مقدمة الخطبة
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفواً أحد، أعطى كل شي خلقه ثم هدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، نحمد الله الذي شرع الأعياد لعباده المؤمنين بعد قيامهم بالطاعات، يتزاورون به، وتعمّ فيه سعادتهم وبشاشتهم، إخواناً مستبشرون بفضل الله، فرحين بعظيم خيره، ليكتمل بذلك فرحهم وسُرورهم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله.[١]
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصّرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، فتقوى الله خير زادٍ ليوم المعاد، فهو الذي يبقى وغيره يفنى، وأُحذّركم ونفسي من مخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[٢][٣]
الخطبة الأولى
عباد الله، نتحدّث معكم في هذا اليوم المبارك عن صلاة العيد التي يؤدّيها المسلمون في يومٍ مَنَّه الله عليهم بفضله وكرمه، يوم فضلٍ وفرحٍ وسعادة، قال -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)،[٤] فهذا يوم عظيمٌ يجتمع فيه المسلمون، يُكبّرون ويُصلّون في صفوفٍ واحدة، مستنّين في ذلك بخير البشر سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله، اعلموا أنّ من سُنن يوم العيد المؤكّدة أداء صلاة العيد؛ شُكراً لله -تعالى-، فالعيد يوم فرح وسعادة، وخاصةً أنه يأتي بعد قيام المسلمين بشرائع الإسلام، فعيد الفطر يأتي بعد القيام بأحد أركان الإسلام؛ وهو صيام شهر رمضان، وعيد الأضحى يأتي بعد أداء مناسك الحج والأُضحية.[٥]
ويُشرع للمُسلم عند ذهابه لصلاة العيد أن يذهب إليها من طريقٍ ويرجع من طريقٍ آخر، والأفضل أن يكون الذهاب والرجوع منها مشْياً، والحِكم من ذلك عديدة؛ منها إظهار شعائر الإسلام، والسلام على أهل الطريقين، كما يُشرع للمُسلم الإكثار من التكبير بعد إكماله للصيام، لقوله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[٦][٥]
ويُسنّ لنا -أحبتي في الله- في هذه الأيام المباركة التكبير، ويبدأ من غُروب شمس ليلة العيد، ويُستحبّ للرجال الجهر به، فيُكبّرون حتى يأتوا إلى مُصلى العيد، ويستمرون بالتكبير حتى صُعود الإمام إلى المنبر، ومن صيغ التكبير: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".[٧]
ويُسنّ في عيد الفطر أن لا يذهب المُصلّي إلى مُصلّى العيد حتى يأكل بعض التّمر، لِما ثبت من فعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ففي الحديث الذي يرويه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لا يَغْدُو يَومَ الفِطْرِ حتَّى يَأْكُلَ تَمَراتٍ).[٨]
ولأنّ هذه الأيام أيّاما عظيمة؛ فقد ندب الشّرع فيها حُضور الرجال والنساء إلى صلاة العيد، حتى مَنْ كانت حائضاً من النساء، وقد نُقِل عن أبي حنيفة وفي رواية عن الإمام أحمد وابن القيم والصنعاني أنّ صلاة العيد فرضٌ على الأعيان المُكلّفين القادرين من الذُكور، وأمّا النساء فيُسن لهنّ الحُضور إلى صلاة العيد، وقيل إنها سنة مؤكدة.[٩]
والأصل في المكان الذي تؤدى به صلاة العيد -إخواني الأفاضل- أن يكون في مكانٍ مكشوفٍ يجتمع فيه أهل البلد؛ لأنّ الأصل في تشريع صلاة العيد هو اجتماع المُسلمين، ويجوز تعدّد المُصليات التي تُقام فيها صلاة العيد إنْ كان هُناك حاجةٌ لذلك.[٩]
وأمّا أداؤها في المسجد فليس مما ورد من السُنة، ولكن إن كان هُناك عُذر ودعت إليه الحاجة فجائز؛ كوجود البرد أو المطر الشديدين، أو غير ذلك من الأعذار، وتؤدّى صلاة العيد من غير أذانٍ أو إقامة، وأمّا كيفية صلاة العيد -إخواني الكرام- فهي ركعتان، يُكبر المصلّي فيها سبع تكبيرات في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات ما عدا تكبيرة القيام.[٧]
ثُمّ بعد ذلك يُلقي الإمام الخُطبة على مسامع المسلمين بعد صلاة العيد، بخلاف صلاة الجمعة التي تكون خطبتها قبل الصلاة، ويُسنّ لِمن صلى العيد أن يجلس لحضور الخطبة وسماعها، فمَن لم يُدرك صلاة العيد جاز له صلاتها في البيت.[٧]
