خطبة عن بر الوالدين بعد وفاتهما

كتابة:
خطبة عن بر الوالدين بعد وفاتهما

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي جعل القرآن تبياناً لكلِّ شيء، وهدىً ورحمةً للمؤمنين، وجمع فيه أصول الدين وفروعه، وأصلح به الدنيا والدين، والحمد لله الذي عظّم قدر الوالدين، فجعل للإحسان إليهما أجراً عظيما، وجعل برَّنا بوالدينا يمتدُّ إلى ما بعد موتهما، ونشهد أنْ لا إله إلا الله الملك الحقُّ المبين، وأن محمداً عبده ورسوله، أكمل الخلق وسيد المرسلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.[١]

الوصية بتقوى الله

عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله، ولُزوم طاعته، وإقامة ما أوجبه عليكم من حقّه وحُقوق عباده، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[٢]

الخطبة الأولى

عباد الله، سنتكلم في هذه الخُطبة المُباركة عن برِّ الوالدين بعد موتهما، فاعلموا أنَّ برّ الوالدين من أفضل العبادات، وهو واجبٌ من الواجبات، وفريضةٌ من أعظم الفرائض والطاعات، ولعِظم برِّ الوالدين؛ فقد قرنه الله -تعالى- بتوحيده وعبادته.

وقد ربط الله بين شُكرهما وشكره في العديد من آيات القُرآن الكريم، قال -تعالى-: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا).[٣]


إخوتي في الله، إنّ البرّ في حياة الوالدين جِماعٌ لِكُلِّ خير، فهو من الإحسان بهم، وينال به الإنسان الفضل والرفعة، ولذلك كان أيضاً بعد وفاتهما من أرفع وأنفع الطاعات والبرّ بهم؛ إذْ يكونان بحاجته أكثر، ويكون البر الواصل إليهما نفعه أعظم؛ لأن الإنسان يتوقَّف عمله ورصيده بمجرد انتهاء أجله؛ إلا من صدقة جارية، ومنها الولد الصالح.

عباد الله، إنّ أغلى شيءٍ يُهديه الولد إلى والديه بعد وفاتهما هو الحسنات والأجر، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له)،[٤] فالولد الصالح وما يقوم به من عملٍ صالح هو امتدادٌ لعمل والديه الذي توقّف عملهما، وهو من الصدقات التي يجري أجرها للعبد بعد موته.[٥]

وبرّ الوالدين بعد موتهما فرصةٌ؛ فليتدارك كلّ واحد منا ما قصَّره في حقِّ والديه، فيبرّهما دائماً في حال حياتهما، فهي والله فرصةٌ لمن أساء إلى والديه أو عقَّهما، أما البرّ بعد موتهما فهو فرصةٌ للتوبة، والتكفير عن التقصير أو العقوق في جانبهما، وهذا من فضل الله -تعالى- علينا وعلى أبنائنا وآبائنا.

وقد وردت عدة صور لبرّ الوالدين بعد موتهما في حديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، إلا أنه يؤخذ بما جاء فيه بفضائل الأعمال -مع كون المحدّثين قد ضعّفوه-، ففي الحديث: جاء رَجُلٌ من بَنِي سُلَيمٍ فقال: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمِ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا).[٦]

ومن صور البرّ الواردة في الحديث؛ الصلاة عليهما والاستغفار لهما؛ والصلاة هُنا تأتي بمعنى الدُعاء، فيُكثر المسلم من الدُعاء لوالديه بكُلِّ خير؛ كالتوسعة عليهما في قبورهما، وأنْ يكون روضةً من رياض الجنة، وأن يرفع الله -تعالى- درجتهما، ويتقبَّل ما قدموه من أعمالٍ صالحةٍ في حياتهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، إلى غير ذلك من الأدعية النافعة لهم.[٥]

والاستغفار لهم؛ فيكون بطلب العفو والمغفرة من الله -تعالى- لهم، وهو دُعاء الأنبياء -عليهم السلام- لوالديهم، كقول نوح -عليه السلام-: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).[٧]

وعدّ النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- الدُعاء للوالدين من علامات صلاح الولد، وينتفع الوالدان بهذا الدُعاء فتُرفع درجتهما في الجنة -بإذن الله-، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ).[٨]

أمّا صفة إنفاذ عهدهما؛ فقد ذهب أهل العلم إلى أنَّ المُقصود به الوصية، ويدخل في العهد: إذا كان الوالدين أو أحدهما قد عَهِد بالإحسان إلى غيره، مثل كفالة يتيم أو صدقات معلومة، فيحرص الأبناء على تنفيذ عهدهما، ما لم يكن إثماً أو أمراً فيه معصية.[٥]

واعلموا أنّ صلة الرحم من الواجبات، ولكنها تكون أوجب بعد وفاة الوالدين أو أحدهما، وهذه الرحم تشمل الأعمام والعمات وأبناءهم، والأخوال والخالات وأبناءهم، ومن باب أوْلى الإخوة والأخوات، وبصلتهم ينال الإنسان أجر الصلة، وأجر برّ والديه بعد موتهما.[٥]

