خطبة مؤثرة عن الظلم

كتابة:
خطبة مؤثرة عن الظلم

المقدمة

الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، وحرَّّم الظلم والعدوان، الحمد الله الذي حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرَّمًا، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا وحبيبنا وقرَّة أعيننا محمدًا عبده ورسوله أنقذ الأمَّة من الضَّلال، وهدى إلى أشرف الخصال، أمر بالعدل، وحذَّر من الظُّلم في الأقوال والأفعال، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.[١]


الوصية بتقوى الله

عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصِّرة بتقوى الله -عزَّ وجل- في السِّر والعلن، فتقوى الله هي سبيل النَّجاة يوم الدِّين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلَّا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ، فقد قال الله -تعالى- في محكم التَّنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).[٢]



الخطبة الأولى

أيُّها الإخوة الأفاضل، حديثنا اليوم عن ذنبٍ عظيمٍ حرَّمه الله على نفسه، وجعله بين العباد محرَّمًا، ورتَّب عليه العقوبة في الدُّنيا وفي الآخرة، ألا وهو الظلم، فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: (يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا).[٣][٤]



لا شكّ أنَّ الظلم من كبائر الذُّنوب، فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ)،[٥] فالظُّلم ثلاثة أنواع:[٤]

  • النَّوع الأوَّل: ظلم لا يغفره الله إلَّا بالتَّوبة، وهو الشِّرك بالله، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا).[٦]
  • النَّوع الثَّاني: ظلم الإنسان لنفسه، وذلك من خلال ارتكاب الذُّنوب والمعاصي، وكفَّارتها التَّوبة النَّصوح عن الذُّنوب، والنَّدم على إتيانها، والعزم على عدم العودة إليها مستقبلًا.
  • النوع الثَّالث: مظالم بين الخلق في حقوقٍ لبعضهم.[٧]



أيها الناس، إنّ ظلم الإنسان لغيره يتَّخذ أشكالاً متعدِّدة، ومنها:[٧]

  • أكل مال اليتيم وقهره، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)،[٨] لقد توعَّد الله -سبحانه وتعالى- من أكل ما اليتيم ظلمًا بالعذاب الشَّديد؛ لضعف اليتيم، وعدم قدرته على إثبات حقِّه كالرَّاشدين.
  • اقتطاع الأراضي والعقارات بغير وجهِ حقٍّ، قال رسول - الله صلى الله عليه وسلم- : (مَن أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شيئًا بغيرِ حَقِّهِ خُسِفَ به يَومَ القِيَامَةِ إلى سَبْعِ أَرَضِينَ).[٩]
  • عدم العدل بين الأولاد، عن النعمانَ بنَ بَشير -رضي الله عنه- جاء أبوهُ إلى النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال له: (إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا فقال له: أَكُلَّ ولدِكَ له نِحْلةٌ مثلُ هذا؟ قال:لا، قال: فاردُدْهُ)،[١٠] فاحذروا أيُّها الآباء من التَّمييز بين الأبناء؛ لأنَّ هذا يزرع الحقد والشَّحناء بينهم.



أيُّها المسلمون، لا يكفي أن نسلم من الظلم، بل يجب أن نتواصى جميعًا بالعدل ورفع الظلم، ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظَّالم، لقد ثبت في الحديث الصَّحيح عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنَّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ)،[١١] فإياك يا عبد الله أن تكون عونًا للظَّالم على ظلمه.[١٢]



فلنحذر أيُّها الأحبَّة في الله من الظلم بكلِّ أنواعه سواءً أكان كبيرًا أو صغيرًا؛ لأنَّ الله -عزَّ وجل- يعجِّل لصاحبه العقوبة في الدُّنيّا قبل الآخرة، فقد روي عن أبي بكر-رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا من ذَنبٍ أَجدرُ أن يُعَجَّلَ لصاحبِه العُقوبةُ مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ في الآخرة، من البَغي و قَطيعةِ الرَّحِمِ)،[١٣] والمقصود من البغي هنا؛ الظلم، فالحديث الشَّريف أيُّها الإخوة الأكارم يدلُّ على عِظَمِ وخطورةِ الظلم؛ لأنَّه من الذُّنوب التي تجتمع فيه العقوبتان، ولا تكون عقوبة الدُّنيا مسقطةً لعقوبة الآخرة.[١٤]


يقول الشاعر:[١٥]

ستعلم يا نؤوم إذا التقينا غدا عند الإله من الظلوم

أما والله إن الظلم لؤم وما زال الظلوم هو الملوم

سينقطع التلذّذ عن أناس أداموه وينقطع النعيم

إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم[١٥]



عباد الله، اعلموا أنّ دعوة المظلوم مستجابة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول- الله -صلى الله عليه وسلم-: ( ثلاثُ دعَواتٍ مستجاباتٌ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ)،[١٦] وتدبروا معي أيُّها الأكارم هذا الحديث الذي رواه الترمذيُّ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثٌ لا يُرَدُّ دعوتُهم: الإمامُ العادِلُ، والصَّائمُ حين يُفْطِرُ، ودعوةُ المظلومِ يرفَعُها فوق الغَمامِ، ويُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ تبارَكَ وتعالى: وعِزَّتي لأنْصُرَنَّك ولو بعدَ حينٍ).[١٧]



