خطبة عن الهجرة إلى الحبشة

كتابة:
خطبة عن الهجرة إلى الحبشة


مقدمة الخطبة

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّ سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ونبيُّه وسيِّد البشر، نَشَر الدعوة، وأذِن لأصحابه بالهجرة للحفاظ على دينهم، وصلّى الله على أصحابه وتابعيهم ورضي عنهم وأرضاهم، وجزاهم عنّا خير الجزاء.[١]



الوصية بتقوى الله

عباد الله، اتَّقوا الله فإنَّ التَّقوى هي أساس الأعمال الصَّالحة، وهي تجارة المؤمن الرَّابحة، فتزوَّدوا منها ما استطعتم، واستغفروا الله لذنوبكم التي أسررتهم بها أو أعلنتم، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون).[٢][٣]



الخطبة الأولى

عباد الله، نقف اليوم وإياكم على موضوعٍ مهمٍّ، وهو الهجرة إلى الحبشة، فعندما اشتدَّ اضطهاد الكفَّار للمسلمين، وكان البلاء عليهم عظيمًا، نزلت آيات من سورة الكهف تقصُّ على المسلمين قصَّة الفتية المؤمنين الذين اعتزلوا قومهم، فكان في هذه القصة إرشادٌ لهم لطريق الهجرة حتى يحافظوا على دينهم ودعوتهم، ونزل حينها قول الله -عزَّ وجلَّ-: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).[٤]


وقال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)،[٥] فهذه الآيات تحمل دلالاتٍ واضحةٍ من الله -جلَّ وعلا- على هجرة المؤمنين في حال عجزوا عن إقامة دينهم، وسيجعل الله لهم الأجر العظيم والفرج بعد ذلك.


وعندما رأى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم البلاء الذي أصاب أصحابه من الكفَّار والمشركين وهو غير قادرٍ على منعهم، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكًا، لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه)،[٦] وعندئذٍ خرجت جماعةٌ من المسلمين إلى أرض الحبشة، وكانت بذلك أوَّل هجرةٍ في الإسلام في شهر رجب من العام الخامس من النُّبوَّة، وقد كانوا عشرة رجال وأربع نسوة.


وكان فيهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وزوجته رقيَّة بنت رسول الله -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-، ووضعوا عثمان بن مظعون أميرًا لهم، وخرج بعد ذلك جعفر بن أبي طالب، ثمَّ تتابع المسلمون بالخروج حتى اجتمعوا في أرض الحبشة، ومنهم من خرج وَحْده ومنهم من خرج مع جماعةٍ من أهله، وكان عدد المسلمين الذين خرجوا وهاجرو إلى الحبشة ثلاثةً وثمانين رجلًا.[٧]


أيُّها الإخوة الفضلاء، لم تكن هجرة المسلمين إلى الحبشة من أجل الخلاص من أذى قريش وتعذيبها لهم فقط، إذ كانت هذه الهجرة طريقاً لنشر الإسلام والدَّعوة إليه، وكان فيها تخفيفٌ لهموم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وإذا ما استعرضنا قائمة المهاجرين إلى الحبشة نجد أنَّها تشمل جميع طبقات المجتمع المكِّي آنذاك، ففيها الغنيُّ والفقير، والشَّاب والكبير، والنِّساء والرِّجال، ومعظمهم ينتمون إلى عائلات عريقة من مكَة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّه يدل على شمول دعوة الإسلام وقوتها وشدَّة تأثيرها.[٨]


وعندما عرفت قريش بالأمر ورأت أنَّ المسلمين قد أَمِنوا واطمأنوا في أرض الحبشة، بعثت عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل، وأرسلت معهما الهداياللنجاشيِّ ملك الحبشة وحاشيته، فذهبا إلى النجاشي وقالا له: "إنَّه لجأ إلى بلد الملك منَّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدينٍ مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، فهم أبصر بهم وأقرب إليهم"، فقالت الحاشية من حول الملك: "صَدَقا أيّها الملك، فأسلمهم إليهما".[٧]


غضب النجاشي ورفض الاستماع إلى كلامهما وتسليم المؤمنين الذين لجأوا إليه، ثمَّ دعا المسلمين وسألهم عن دينهم الذي تركوا كل الديانات من أجله وأبوا أن يدخلو في أي دين غيره، فقام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للملك إنَّهم كانوا أهل جاهلية يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة ويأتون الفواحش، ولا يصلون رحمهم ولا يحسنون الجوار.


واستمروا على ذلك حتى بعث الله إليهم رسول الله، وهو منهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدقه وأمانته -صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا-، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان، وأمرهم بصلة الرحم وترك الحرام والدماء، كما أمرهم بالصلاة والصيام والزكاة والصدق والأمانة وذكر له أمور الإسلام.


وأخبره أنّ النبيّ الكريم نهاهم عن الفواحش وقول الزور وأكل مال الأيتام، فصدّقوه وآمنوا معه ولم يشركوا بربهم أحدًا، واتبعوا ما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه، إلا أنَّ قومهم لم يسمحوا لهم بذلك وآذوهم، ولم يسمحوا لهم بممارسة شعائر دينهم، وأرادوا أن يردوهم إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله، فخرجوا إلى الحبشة واختاروا ملكها دونًا عن غيره لِما سمعوا عنه من العدل راجين ألا يُظلموا عنده، فاستمع النجاشيُّ له بكل هدوء ووقار، ثمَّ قال لجعفر: "هل معك ممّا جاء به صاحبكم عن الله من شيء"، فقال له جعفر نعم.


