مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فهو المهتد، ومن يُضلل فلن تجد له وليَّاً مرشداً، وأُصلّي وأُسلّم على الرسول المصطفى الذي بلّغ الرسالة، وعلى أصحابه الذين ضحّوا بمالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.[١]
الوصية بتقوى الله
أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله -تعالى- حقَّ تقاته، وراقبوه في السِّرِّ والنَّجوى، وامتثلوا أوامره في الشدَّة والرَّخاء، وآمنوا برسالة نبيِّه المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم-،[٢] يقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}،[٣] ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.[٤][٥]
الخطبة الأولى
عباد الله، إنَّ سيرة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خير هديٍ للمسلمين، وقدوة للصَّالحين والأخيار؛ فهي زاخرةٌ بالعلم والحكمة والإيمان، وهي سيرةٌ تمتلئ بالصَّبر واليقين والثَّبات، حملت الرَّحمة والحلم والبرَّ والإحسان والفضل، وسيرة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيها ثلاثة وعشرون عامًا من تفاصيل دعوة رسول الله إلى الدِّين الإسلاميِّ، وتبليغه لشريعة المولى جلّ جلاله، فلم يترك المصطفى بابًا للخير إلَّا وبيَّنه للنَّاس، وهداهم إلى سبيل الرُّشد، فصلَّى الله على نبيّه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
ولعلَّ أبرز ما يُشعر المسلمين بتضحية رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو ما لاقوه من تعبٍ وما بذلوه من جهدٍ، وأعظم ذلك ما بذلوه في شهر رمضان المبارك، والذي أسماه -تعالى- يوم الفرقان؛ يوم التقى الجمعان، فيوم بدر هو يومٌ أعزَّ الله فيه جنده، ونصر فيه عبده، وأُذلَّ فيه من عاداه، ورفع راية الإسلام، فقد خاض رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا اليوم مع أصحابه -رضوان الله عليهم- بثباتٍ وإيمانٍ ويقينٍ، ونصرهم الله وأيَّدهم، حيث كانوا ثلاثمئة وأربعة عشر رجلاً، وهم أحبُّ أهل الأرض إلى ربِّهم آنذاك.[٦]
فيوم بدر هو حدثٌ تاريخيٌّ ينبغي للمسلم أن يقف عنده ولا يتجاوزه، فيستلهم منه المواعظ والعبر؛ حيث إنه أعظم أيَّام التَّاريخ الإسلاميِّ، حمل الكثير من العِبر والدُّروس والقِيَم، وأبرزها إعلاء كلمة الله -تعالى-، وتخليد رسالته، فقد كتب الله -تعالى- في ذلك اليوم العزَّة للإسلام والمسلمين، ومن أبرز العِبر أيضاً أنَّ الصَّبر مفتاحٌ للفرج؛ وهو مفتاحٌ للخير.
