مقدمة الخطبة
الحمد لله فالق الحب والنوى، ومحيِّ العظام بعد الموت والبِلى، ومُنْزِلِ القطرِ والندى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التترى وآلائه العظمى، إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلا هادي له، الحمد لله الذي أسرى بعبدِه ليلًا مِن المسجِد الحرامِ إلى المسجِد الأقصَى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد يُحيي ويُميّت وهو على كُل شيءٍ قدير، وأشهد أن مُحمداً عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، فتقوى الله في السر والعلن سببٌ للمدد من الواحد الأحد، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ).[١]
الخطبة الأولى
عباد الله، اعلموا أن فلسطين وقضيتُها هي قضية المُسلمين جميعهم، فهي قضيةٌ تجمّعت فيها كُل المُصائب، تُعدُّ فلسطين الأرض المُقدسة، وهي أرض الأنبياء،
وفيها المسجد الأقصى الذي هو أول القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، لقوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)،[٢] كما أنها ميراث أجدادنا، ومسؤولية أبنائنا.[٣]
إخوتي الكرام، لهذه الدولة العظيمة تاريخ طويل؛ إذ قد تم فتحها بعد أن توفيّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بستِ سنوات في عهد عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وحكمها المُسلمون لسنين طويلة إلى أن احتلها الصليبون، ثم جاء المُسلمون وأخرجوهم منها بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثُمّ قام اليهود باحتلالها، وهي لا تزال تحت قيادتهم وسيطرتهم، ولن تعود إلا كما عادت من قبل تحت رايات الجهاد والمُجاهدين، فالحديث عن فلسطين يجعلُنا نتسائل ماذا قدمنا لها من تضحيات؟ وماذا فعلنا بواجبنا كمُسلمين تجاهها.[٣]
معشر المسلمين، إن الناظر في تاريخنا الإسلاميّ يجدُ أن الصحابة الكرام ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين، وتتابعت عليها رايات الإسلام، وكُلما حاول الأعداء احتلالها والاقتراب منها، وقف المُجاهدون في وُجوههم بسلاحهم، ووقف العُلماء بكلماتهم، والأغنياء بأموالهم، وأمّا موقف حُكام المُسلمين فقد كان مُشرفاً؛ كعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبيّ، وقلاوون، والمُظفر قُطز وغيرهم، فقد وقفوا في وقف الحملات الصليبيّة، وزرعوا في نُفوس شُعوبهم روح الجهاد، إلى أن أخرجوا الأعداء من أرض فلسطين.[٣]
عباد الله، على مدار التاريخ تجد أن الأعداء يتآمرون مرةً بعد مرة لدُخولها، وإخراج أهلها منها وقتل أبنائها، بل وصل الأمر بهم إلى تدنيس مُقدساتها، وهُنا لا بُدّ للمُسلمين من وقفةٍ في وُجوههم وردعهم، وقد وصف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حالنا بقوله: (كيف أنت يا ثَوْبانُ إذ تَداعَتْ عليكمُ الأُممُ كتَداعيكم على قَصْعةِ الطعامِ تُصيبون منه؟ قال ثَوْبانُ: بأبي وأُمِّي يا رسولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بنا؟ قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ؛ ولكِنْ يُلقَى في قلوبِكمُ الوَهَنُ قالوا: وما الوهَنُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: حبُّكمُ الدُّنيا، وكراهِيَتُكمُ القتالَ).[٤][٣]
فالأمر يحتاجُ منا إلى مُراجعة أنفُسنا، وإصلاح حالنا؛ ويكون ذلك بتقوى الله، واتباع القُرآن، مع الأخذ بأسباب النصر التي وضحها لنا الله -تعالى- في كتابه، ورسوله -عليه الصلاةُ والسلام- في سُنته، وأولها نُصرة الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)،[٥] كما لا بُدّ للمؤمن أن يكون على يقينٍ بنصره الله لعباده المؤمنين ولو بعد حين.[٣]
كما علينا أن نوقن إخوتي الكرام بأن الله -تعالى- سيخذل الكافرين، فقد قال -سُبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)،[٦] فالنصر قادمٌ إلى الإسلام لا محالة، ولكن الله -تعالى- بحكمته جعل له أسباباً، فهو قادرٌ على نُصرة أوليائه بلا أسباب، لكن لا في نصر في الدنيا بلا أسباب، وبلا جهادٍ وعمل، وأغلى ما يُضحي الإنسان لأجله هو دفاعه عن مُقدساته وعقيدته.[٧][٣]
أيها الموحدون، على الآباء والمُربين غرس محبة فلسطين ومُقدساتها في قُلوب أبنائهم وطُلابهم؛ فقضية فلسطين هي قضية المُسلمين الأولى؛ حيثُ أنها مُرتبطةٌ بأنبيائهم من آدم -عليه السلام- إلى نبينا مُحمد -عليه الصلاةُ والسلام-، وقد سمّاها الله -تعالى- في أكثر من آيةٍ في كتابه بالأرض المُقدسة، والأرض المُباركة، فقد قال -تعالى- في وصفها وأنها أرضٌ لأنبيائه: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ).[٨][٩]
كما تحتوي فلسطين على المسجد الأقصى وهو أحد المساجد الثلاثة الذي لا تُشدُ الرحال إلا إليه، بعد المسجد الحرام والمسجد النبويّ، فالصلاة فيه تعدلُ خمسُ مئة صلاة، وكان أول الفتح الإسلاميّ للقُدس في عهد الخليفة عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ودخلها بعزةٍ وتواضع، وتسلم مفاتيحها وكتب لأهلها العهد الذي اشتهر بالعُهدة العُمريّة.[٨]
وللأسف أيها الكرام، قد سقطت القُدس في أيدي الصليبين بعد ذلك، وقتلوا على ما يزيد على سبعين ألفاً من أبنائها، وجعلوا جُزءاً من المسجد الأقصى سكناً لخيولهم، ووضعوا فوق قبة الصخرة المشرفة صليباً، وقام المُسلمون باسترداده منهم، ثُمّ عاد اليهود لاحتلاله والتضييق على ساكنيه، الأمر الذي يُحتم على أُمتنا أن تُربي أبناءها والأجيال القادمة على العمل من أجل قضية فلسطين والتي هي قضية الأُمّة.[٨]
