محتويات
خطبة عن الهجرة النبوية
مقدمة الخطبة
الحمد لله حمداً كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الوصية بتقوى الله تعالى
أوصيكم أحبتي في الله بتقوى الله العلي العظيم، ولزوم طاعته، واجتناب نهيه، واتعظوا بقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).[١]
الخطبة الأولى
أيها الإخوة الأكارم، خطبتنا اليوم عن الهجرة النبوية، لقد كانت الهجرة النبوية منعطفاً مهماً في تاريخ الإسلام، ولعلّه المنعطف الأكبر في هذا التاريخ، ففيه تحول الإسلام من دعوة وفكرة إلى دولة، وأصبح للفكرة قوة تحميها، وطاقة لنشرها بطريقة مؤسسية، وتحولت من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين.
أيها الأحبة، لقد كانت الهجرة إلى يثرب بعد أن استنفد النبي -صلى الله عليه وسلم- كل الوسائل الممكنة لهداية مشركي مكة، ولإقامة الدولة في مكة، ولقد سبق الهجرة إلى يثرب محاولة لعرض الإسلام على الطائف ليحموا الدين قوبلت بأبشع رد، كما حاول النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض دينه على القبائل التي تفد إلى مكة في مواسم الحج، ولكن دون استجابة محاولات الصد القرشية.[٢]
ولما أراد الله -سبحانه وتعالى- لدينه أن يظهر فيض للإسلام ستة شباب من أهل يثرب، قابلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرض عليهم الإسلام فشرح الله -عز وجل- صدورهم له، فواعدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الموسم القادم، فعاد الستة اثنا عشر، فبايعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا العام التالي ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ليبايعوا بيعة العقبة الثانية، ولتبدأ رحلة الهجرة.[٢]
أيُّها الأحباب، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة إلى يثرب، فخرجوا أفراداً وجماعات متخفّيين على الأغلب، ولم يبقَ إلا هو وبعض المسلمين على رأسهم أبو بكر -رضي الله عنه-، وقد كان يستأذن للخروج، ويأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- للبقاء لعل الله يجعل له صاحبا.[٢]
إذ لاحظ المشركون هجرة المسلمين فتآمروا لقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يلحق بأصحابه ويجمع من حوله القوة، (وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا لِيُثبِتوكَ أَو يَقتُلوكَ أَو يُخرِجوكَ وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيرُ الماكِرينَ)،[٣]ولكنّ الله -سبحانه وتعالى- ينجي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويخرجه من بين أيديهم.[٢]
يا معاشر المسلمين، إنّ الناظر في أحداث الهجرة يتعلم دروس التوكل بأوضح صورها، حيث الإعداد الكامل للوسائل الدنيوية، يرافقها الاعتماد التام على الرب -عز وجل-، ومن الإعداد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ليخبره بالتجهز للهجرة في وقت الظهيرة الذي يندر فيه الحركة في مكة، حتى لا يلاحظ الحركة أحد، ومن إعداد الخطة فقد جهز أبو بكر راحلتين لهذا الغرض.[٢]
وعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته لتبدأ رحلة الهجرة ليلاً، ولكن قريشاً تطوق البيت النبوي بأحد عشر رجلاً من كل قبائل مكة، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لينام في فراشه ويلبس بردته ليوهم المحاصرين أنه ما زال في فراشه -وهذا من الإعداد-.[٢]
ولكن كيف له أن يخرج من بينهم؟ وهنا يظهر كامل الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- عند انقطاع الأسباب المادية، فيخرج من بينهم وهو يذرو على رؤوسهم التراب فقد أخذ الله -سبحانه وتعالى- أبصارهم عنه فلم يشاهدوه.[٢]
ومن الإعداد أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استأجر أعرف الناس بالصحراء -عبد الله بن أريقط- ليدلهما على الطرق المختصرة والتي لا يسلكها الناس، ومن الإعداد أنه اتجه جنوباً بدل اتجاه يثرب الفعلي وهو الشمال، ومن الإعداد أنه انتظر ثلاثة أيام في غار ثور حتى يخف الطلب عنهم.[٢]
ومن الإعداد أنه أمر عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- وكان شاباً صغيراً لا يُشَك به أن يبيت عندهما ويصبح في مكة فيأتيهم بأخبار الطلب، ومن الإعداد أن عامر بن فهيرة -وهو مولى لأبي بكر- كان يأتيهما بغنمه في العشاء فيأخذا من حليبها، ثم يتبع عامر بغنمه آثار عبد الله بن أبي بكر فيمحوها.[٢]
أيُّها الإخوة، وبالرغم من كل تلك الإعدادات إلا أن قريشاً وصلت إلى باب الغار، ويصف لنا المشهد أبو بكر -رضي الله عنهما الخائف على النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)،[٤]وهنا تتجلى قمة الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- مرة أخرى.[٢]
وبعد أن خف الطلب عنهما بعد ثلاثة أيام، يخرج -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ودليلهما في طريقهما إلى يثرب، حيث أخذهما في رحلة غير معتادة.[٢]
وبينما هم في الطريق، إذ يلحقهما سراقة بن مالك يريد أن يظفر بالجائزة التي أطلقتها قريش، وكانت مئة من الإبل عن كل واحد منهما، فلما اقترب منهما تعثرت فرسه مرة ثم ساخت أقدامها في الرمال في المحاولة الأخرى، ثم جاءت ريح بدخان فأيقن عندها أنه لن يظفر بهما، فطلب الأمان فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب له بأمان، وقيل كتب له بسواري كسرى.[٢]
أيُّها الإخوة الأفاضل، استمر الركب الكريم بالمسير تحوطهم عناية الله -سبحانه وتعالى- حتى وصلوا إلى قباء وكان ذلك 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة- وهي السنة الأولى من الهجرة-، فمكث هنالك بضعة أيام، ثم توجه إلى يثرب لتسمى عندها بالمدينة المنورة لمقدمه -صلوات ربي وسلامه عليه-.[٢]
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد:
إنّ الهجرة النبوية هي اللحظة التاريخية التي تحول فيها الإسلام من الفكرة إلى الدولة، وهذا ما دعا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليجعل التاريخ الإسلامي مرتبط بها.
ولقد تجلت في هذه الرحلة دروس التوكل على الله -سبحانه وتعالى- بأكمل وجوهها، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يأخذ بكل الوسائل المادية المتاحة، وهو معتقد أن كل تلك الوسائل لا تعمل إلا بأمر ربها -سبحانه وتعالى-، ولقد رأينا مكافأة الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- عندما تضيق السبل، وكأنها رسالة لكل مسلم، أن اعمل بكل طاقتك وانتظر مدد الله -سبحانه وتعالى- على جهدك.
الدعاء
- اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه يا أكرم الأكرمين، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا ربّ العالمين.
- اللهم اجعلنا من عبادك المتوكلين عليك المعتمدين عليك في كل شؤونهم، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر.
- اللهم اجعلنا من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين يطبقون سنته في كل صغيرة وكل كبيرة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.