خطبة عن فضل يوم عرفة مكتوبة

كتابة:
خطبة عن فضل يوم عرفة مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحمد لله الملك الحق المبين؛ ذي القوة المتين، هدى العباد إلى صراطه المستقيم، ودلّهم على شرعه القويم، وهو -سبحانه- الوليّ الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نحمد الله تعالى على هذه الأيام العظيمة التي يجتمع فيها المسلمون على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويُعظمون حرماته وشعائره، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وأتباعه إلى يوم الدين.[١]

نشهد أنّ سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وتركها على المحجّة البيضاء، الناصعة النّقية، لا يحيد عنها إلا هالك، ولا يتركها إلا ضال؛ فصلوات ربي وسلامه عليك رسول الله، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعتْ أذنٌ بخبر، صلاةً نرجو بها شفاعتك يوم لقاء الله.

الوصية بتقوى الله

عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله -عزّ وجلّ- ولزوم طاعته، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، فهو القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)،[٢][٣] فلنحرص على أن يكونْ حظّنا من التقوى كبيراً، باستشعار مراقبة الله لنا في سائر أعمالنا وجميع أوقاتنا.

الخطبة الأولى

معشر المؤمنين، حديثنا في هذا اليوم المُبارك يوم الجُمعة عنيوم عرفة وفضائله، وما للمُسلم فيه من الخير العظيم من ربه، ولا يخفى عليكم أنّ يومَ عرفة من أفضل أيام العام وأعظمها على الإطلاق، فقد جاء عن النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- أن الله يدنو من عباده الحُجاج ويُباهي بهم الملائكة؛ ففي الحديث الصحيح عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله- عنها- يقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟).[٤]

وفي هذا اليوم يكونُ الشيطان فيه أصغر ما يكون؛ لما يرى من كثرة الرّحمات، وتجاوز الله عن السيئات، فاستغلوه عباد الله بالطاعات، ولنحفظ جوارحنا عن الآثام والمعاصي، ونُكثرُ فيه من الدّعوات إلى رب الأرض والسماوات، وأمّا ما يقوم الحاجّ بفعله في هذا اليوم؛ فإنّهُ يقوم بالوقوف على صعيد عرفات إلى غُروب الشمس، ثُمّ بعدها يقوم بالنّفير إلى مُزدلفة بعد الغُروب، ويُصلي فيها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً.[٥]

وأمّا ما ورد في الأحاديث الصحيحة في فضل هذا اليوم فهي كثيرة، كقول عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما جاءه رجُلٌ من اليهود: (أنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قالَ له: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا. قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: (اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، قالَ عُمَرُ: قدْ عَرَفْنَا ذلكَ اليَومَ، والمَكانَ الذي نَزَلَتْ فيه علَى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وهو قَائِمٌ بعَرَفَةَ يَومَ جُمُعَةٍ).[٦]

أيُّها الفضلاء، من عظيم فضل يوم عرفة أنْ جعله الله -تعالى- لنا عيداً، كما أنّ الله -سبحانه- أقسم به في القرآن العظيم؛ وفي ذلك إشارة إلى عظمه؛ فالعظيم لا يُقسم إلا بعظيم، ومن ذلك في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)؛[٧] فهو اليوم المشهود، ومن فضائله أيُها المُسلمون ما صحّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّ صيام يوم عرفة يُكفّرُ سنتين من الذُنوب؛ فهو يُكفر سنةً ماضية، وسنةً قادمة، وهو اليوم الذي يُعتِق الله فيه عباده من النار، ويُباهي بأهل الموقف ملائكته، يقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث الصحيح: (صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ).[٨]

ويُسنُ للمُسلم في هذا اليوم الإكثار من الدُعاء والتضرع إلى ربه، فقد قام النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- على صعيد عرفات، واستقبل القبلة، وشرع بالدُعاء إلى غُروب الشمس، وأمّا أحوال السلف فقد تنوّعت في يوم عرفة؛ فمنهم من كان يغلب عليه الخوف والحياء من ربه، ومنهم من كان حاله الرّجاء، والمؤمن يتضرع إلى ربّه في هذا اليوم بقلبٍ صادق، فقد جاء عن السلف قولهم: "إنّ أسوأ الناس حالاً في هذا اليوم من ظن أن الله لا يغفر له".[٩]

