خطبة عن بر الوالدين ليوم الجمعة

كتابة:
خطبة عن بر الوالدين ليوم الجمعة

مقدمة الخطبة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الّذي أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام، والحمد لله الّذي جعل ذلك من أسباب مرضاته والخلود في دار الكرامة والسلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.[١]


الوصية بتقوى الله

عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، فتقوى الله هي سبيل النجاة يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).[٢]


المقدمة الأولى

أيُّها الإخوة الأفاضل، حديثنا اليوم عن نوع من أنواع البر، نوعٌ يغفل عنه كثير من الناس، ألا وهو بر الوالدين، فقد قرن الله -سبحانه وتعالى- برهما بعبادته؛ فقال في محكم كتابه العزيز: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا).[٣]


أيُّها الأكارم، إن بر الوالدين من أعظم القُربات، وأجلّ الطاعات، وأرفع العبادات التي أمرنا الله-تعالى- بها، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بر الوالدين مُقدمًا على الجهاد في سبيل الله؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ).[٤] وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل استأذنه في الجهاد: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، ففيهما فجاهد).[٥][٦]


معشر المسلمين، لبر الوالدين صورة كثيرة؛ منها حسن الاستماع إليهما، وخفض الصوت عند الحديث معهما، والرّفق بهما وجبر خواطرهما، والبحث عن رضاهما وتحصيل ما يحبَّانه،[٧] فعن أبي هريرة -رضي الله عن- أنه أبصر رجلين، فقال لأحدهما: "هذا منك؟ قال: أبي، قال: لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله".[٨]


يقول الشاعر:[٩]

تحـرَّ بـرَّ الوالدَين فإنه ... فرضٌ عليك في سرٍّ وإعلانِ

عَلَيكَ بِبرِّ الوَالِدَينِ كِلَيهِمَا ... وَبِرِّ ذَوِي القُرْبَى وَبِرِّ الأَباعِدِ


أيُّها الأحبة في الله، برالوالدين خُلق الأنبياء، ودأب الصالحين، وقد ضرب إسماعيل عليه السلام- المثل الأعلى في البر حينما استسلم لأمر الله تعالى، ثم لأمر أبيه، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)،[١٠] كما أثنى الله -عز وجل- على نبيه يحيى- عليه السلام- لأنه كان بارًا بوالديه، قال-تعالى-: (وَبَرًّا بِوالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبّارًا عَصِيًّا).[١١][١٢]


إخوتي الكرام، إن بر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة؛ فعن أبى الدرداء -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول-: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضع ذلك الباب أو احفظه)،[١٣] وعن معاوية بن جاهمة -رضي الله عنهما- أن جاهِمةَ جاءَ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فقالَ: (يا رسولَ اللَّهِ ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها).[١٤]


كما أنَّ بر الوالدين سببٌ في تفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر؛ فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).[١٥][٦]


عباد الله، فلنحدر من عقوق الوالدين؛ فإنَّ العقوق من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله -عز وجل-، فعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: (جاءَ أعْرابِيٌّ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما الكَبائِرُ؟ قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ. قالَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الوالِدَيْنِ)،[١٦] فالعقوق-أيها الأحبة- له صورمتعددة؛ فعن سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ كَعْبًا -رضي الله عنه- عَنِ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فقَالَ: "إِذَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لَمْ يَبَرَّهُ، وَإِذَا سَأَلَهُ لَمْ يُعْطِهِ، وَإِذَا ائْتَمَنَهُ خَانَ، فَذَلِكَ الْعُقُوقُ".[١٧][١٨]


ولعظم إثم عقوق الوالدين، فإنَّ الله تعالى يُعجَّل عقوبة العقوق لصاحبه في الدنيّا قبل الآخرة؛ فقد روي عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: (مَا من ذَنبٍ أَجدرُ أن يُعَجَّلَ لصاحبِه العُقوبةُ مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ، من البَغي و قَطيعةِ الرَّحِمِ)،[١٩] ومن عقوبة عقوق الوالدين استجابة دعوة الوالد على ولده العاق؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثُ دعَواتٍ مستجاباتٌ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ).[٢٠]


معاشر المسلمين، قيل أن شابًا عاقًا كان يضرب والده، فأقسم الوالد بالله مجتهدا ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده حتى انتهى بأستار الكعبة، وصار يقول:[٢١]


يامن إليه أتى الحجاج قد قطعوا .. أرض التهامة من قرب ومن بعد

إني أتيتك يا من لا يخيب من ... يدعوه مبتهلا بالواحد الصمد

هذا منازل لا يرتد عن عققي ... فخذ بحقي يا رحمان من ولدي‌

وشل منه بحول منك جانبه ... يا من تقدس لم يولد و لم يلد

وتصعد الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، فيُيبس شق ولده الأيمن ليصبح يابساً بسبب دعاء أبيه عليه.


اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا في حياتهم وبعد مماتهم يا رب العالمين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو السميع المجيب.