عباد الله، من يتوكَّل على الله ويصبر سينال من الله النَّصر والغلبة في أمره، فبعد كلِّ عسرٍ يسر، وعاقبة الصَّبر هو الثواب العظيم والخير الجزيل، قال الله -تعالى-: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}،[٧] واتَّبع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصيَّة مولاه، فجازاه على صبره وثباته خير الجزاء، فأقرَّ بالنَّصر عينه، وهذا ما وعده به الله -تعالى-، حيث قال سبحانه: {بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا}،[٨] فمن ضاقت عليه دنياه، واستحكم عليه الأمر، وصُبَّ عليه الضِّيق والضَّنَك، وصبر لأمر الله واستبشر به خيرًا، فإنَّ الله لن يخذله، وله العاقبة الحسنة لصبره.[٦]
فعاقبة الصَّبر هي الخير، ويروي أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (أنَّ ناسًا مِن الأنصارِ سألوا رسولَ اللهِ فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفِدَ ما عندَه، قال: ما يكونُ عندي مِن خَيرٍ، فلن أَدَّخِرَه عنكم، ومَن يَسْتعفِفْ يُعِفَّه اللهُ عزَّ وجلَّ، ومَن يصبِرْ يُصبِّرْه اللهُ، وما أُعطِيَ أحَدٌ عَطاءً هو خَيرٌ وأوسَعُ مِن الصبرِ)،[٩] فالصَّبر هو سعةٌ للدُّنيا، وهو الذي يبعد الغموم والهموم والأحزان، وهي الذي يطيب به العيش، ويطمئن به القلب، وترتاح إليه النَّفس، وصدق الفاروق إذ قال: "وجدنا ألذ عيشنا بالصبر". ومن نفحات بدر أنَّ التَّقوى سبيلٌ للنَّصر، وطريقٌ للفلاح، فبالثبات والصَّبر وحسن الإيمان والتَّقوى أنزل الله ملائكة من عنده لنصر المؤمنين.[٦]
أيها النَّاس، إنّ من أسباب النَّصر في غزوة بدر الكبرى تآلف القلوب وتراحمها؛ فقد كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ومن معه من المؤمنين قليلي العدَّة والعدد، إلَّا أنَّ الرَّحمة والصَّفاء والمحبَّة كانت تجمعهم، فكانوا متآلفين متراحمين فيما بينهم، يجمعهم شعار "لا إله إلَّا الله"، ومحبَّة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فسبحان الذي أغناهم ورفعهم وأعزَّ قدرهم!
أيها المسلمون، إنّ تكاتف المسلمين وتعاونهم سبيلٌ لنصر المؤمنين، وطريقٌ لعزَّة الأخيار، فمتى كان المسلمون متعاطفين ومتآلفين فيما بينهم فإن النَّصر حليفهم، ومتى كانوا متقاطعين لا يجتمعون على أمر فإن أمرهم في شتات. أيها الأخوة، إنَّ الذي ينظر في غزوة بدر الكبرى؛ يستلهم منها مواقف الرِّضا والمحبَّة من أصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، حيث كانوا يجتمعون تحت راية رسول الله لا يخالفونه في رأيٍ، ولا يتَّبعون قولًا غير قوله، ولا يتقدَّمون عليه، ولا يؤخِّرون أمرًا قد أمر به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.[٦]
وقدأيَّد الله -تعالى- المسلمين بمعجزاتٍ أثناء المعركة، منها تأييدهم بالملائكة، ومقاتلتهم مع المسلمين، وقد قُتل في أثناء المعركة العديد من رؤوس الكُفر، ومن المعجزات التي أيَّد الله بها المسلمين بعد انتهاء المعركة؛ سماع المشركين لكلام رسول الله وخطابه وهم أموات في القليب، وهذا ما أخرجه البخاري من حديث أبي طلحة -رضي الله عنه-: (أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَ يَومَ بَدْرٍ بأَرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ رَجُلًا مِن صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيٍّ مِن أطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ،... ثُمَّ مَشَى واتَّبَعَهُ أصْحَابُهُ، وقالوا: ما نُرَى يَنْطَلِقُ إلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حتَّى قَامَ علَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بأَسْمَائِهِمْ وأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، ويَا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسولَهُ؛ فإنَّا قدْ وجَدْنَا ما وعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)؟![١٠][١١]
وفي الحديث يسأل عمر -رضي الله عنها- الرسول: (يا رَسولَ اللَّهِ، ما تُكَلِّمُ مِن أجْسَادٍ لا أرْوَاحَ لَهَا! فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، ما أنتُمْ بأَسْمَعَ لِما أقُولُ منهمْ. قَالَ قَتَادَةُ: أحْيَاهُمُ اللَّهُ حتَّى أسْمعَهُمْ قَوْلَهُ؛ تَوْبِيخًا، وتَصْغِيرًا، ونَقِيمَةً، وحَسْرَةً، ونَدَمًا).[١٠]