أمّا صفة إكرام صديقهما؛ فتكون بصلة الابن لأصدقاء أبيه، وكذلك البنت بزيارة وصِلة أصدقاء والدتها، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (فَقالَ عبدُ اللهِ: إنَّ أَبَا هذا كانَ وُدًّا لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- يقولُ: إنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ)،[٩] ومن صور برِّ الوالدين بعد موتهما؛ قضاء ديونهما ونذرهما والكفارات التي وجبت في حقهما، والصدقة عنهما.[٥]

قال النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقالَ: لو كانَ علَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى).[١٠]

ومن صور برِّ الوالدين بعد موتهما -إخواني الأفاضل-؛ الصدقة والحج والعمرة عنهُما، وأفضل الصدقات ما كان جارياً منها إلى ما بعد الموت؛ كتوزيع المصاحف عنهم، أو حفر الآبار، وطباعة الكُتب النافعة عنهم، وكذلك الدُعاء لهم؛ فالدُعاء من أكبر أسباب النجاة.[١١]

ومما ثبت من الأحاديث في الصدقة عن الوالدين بعد وفاتهما حديث النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أنَّ امْرَأَةً جاءَتْ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فَماتَتْ قَبْلَ أنْ تَحُجَّ، أفَأَحُجَّ عَنْها؟ قالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْها، أرَأَيْتِ لو كانَ علَى أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنْتِ قاضِيَتَهُ؟، قالَتْ: نَعَمْ، فقالَ: اقْضُوا اللَّهَ الذي له، فإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بالوَفاءِ).[١٢][١١]

وبارك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، وسُنّة نبيه الكريم، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على أشرف الخلق والمُرسلين، سيدنا مُحمدٍ وعلى آله وصحابته والتابعين، أمّا بعد:

عباد الله، إنّ من عظيم برِّ الوالدين أنّ الله -تعالى- قرن برَّهما وشُكرهما بعبادته وشُكره في العديد من الآيات، ولا ينتهي برّ الوالدين بوفاتهما، فقد بيَّنت الأدلّة الكريمة أنّ هذا البرَّ يمتدُّ إلى ما بعد وفاتهما، وهذا من فضل الله -تعالى- عليهما.[١٣]

ومِن أهمّ صور برِّهما بعد وفاتهما: الدُعاء لهما، والاستغفار لهما، فالولد الصالح من الأعمال التي لا ينقطع ثوابها بعد موت والديه، وكذلك قضاء ديونهما إن كان عليهما ديون، ووفاء برِّهما؛ كنذر الصيام، أو الحج أو العمرة، وغَير ذلك من النُذور، وكذلك الإسراع في تنفيذ وصيتهما؛ إبراءً لذمتهما، وابتغاء الأجر لهما، والأفضل أن تُنفَّذ قبل دفنهما.[١٣]

وذكرنا كذلك أنّ الصدقة عنهما بجميع أنواع الصدقات بعد وفاتهما من صور البرّ، وكذلك قضاء صيام رمضان عنهما إن كان عليهما قضاء، وصلة رَحِمِهما التي لا تُوصل إلاَّ بهما، وإكرام صديقهما بعد وفاتهما، وكذلك الاعتراف بفضلهما والثناء عليهما.[١٣]

الدعاء 

  • ربنا اغفر لنا ولوالدينا.
  • ربنا ارحمهما كما ربَيانا صغاراً.
  • اللهم وفقنا لبرِّهم في حياتهم وبعد مماتهم.
  • اللهم آتنا في الدُنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا واصرف عنا عذاب النار.
  • اللهم إنّا نسألك الهُدى والتُقى، ونسألك العفاف والغنى، ونعوذ بك من الكُفر والفقر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ فتنة المسيح الدجال.
  • اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا.
  • اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، وارزقنا الجنة بغير حساب ولا عذاب، إنك أنت العزيز الوهاب.

عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم، سبحان ربّك ربِّ العزّة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المراجع

  1. عبد الرحمن السعدي (1991)، الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات (الطبعة 1)، صفحة 28، جزء 1. بتصرّف.
  2. سورة النساء، آية:1
  3. سورة الإسراء، آية:23
  4. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، صحيح.
  5. ^ أ ب ت ث ج "بر الوالدين بعد موتهما "، طريق الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 2/3/2022. بتصرّف.
  6. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 5142، ضعّفه الألباني.
  7. سورة نوح، آية:28
  8. رواه ابن ماجه، في سنن ابن ماجه، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 3660، حسنه الألباني.
  9. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:2552، صحيح.
  10. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1148، صحيح.
  11. ^ أ ب حسين أحمد عبدالقادر، "موارد الخير لبر الوالدين بعد الموت"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 2/3/2022. بتصرّف.
  12. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس ، الصفحة أو الرقم:7315، صحيح.
  13. ^ أ ب ت محمود بن أحمد الدوسري، "بر الوالدين بعد وفاتهما"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 2/3/2022. بتصرّف.
4853 مشاهدة
للأعلى للسفل
×