المقدمة الثانية

الحمد لله الّذي أوجب على الأولاد طاعة الوالدين وأمر بأداء حقهما، والاعتراف بفضلهما، والدعاء لهما، وأوصى بهما إحسانًا وخيرًا، وجعل ذلك سببًا للسعادة في الدنيّا والآخرة، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [٢٢]


أيها الأحبة في الله، دعونا ننظر في حالنا مع والدينا، هل قمنا بما يجب لهم علينا من صلة؟ هل شرحنا الصدورعند لقائهم؟ هل أطلقنا الوجوه لهم؟ هل ألنا لهم الجانب؟ هل دعونا لهم؟ هل زرناهم في صحتهم؟ هل عدناهم في مرضهم؟ عباد الله، دعونا من هذه اللحظة نعاهد أنفسنا بأن نبذل كل ما في وسعنا لبر والدينا، وأن نحرص على إرضائهم، وأما من فُجع بفقد والديه أو أحدهما، فإن بر الوالدين لا ينقطع بموت الآباء والأمهات بل يستمر؛ وذلك من خلال الدعاء لهما، والإحسان إلى أصدقائهما، والصدقة عنهما، وصلة رحمهما.[١]


جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ عليَّ من برِّ أبوي شيءٌ بعد موتهما أبرُّهما به؟ قال: (نعم، خصالٌ أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلا مِن قِبَلِهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما)،[٢٣] وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).[٢٤]


يقول الشاعر:[٢٥]


زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنّنى بك قد نقلت إليهما

بشراك لو قدّمت فعلا صالحا ... وقضيت بعض الحقّ من حقّيهما

وقرأت من آى الكتاب بقدر ما ... قد تستطع وبعثت ذاك إليهما

لو كنت حيث هما وكانا فى البقا ... زاراك حبوا لا على قدميهما

ما كان ذنبهما إليك فطالما ... منحاك صفو الودّ من نفسيهما

كانا إذا ما أبصرا بك علّة ... جزعا لما تشكو وشقّ عليهما

كانا إذا سمعا أنينك سيّلا ... دمعيهما أسفا على خدّيهما

فلتلحقنّهما غدا أو بعده ... حتما كما لحقا هما أبويهم


الدعاء

معاشر المسلمين، ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة:[٢٦]

  • اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارزقنا برهم أحياء وأمواتا، اللهم تجاوز عن تقصيرنا في برهم، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
  • اللهم اجعلنا من الأبناء البررة ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا اللهم إنا نعوذ بك من العقوق، اللهم من كان حيا من آبائنا وأمهاتنا فمتعه بالصحة والعافية وزيادة الطاعة، وفرّج همه وغمه، ومن كان ميتا فاغفر له وارحمه واجعل قبره روضة من رياض الجنة.
  • اللهم اجعلنا من الأبناء البررة، واجمعنا مع والدينا في جناتك جنات النعيم يا أرحم الراحمين.
  • ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
  • ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخر حسنة، وقنا عذاب النار.
  • اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.


عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المراجع

  1. ^ أ ب ابن عثيمين، الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 502. بتصرّف.
  2. سورة الأحزاب، آية:70-71
  3. سورة الإسراء، آية:23
  4. رواه الألباني، في سنن النسائي، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:609، صحيح.
  5. رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبدالله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:318.
  6. ^ أ ب أزهري أحمد محمود، بر الوالدين، صفحة 11. بتصرّف.
  7. إبراهيم الحميضي (15-1-2018)، "برالوالدين"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 10-8-2021. بتصرّف.
  8. ابن الجوزي، بر الوالدين، صفحة 3.
  9. عبد العزيز السلمان، مجموعة القصائد الزهديات، صفحة 53.
  10. سورة الصافات، آية:102
  11. سورة مريم، آية:14
  12. عبدالرحمن السديس (2-2-2014)، "بر الوالدين"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 10-8-2021. بتصرّف.
  13. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أبو الدرداء، الصفحة أو الرقم:1900، صحيح.
  14. رواه الألباني، في سنن النسائي، عن معاوية بن جاهمة السلمي، الصفحة أو الرقم:3104، حسن صحيح.
  15. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2557، حدبث صحيح.
  16. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:6675، حديث صحيح.
  17. السيوطي، الدر المنثور في التفسير المأثور، صفحة 267.
  18. عبدالله قرعاوي (7-3-2011)، "بر الوالدين وتحريم عقوقهما"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 10-8-2021. بتصرّف.
  19. رواه الألباني، في سنن أبي داود، عن أبو بكرة نفيع بن الحارث، الصفحة أو الرقم:4902، صحيح.
  20. رواه الألباني، في سنن الترمذي، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:3448، حسن.
  21. علي القرني، دروس للشيخ علي القرني، صفحة 24.
  22. سورة العنكبوت، آية:8
  23. رواه الألباني، في سنن أبي داود، عن مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي، الصفحة أو الرقم:5142.
  24. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1631، حديث صحيح.
  25. زين الدين ابن الموفق، مرشد الزوار إلى قبور الأبرار، صفحة 54.
  26. سليمان السلامة (18-2-2014)، "بر الوالدين"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 10-8-2021.
15442 مشاهدة
للأعلى للسفل
×