عباد الله، لا بُدّ أن نعلم جميعاً أن بيت المقدس يعد جزءاً من الأرض التي اختارها الله واصطفاها على باقي البلاد، ومما يدُل على مكانتها وفضلها أن الله -تعالى- أمر الصحابة الكرام في بداية صلاتهم بالتوجه نحو بيت المقدس لنحو سبعة عشر شهراً؛ الأمر الذي يؤكد ارتباطنا به دينياً وإيمانياً وتاريخياً وروحياً، كما أنه المسجد الثاني الذي وضعه الله في أرضه، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (عَنْ أبِي ذَرٍّ، قالَ: قُلتُ يا رَسولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصَى قُلتُ: كَمْ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأَيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهو مَسْجِدٌ).[١٠][١١]
كما أنَّ بيت المقدس هو معاد الخلق جميعهم، ومنه يُحشرون؛ فهي أرض المحشر والمنشر،[١٢] ومما زاد في تعلق المُسلمون به أنَّه أحد المساجد الثلاثة الذي تُشدُ إليه الرحال، وهي أرض الأنبياء والمُرسلين؛ فعلى أرضها عاش إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، وداود، وسُليمان -عليهم السلام-، وغيرهم من الأنبياء، مما يوجب علينا الدفاع عنه، بأمرنا للمعروف، ونهينا عن المُنكر وبكافة السبل الأخرى.[١٠]
بارَكَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما مِن الآيات والحِكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه كان عفُوًّا غفُورًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل بعد الضيق مخرجاً وبعد الهم فرجاً وبعد العسر يسراً، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم حكمته وتدبيره وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل مع العسر يسراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دل أمته على طريق النصر والعز والتمكين، أما بعد:
عباد الله، يتوجب علينا أن نعي ما يدور حول قبلتنا الأولى، ومسرى نبينا -صلى الله عليه وسلم- من تطاول اليهود عليه، وطرد أبنائه وإخواننا منه؛ ففلسطين هي أمانةٌ في قلب كُل عربيٍ ومُسلم، وعلينا ألا نيأس في الدفاع عنه؛ إذ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولنبدأ بتغيير أنفُسنا، فهو الطريق والقانون الذي أرشدنا الله إليه بقوله: (إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم)،[١٣] ثُمّ الاستعداد ما استطعنا من تهيئة أسباب القوة والنصر، وأن نسلّم بعدها أمرنا لله -تعالى-، إذ إنَّ النصر من عند الله، فكما أنزله على نبيه وصحابته، فهو قادرٌ على نُصرتنا.[١٤]
الدعاء
- (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).[١٥]
- اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهِدين في سبيلِك في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى مِن براثِنِ الصهايِنة المُعتَدِين الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يومِ الدِّين، اللهم ارزُقنا فيه صلاةً قبل الممات، واجمَعنا به كما جمَعتَنا في المسجدِ الحرامِ ومسجدِ رسولِك -صلى الله عليه وسلم- سيِّد الأنام.[١٦]
- اللهم إن إخوانَنا في فلسطين مظلُومون فانصُرهم، مظلُومون فانصُرهم يا ناصِر المظلُومين، ويا مُنجِيَ المُؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّركَ والمُشركِين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائِرَ بلادِ المُسلمين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم اغفرلنا ذُنوبنا،[١٧] سُبحان ربك رب العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلوا على نبيكم مُحمد.
- اللهمَّ إنِّا نسألك من الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجله، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه.
- اللهمَّ إنِّا نسألُك من خيرِ ما سألَك به عبدُك ونبيُّك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذ به عبدُك ونبيُّك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- اللهمَّ إنِّا نسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك من النارِ وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
المراجع
- ↑ سورة الحج، آية:1-2
- ↑ سورة الإسراء، آية:1
- ^ أ ب ت ث ج ح محمد المطري (13-1-2014)، "قضية فلسطين قضية جميع المسلمين"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:8713، حسن لغيره.
- ↑ سورة محمد، آية:7
- ↑ سورة الأنفال، آية:36
- ↑ "مصيبة نزلت باليهود"، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ^ أ ب ت عصام الجفري، "القدس والمسجد الأقصى"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنبياء، آية:71
- ^ أ ب عبد الرحمن السديس (29-7-2017)، "فلسطين .. قضية كل مسلم"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:520، صحيح.
- ↑ عبد العزيز الغامدي (5-10-2016)، "خطبة عن المسجد الأقصى المبارك"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الرعد، آية:11
- ↑ علي الطنطاوي (2006)، ذكريات (الطبعة 5)، جدة:دار المنارة للنشر والتوزيع، صفحة 323-330، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2690 ، صحيح.
- ↑ "القدس للمسلمين "، طريق الإسلام، 24-12-2014، اطّلع عليه بتاريخ 16/8/2021. بتصرّف.
- ↑ أحمد صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، بيروت:المكتبة العلمية، صفحة 324، جزء 3. بتصرّف.