عباد الله، لقد قرأ جعفر -رضي الله عنه- شيئا من سورة مريم حتى بكى النجاشي وبكت معه أساقفته، ثم قال النجاشي: "إنَّ هذا والذي جاء به عيسى، يخرج من مشكاة واحدة"، ثمَّ التفت إلى رَسولَي قريش وقال لهما: "اذهبا فوالله لا أسلمهم إليكم"، وبقي جعفر بن أبي طالب مع مجموعةٍ من أصحابه إلى السَّنة السَّابعة للهجرة، وانتفعوا بها في الدَّعوة إلى الإسلام في بلدٍ قد اشتهر بالتَّسامح وإيواء المظلومين.[٧]


إخوة الإسلام، تعلمنا هذه الهجرة العديد من الدروس والعبر التي تنفعنا في حياتنا، ومنها أنَّ أصحاب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قد انتقلو إلى بلدٍ من الحريَّة والعدل ما يمكِّنهم من ممارسة شعائر دينهم بأمانٍ، وهذا ما يفتح أمام المسلمين مجالًا واسعًا للعمل والحركة، وحكم الهجرة -أيها الفضلاء- يتراوح بين الوجوب والجواز والحرمة، وذلك حسب ما تقتضي الحاجة إليه، فإن لم يستطع المسلم أداء شعائره الإسلاميَّة فتجب عليه الهجرة، وإذا أصاب المسلم البلاء وضيق الحال؛ فيجوز له الانتقال إلى بلد مسلم آخر، أما إن كانت هجرته تجبره على إهمال واجباته الإسلاميَّة فلا يجوز.[٩]


عباد الله، إنَّ الإسلام الذي هاجر المؤمنون من أجله بقي عزيزًا في أرض الحبشة، ومن خلال صدق المسلمين في تعاملهم وصبرهم على ما أصابهم وبفضل وتوفيق الله -تعالى- لهم دخل العديد من أهل الحبشة في الإسلام، ومن أعظم نتائج هذه الهجرة إسلام النَّجاشي ذلك الملك العادل الذي صدَّق المسلمين ولم يستمع للتُّهَم الباطلة التي قيلت فيهم والتي افتعلتها قريش لإيذائهم، وعندما مات النَّجاشي في أرض الحبشة صلَّى عليه رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب، إذ لم يرَ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولم يراه الرسول.[١٠]


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن والاه وتبعه بإحسان إلى يوم الدِّين، إخوة الإسلام، لم تكن هجرة المسلمين إلى الحبشة تنعم بالرَّاحة والتَّلذذ بنعيم الدُّنيا، فقد واجهتهم العديد من المِحن والمصاعب والمخاطر، وكانوا ملتزمين بتعاليم القرآن والدِّين الإسلاميِّ، يحافظون على صلواتهم وعباداتهم.


إخوة الإسلام، لم يتراجع النبي ولا أصحابه عن تبليغ الدعوة رغم كلّ ما تعرّضوا له من الصعوبات والمشاقّ، فقد كانوا يؤمنون دائما أنّ الله معهم، ويوقنون بقرب الفرج، فحريٌّ بنا أن نتذكّر أفضالهم العظيمة، وأن نُصلي على رسولنا وصحابته، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.


الدعاء

يا معشر المسلمين، فلندعو الله -سبحانه وتعالى- في مجلسنا هذا ونسأله القبول والإجابة:[١١]

  • اللهمَّ إنَّا أسألك أن لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا حاجةً من حوائج الدُّنيا إلَّا قضيتها لنا يا ربَّ العالمين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهاب.
  • اللهمَّ إنَّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والسَّلامة من كلِّ إثمٍ، والغنيمة من كلِّ برٍّ، والفوز بالجنَّة والنَّجاة من النَّار.
  • اللهمَّ إنا نسألك لنا ولإخواننا الثَّبات على الإسلام، ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله أن ينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدِّين كلِّه، ولو كره المشركون، والله يقول الحقَّ، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

المراجع

  1. "الخطبة : 0873 - الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة1. حياة النبي قدوة وتشريع لكل البشر - وجوب تناصر المسلمين والتعاون فيما بينهم"، موسوعة النابلسي، اطّلع عليه بتاريخ 1/7/2021. بتصرّف.
  2. سورة آل عمران، آية:102
  3. "الهجرة: دروس وعبر"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 1/7/2021. بتصرّف.
  4. سورة النحل، آية:41
  5. سورة الزمر، آية:10
  6. رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن أم سلمة أم المؤمنين ، الصفحة أو الرقم:3190 ، إسناده جيد.
  7. ^ أ ب ت أبو الحسن الندوي، كتاب السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، صفحة 196-202. بتصرّف.
  8. "الهجرة إلى الحبشة (1/2) أسباب وغايات -أحداث ونتائج"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 1/7/2021. بتصرّف.
  9. سعيد حوَّى، كتاب الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية، صفحة 255-256. بتصرّف.
  10. سليمان بن حمد العودة، كتاب شعاع من المحراب، صفحة 235-236. بتصرّف.
  11. مجموعة من المؤلفين، كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية، صفحة 436. بتصرّف.
5243 مشاهدة
للأعلى للسفل
×