فسلامٌ على أصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قالوا: "يا رسول الله: امض لما أمرك الله، وصل حبال من أردت، واقطع حبال من شئت، فإنا سِلمٌ لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، وخذ من أموالنا ما شئت، والله ما أخذت منها أحب إلينا مما تركت". سلامٌ عليهم من الله ورحمات وقد قال -تعالى- فيهم: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}".[٦] وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظَّالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيُّها النَّاس، إنَّ غزوة بدرٍ من أعظم الغزوات؛ لما كان لها من أثرٍ في إظهار الحقِّ وإعلاء كلمة الإسلام، ورسم الخطِّ الفاصل بين الحقِّ والباطل؛ ولأنَّ الذي جمع المسلمين هو الإيمان بالله وحده وليس القَبليَّة ولا العصبيَّة، وقد أيَّد الله -تعالى- المسلمين برحماته، كإنزال المطر عليهم، وجعل كلَّ فريقٍ يرى الفريق الآخر قليلًا، فقد قلَّل الله المشركين في أعيُن المسلمين، وكذلك قلَّل المسلمين في أعيُن المشركين لحكمةٍ ارتضاها -تعالى-، وألقى الله -تعالى- النُّعاس على المؤمنين؛ رحمةً منه وفضلًا عليهم.[١١]
وقد حملت الغزوة العديد من الدُّروس والعبر؛ منها أنَّ النَّصر من الله -تعالى-، وهذا يُعلِّم المؤمن أن يتوكَّل ويعتمد على الله -تعالى- وحده، وأنَّ البراء والولاء من الإيمان، وحقيقة النَّصر هي الإيمان بالله -تعالى- وحده، وكذلك أنَّ الدُّعاء من أعظم أسباب النَّصر، كما أنَّ النَّصر يحتاج إلى صدقٍ وإخلاصٍ ويقينٍ بالله -تعالى-.[١١]
الدعاء
هلمّوا بنا إخوتي في الله نرفع أكفّ الدعاء، وندعوه متضرّعين خاشعين:[١٢]
- اللهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم واهدهم سبل السَّلام، وأخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وجنِّبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم ما أبقيتهم.
- اللهمَّ انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين وأظهر الهدى ودين الحقِّ الذي بعثت به نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- على الدِّين كلِّه، اللهمَّ عليك بأعداء الإسلام والمسلمين، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السُّوء وأنزل بهم بأسك الذي لا يُردّ على القوم المجرمين.
- اللهمَّ مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم، ربنا أعنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، ربَّنا اجعلنا لك شاكرين مخبتين أوّاهين منيبين، ربَّنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبت حجّتنا واهدِ قلوبنا وسدِّد ألسنتنا واسلل سخائم صدورنا.
- اللهمَّ يا فاطر السموات والأرض أسبغ على رسولك وصحابته رحماتك، وبوِّئهم المنازل العلا في الجنَّات، واجمعنا معهم مع الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأبناء والبنات، يا مصلح الأحوال والشؤون.
- اللهمَّ انصرنا بالإسلام وانصر الإسلام بنا، واجعلنا ممَّن يحمل همَّ هذا الدِّين ونشره، وارزقنا الشَّهادة تحت رايته مقبلين غير مدبرين.[١٣]
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 147. بتصرّف.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 7. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ سورة النساء، آية:1
- ↑ "ضعف المسلمين وقوة العدو"، إمام المسجد، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج "غزوة بدر الكبرى"، الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:127
- ↑ سورة آل عمران، آية:125
- ↑ رواه الألباني، في صحيح النسائي، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:2587، حديث صحيح.
- ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي طلحة الأنصاري، الصفحة أو الرقم:3976، حديث صحيح.
- ^ أ ب ت "معجزات ودروس غزوة بدر"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 21/6/2021. بتصرّف.
- ↑ عمر العرباوي، التوحيد المسمى التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد، صفحة 257. بتصرّف.
- ↑ عبد الملك بن قاسم، كيف أخدم الإسلام، صفحة 4. بتصرّف.