقوال والأفعال، وأثنى على الصَّادقين بالفضل والكمال، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله الكبير المتعال، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله أفضل من نطق وقال، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وارض اللهمَّ عن الصَّحابة أجمعين وعن التَّابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
الوصية بالتقوى
أمَّا بعد، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-، امتثالا لأمر الله إذ يقول: (يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصَّادقين)،[١] وقوله -تعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[٢]، ألا فاتَّقوا الله عباد الله واشكروه، وهو الذي أمرنا بالصِّدق في عدَّة آياتٍ، وأثنى على الذين يرعون العهد والأمانات، وأخبر بما لهم من الثَّواب الجزيل.
الخطبة الأولى
الصِّدق عباد اللهخُلُق المسلم، وقد أمر الله بالصِّدق في عدَّة آياتٍ، وبين للصَّادقين أجراً عظيماً، قال -تعالى-: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[٣]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقاً)[٤]، لقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أنَّ الصِّدق غايةٌ، وللصَّادق مرتبةٌ عظيمةٌ؛ أمَّا غاية الصِّدق فهي البرُّ والخير ثمَّ الجنَّة.
وأمَّا مرتبة الصَّادق فهي الصديقيَّة، وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبوَّة، قال -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[٥] وإنَّ الصَّادق لمعتبرٌ بين النَّاس في حياته ومماته؛ فهو موضع ثقةٍ فيهم في أخباره ومعاملاته، وهو موضع ثناءٍ حسنٍ وترحمٍ عليه بعد وفاته.[٦]
والبرُّ اسمٌ جامعٌ لكلِّ خيرٍ وطاعةٍ وإحسانٍ إلى الخلق، والصِّدق عنوان صحة إسلام المرء، وميزان إيمانه، وعلامة على كمال خُلُقه، وإنَّ لصاحبه المقام الأعلى عند الله تبارك وتعالى، فالصادق ينزل منازل الأبرار، وينجو من عذاب القبر وعذاب النَّار، وبالصِّدق يكون العبد معتبراً عند الله وعند الخلق، قال -صلى الله عليه وسلم-: (البيعان بالخيار فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)[٧] ، فالبركة مقرونةٌ بالصِّدق والبيان، والتَّلف والمحق مقرون بالكذب والكتمان، والمشاهدة أكبر شاهد على ذلك والعيان، لا تجد صادقاً إلَّا مرموقاً بين النَّاس بالمحبَّة والثَّناء والتَّعظيم، ولا كذاباً إلَّا ممقوتاً بهذا الخُلُق الأثيم.
الصَّادق يطمئن إلى قوله العدوُّ والصَّديق، والكاذب لا يثق به بعيدٌ ولا قريبٌ، الصَّادق الأمين مؤتمنٌ على الأموال والحقوق والأسرار، ومتى حصل منه كبوة أو عثرة فصدقه يقيه العثار، والكاذب لا يؤمَّن على مثقال ذرَّةٍ، ولو فرض أحياناً لم يحصل به الثِّقة والاستقرار، وما كان الصِّدق في شيءٍ إلَّا زانه، وما كان الكذب في شيءٍ إلَّا شانه، الصِّدق طريق الإيمان، والكذب بريد النِّفاق. [٨]
عباد الله، هذا كعب بن مالك -رضي الله عنه- صدق مع الله ومع رسوله فرفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة فقد صَدَقَ هو ورفاقه الثَّلاثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عدم مرافقته في غزوة تبوك ولم يختلقوا الأعذار كما فعل المنافقون لمَّا تخلَّفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الغزوة.
يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-: (فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ: فَقَالَ لِي: (مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ). فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ))[٩].
لقد وفَّق الله كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم- حينما تميزوا من بين الآخرين بالصِّدق، ولم يختلقوا أعذارًا، وإنَّما تحدثوا بالصِّدق فأعقبهم الله -تعالى- الفلاح كلَّ الفلاح، قال -تعالى-: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[١٠]. هنيئا لهم بالصِّدق الذي نالوا به التَّوبة من الله، يقول عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد بن حنبل: (مَا رَأَيْت أَبِي يَبْكِي قَطُّ إلَّا فِي حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبٍ)، ولقد أمرنا الله بالتأسي بهم، في قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[١١] . [١٢]
إخوتي في الله، انظروا إلى هؤلاء الثَّلاثة الذين صدقوا فأدَّبهم الله بهذا الهجر من رسوله وأصحابه، وانظروا إلى هذا الإيمان التَّام من الصَّحابة، هجروا أقاربهم وأهلهم وأحبتهم، امتثالًا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا ضاقت الحال وتراكمت الكربات، جاء الفرج من الله، فتاب عليهم وأعلنت توبتهم في كتاب الله تتلوها الأمَّة إلى يوم القيامة، أمَّا الذين نافقوا وكذبوا فأنزل الله فيهم: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[١٣][١٤].