فلولا عظم إثم الظُّلم أيُّها الإخوة لما أقسم الله بذاته جلَّ في علاه، فلنحذر من دعوة المظلوم، فإنَّها ليس بينها وبين الله حجابٌ، لما بعث النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن أوصاه: (اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ).[١٨]


يقول الشَّاعر:[١٩]

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم



الخطبة الثانية

عباد الله، إنّ الظلم عواقبه وخيمةٌ، فلنتَّعظ من الأمم السَّابقة، كم من أقوامٍ بسببه افتقرت؟ وكم من أقوام كانت عزيزةً فذُلَّت؟ لقد ساق القرآن الكريم نماذج متعدِّدةً لمن استكبروا في الأرض، وعاثوا فيها الفساد، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)،[٢٠] فلنتذكَّر جيدًا أيُّها الأحبَّة: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.[٢١]



دعونا نعاهد أنفسنا منذ هذه اللحظة بأنَّ نرد المظالم إلى أهلها، فاستمعوا أيُّها الإخوة إلى قول النِّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-: (من كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه)،[٢٢] فالحديث أيُّها الإخوة يحثُّنا على ردِّ المظالم إلى أهلها قبل يوم القيامة، يوم لا ينفع الحسرة والنَّدامة حيث لا درهم ولا دينار يدفعه الظالم لمن ظلمه ليفدي به نفسه؛ إذ إنَّ القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فإن لم يكن للظالم حسنات وضع من سيئات هذا المظلوم على الظالم،[٢٣] فاللهم أعنّا على رد الحقوق لأصحابها، واغفر لنا تقصيرنا.



الدعاء

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:[٢٤]

  • اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل الرشاد، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا رب العالمين، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا متين.
  • اللهم لا تسلّط على المسلمين الأشرار الفجار، اللهم لا تسلط على المسلمين من لا يخافك ولا يرحمهم يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير.
  • اللهمَّ لا تجعل لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً، ولا لظالمٍ على مظلوم سبيلاً، ربَّنا افتح بيننا وبين الظَّالمين بالحقِّ وأنت خير الفاتحين.
  • اللهم لا تُسلِّط على المسلمين الأشرار الفُجَّار، اللهم يا رب العالمين لا تُسلِّط على المسلمين من لا يخافُك ولا يرحمهم يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير. اللهم فرِّج كُربات المسلمين، الله ارفع الشدائد عن المسلمين يا رب العالمين، اللهم اجمعهم على الحق إنك على كل شيء قدير، ألِّف بين قلوبهم وأصلِح ذات بينهم يا رب العالمين. اللهم اجعل بلادنا آمنةً مطمئنةً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا يا رب العالمين.



عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المراجع

  1. ابن عثيمين (1988)، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 292، جزء 2. بتصرّف.
  2. سورة الأحزاب، آية:70-71
  3. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:2577، حديث صحيح.
  4. ^ أ ب علي الحذيفي، خطب المسجد النبوي عواقب الظلم، صفحة 24. بتصرّف.
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:2447، حديث صحيح.
  6. سورة النساء، آية:48
  7. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، موسوعة الأخلاق الإسلامية، صفحة 326.
  8. سورة النساء، آية:10
  9. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:2454، حديث صحيح.
  10. رواه النسائي، في سنن النسائي، عن النعمان بن بشير، الصفحة أو الرقم:3682، حديث صحيح.
  11. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2444، حديث صحيح.
  12. فهد بن عبدالله الصالح (20-1-2011)، "عاقبة الظلم ومصارع الظالمين"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 11-7-2021.
  13. رواه الإمام الترمذي، في سنن الترمذي، عن أبو بكرة نفيع بن الحارث، الصفحة أو الرقم:2511، حسن صحيح.
  14. محمد الرهواني (8-8-2014)، "الظلم"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 11-7-2021. بتصرّف.
  15. ^ أ ب شهاب الدين الأبشيهي (1419)، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (الطبعة 1)، بيروت:عالم الكتب ، صفحة 119، جزء 1. بتصرّف.
  16. رواه شعيب الأرناووط ، في تخريج شرح السنة، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:1394، إسناده لا يصح.
  17. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2526، إسناده لا يصح.
  18. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:2448، حديث صحيح.
  19. محمد حسان، الدار الآخرة، صفحة 4.
  20. سورة الفجر، آية:6-14
  21. يحيى الزهراني، "خطبة الظلم ودناءة النفس"، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 11-7-2021. بتصرّف.
  22. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2449، حديث صحيح.
  23. بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بيروت:دار إحياء التراث العربي، صفحة 294، جزء 12. بتصرّف.
  24. علي الحذيفي (10-8-2-13)، "عواقب الظلم"، طريق الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 11-7-2021.
7349 مشاهدة
للأعلى للسفل
×