أحبّتي في الله، اعلموا أن الله -تعالى- جعل لنا هذه الأعياد شُكراً له على ما وفّقنا فيه من القيام بعبادته وطاعته، حيث يُسنّ للمُسلم فيهما إظهار الفرح والسُرور، بعيداً عن المُحرّمات والمُنكرات، كما أن العيد فرصةٌ للمُسلم لكي يفتح صفحةً جديدةً مع ربه -سُبحانه وتعالى-.[١٠]
وسُمّي العيد عيداً -إخواني الكرام-؛ لأنه يعود ويتكرّر بالفرح والسُرور في كُل عام،[٧] وليس للمسلمين عيدان غيرهما، وقد ورد ذكرهما في حديث النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما فقالَ ما هذانِ اليومانِ قالوا كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ).[١١]
وقد كان الصحابة -الكرام- يخصّون العيد بلبس الجميل من الثياب، ويخصّونه بمزيدٍ من التجمُّل، ونُقِل عن ابن عُمر -رضي الله عنهما- أنه كان يلبس في يوم العيد أحسن ثيابه، ويغتسل قبل الذهاب إلى صلاة العيد.[٥]
وبارك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله، لقد أمر الله ورسوله بحضور صلاة العيد للرجال والنساء، فحتى النساء التي ليس لهنّ عادةٍ في الخُروج يُسنّ خروجهنّ، ويُسن كذلك إخراج ذوات الحيض، فيحضرن الخُطبة ويعتزلن الصلاة؛ ابتغاء الخير والأجر، ودعوة المُسلمين، وتحصيلاً للجائزة من الله -تعالى-.
حيث ثبت في الحديث الصحيح: (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، أَنْ نُخْرِجَهُنَّ في الفِطْرِ وَالأضْحَى، العَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الخُدُورِ، فأمَّا الحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إحْدَانَا لا يَكونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِن جِلْبَابِهَا).[١٢][١٣]
ويُستحبّ أن يخرج الرجال إليها مُتطيبين، يلبسون الجميل من الثياب، وأمّا النساء فتخرج مُحتشمات غير مُتبرجات أو مُتزينات، ويُستحبّ كذلك أن يأكل المُسلم تمرات قبل خُروجه إلى مُصلى العيد، والسُنة أن تكون التمرات وتراً؛ كثلاثة أو خمسة.[١٣]
وصل الله على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدعاء
- اللهم تقبل منا أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واعتق رقابنا وجميع المُسلمين من النار.
- اللهم بلّغنا عيدك المبارك، واجعلنا فيه مباركين طائعين، وتقبّل منّا أعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
- اللهم اجعل كل حياتنا في سبيلك، وجنبّنا المنكرات، واهدنا للطاعات والصالحات.
- اللهم آتنا في الدُنيا حسنةً، وآتنا في الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، وتوفنا مع الأبرار يا عزيز يا غفار.
- اللهم إنّا نسألك البر والتقوى، واجعل سعينا في رضاك، وأعد علينا أعيادنا وأُمتنا بخير.
- اللهم اجعل القُرآن العظيم ربيع قُلوبنا، وذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المراجع
- ↑ مجموعة من المؤلفين (1432)، خطب المسجد الحرام، صفحة 8. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:1
- ↑ اختيار وكالة شئون المطبوعات والنشر بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد (1423)، خطب مختارة (الطبعة 3)، السعودية:وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 36. بتصرّف.
- ↑ سورة يونس، آية:58
- ^ أ ب ت وليد بن إدريس المنيسي، "سنن العيد وأحكام صلاة عيد الفطر"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 15/3/2022. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:185
- ^ أ ب ت ث ناصر الأحمد، "أحكام صلاة العيد"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 3/3/2022. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:953، صحيح.
- ^ أ ب وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الموسوعة الفقهية، صفحة 240-249. بتصرّف.
- ↑ عطية الباحوث، "خطبة عن العيد"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 3/3/2022. بتصرّف.
- ↑ رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1134، سكت عنه وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أم عطية نسيبة بنت كعب، الصفحة أو الرقم:883، صحيح.
- ^ أ ب محمد العثيمين (1988)، الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 425، جزء 4. بتصرّف.