عباد الله، المؤمن كامل الإيمان لا يكذب في حديثه؛ لأنَّ الكذب من خصال المنافقين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)[١٥]، المؤمن يصدق في بيعه وشرائه وفي كلِّ معاملاته، يبارك الله له في كسبه ويزيده من خيراته، اللهمَّ تفضَّل علينا بالصِّدق في أقوالنا وأفعالنا وجميع أحوالنا، إنَّك جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ.
أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، الدَّاعي إلى رضوانه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-،أمَّا بعد:
أخوتي في الله، من كان شأنه الكذب، فقد هبط عن رتبة الصَّادقين إلى دَرَك الكاذبين، وسيجرُّه كذبه هذا إلى الفجور، وسيجرُّه الفجور إلى النَّار، فلا تتساهلوا في شأن الكذب فإن قليله يجرُّ إلى كثيره ومن أكثر من شيء عُرِفَ به، فالزموا الصِّدق فإنَّ من لزم الصِّدق نجا.[١٦]
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[١٧]، والصادقون يجدون ثمرة صدقهم يوم القيامة إذا أحلهم الله في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، قال -تعالى-: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[١٨].
ومن ثمرات الصِّدق إخوتي في الله: تفريج الهموم والكربات، وإجابة الدَّعوات، والنَّجاة من المهلكات، وحصول البركة في الأرزاق، وإذا أردتم إخوتي في الله راحةَ الضَّمير وصفاء النَّفس، فكونوا من الصَّادقين، واحذروا طريق الكاذبين.
أيُّها المسلمون، واجبٌ علينا أن نربِّيَ أبناءنا على الصِّدق، وأن نجنِّبَهم الكذب؛ فعن عبد الله بن عامر أنَّه قال: (دعتني أمي يومًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعال أُعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَمَا إنكِ لو لم تعطيه شيئًا، كُتبت عليك كَذِبَةً)[١٩].
ولتحرص أخي المسلم، أختي المسلمة على تحري الصدق مع أبنائكم، لتغرسوا هذا الخُلُقَ في نفوس أبنائكم، ولتؤدبوهم عليه، ولتسيروا بهم في طريق الصَّادقين[٢٠].
الدعاء
- اللهمَّ إنِّا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، ونعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات[٢١].
- اللهمَّ إنِّا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشَّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء[٢٢].
- اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنياي التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلِّ شر.[٢٣]
- اللهمَّ اجعل ألسنتنا لا تنطق إلا بالصِّدق، واكتبنا من الصِّديقين الشهداء.
- اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير ما تعلم به أنت، ولا نعلم به نحن، ونعوذ بك من كلِّ شرٍّ تعلم به أنت ولا نعلم به نحن، ونسألك الثبات والصدق والإيمان والعمل الصالح.
- اللهمَّ إنَّا نسألك الثَّبات في الأمر، ونسألك العزيمة على الخير والرُّشد، ونسألك أن يكون لساني صادقاً وقلبي مطمئناً سليماً.[٢٤]
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأقم الصلاة.
المراجع
- ↑ سورة التوبة، آية:119
- ↑ سورة المائدة، آية:119
- ↑ سورة البقرة، آية:177
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:4071، صحيح.
- ↑ سورة النساء، آية:69
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 512. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن حكيم بن حزام ، الصفحة أو الرقم:2110، صحيح.
- ↑ عبد الرحمن السعدي، كتاب الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات، صفحة 134-135. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن كعب بن مالك، الصفحة أو الرقم:4418، صحيح.
- ↑ سورة التوبة، آية:118
- ↑ سورة التوبة، آية:119
- ↑ خالد الكناني (11/4/2018)، "الصدق والصادقون (خطبة)"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 12/7/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية:95-96
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 511. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:33، صحيح.
- ↑ إبراهيم زكي خورشيد، أحمد الشنتناوي، عبد الحميد يونس وآخرون، كتاب خطب مختارة، صفحة 95.
- ↑ سورة التوبة، آية:119
- ↑ سورة المائدة، آية:119
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، الصفحة أو الرقم:2943، حسن لغيره.
- ↑ مراد سلامة (3/10/2020)، "الصدق مجالات وثمرات"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 12/7/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2706، صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:6616، صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1263، صحيح.
- ↑ ريم بركات (30/6/2020)، "دعاء عن الصدق قصير"، محتويات، اطّلع عليه بتاريخ 12/7/2021. بتصرّف.