عباد الله، يُسنُ للمُسلم في هذه اليوم الإكثار من التكبير، وخاصةً بعد الصلاة المفروضة وحتى آخر يوم من أيام التشريق، وأمّا الحاج فيبدأ بالتكبير من ظُهر يوم العيد، وحريٌّ بنا أيُّها الأخوة أن نُكثر من التوبة، والأعمال الصالحة، والإقلاع عن المعاصي، وأن نقوم بردّ الحُقوق إلى أصحابها، ولنتذكر جميعاً أنَّ من رجع وتابَ تابَ الله عليه، والتائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له، فامسحوا ما سبق من معاصيكم وعثراتكم بحُسن رجوعكم إلى ربّكم، قبل فوات الأوان، ولنظهر في هذا اليوم التوبة والانكسار، والندم والافتقار، فهو يومٌ عظيم، يوم العتق من النار، يومٌ يُستجابُ فيه الدُعاء، هو يومُ عيدٍ، يومٌ من أيام الله العظيمة.[١٠]

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فيا فوز المستغفرين، استغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

عباد الله، يوم عرفة هو اليوم الذي أخذ الله -تعالى- به من عباده المواثيق على أن يعبدوه ولا يُشركوا به، لِقولهِ -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ* أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ* وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).[١١]

فيتذكرُ المسلم في هذا اليوم العظيم الميثاق الذي أخذه ربه عليه يوم أخرجه من صُلب أبيه، كما أنَّه يومٌ يفخرُ به المُسلمون؛ لاجتماعهم في مكانٍ واحدٍ، ووقتٍ واحد، وهم من بلادٍ مُختلفة، ويسمعُ الله دُعائهم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولُغاتهم، فهو الذي يعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصُدور.[١٢]

ولقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فضل الدعاء في يوم عرفة المبارك فقال: (خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أَنا والنَّبيُّونَ من قبلي: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحمدُ وَهوَ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ)،[١٣] فليحرص المسلم على الإكثار من هذا الدعاء بشكل خاص، وأن يدعو الله بما شاء من الأدعية بشرط ألا يكون في دعائه إثم أو قطيعة رحم، وله أن يدعو من شروق شمس يوم عرفة حتى غروب شمسها، وإنّ عشية يوم عرفة هي أرجى ساعة للإجابة.[١٤]

الدعاء

  • اللهم اغفر لنا، ولكلّ من له حقّ علينا، ولا تحرمنا من فضل هذا اليوم، وتقبل أعمالنا، واغفر ذُنوبنا، وتجاوز عن تقصيرنا.
  • اللهم اجعلنا يا رب عند لقائك من الفائزين السُعداء المرحومين، ولا تجعلنا فيه من الأشقياء المحرومين.
  • اللهم أعنا على طاعتك وحُسن عبادتك فيما نستقبل من أيام، ولا تجعلنا يا الله من الغافلين.
  • اللهم آتنا في الدُنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
  • اللهم اعتق في هذا اليوم العظيم رقابنا ورقاب آبائنا وأُمّهاتنا وجميع المُسلمين من النار.
  • اللهم إنّا نسألُك الزيادة في الدين، والبركة في العُمر، والصحة في الجسد، والسعة في الرزق، والتوبة قبل الموت.
  • اللهم إنّا نعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدّين، وغلبة الرّجال.

عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

المراجع

  1. إبراهيم الحقيل (6-9-2016)، "خطبة فضل يوم عرفة"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 30/6/2021. بتصرّف.
  2. سورة آل عمران، آية:102
  3. سليمان العودة (2013)، شعاع من المحراب (الطبعة 2)، الرياض:دار المغني للنشر والتوزيع، صفحة 213، جزء 2. بتصرّف.
  4. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1348، صحيح.
  5. عبد العزيز آل الشيخ، جامع خطب عرفة، صفحة 133. بتصرّف.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم:45، صحيح.
  7. سورة البروج، آية:3
  8. رواه الإمام مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم:1162 ، صحيح.
  9. "فضل يوم عرفة وحال السلف فيه"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 30/6/2021. بتصرّف.
  10. مجموعة من المؤلفين، خطب المسجد النبوي، صفحة 50. بتصرّف.
  11. سورة الأعراف، آية:172-174
  12. محمد النعيم (10-9-2017)، "فضل يوم عرفة"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 30/6/2021. بتصرّف.
  13. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن جد عمرو بن شعيب، الصفحة أو الرقم:3585، حسنه الألباني.
  14. سليمان العودة، شعاع من المحراب، صفحة 182. بتصرّف.
5097 مشاهدة
للأعلى للسفل
×