مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، الحنَّان المنَّان، اللطيف الرحيم، الكريم الستِّير، من يرانا ويلطف بنا وهو بأحوالنا عليم، ما من دابَّةٍ في الأرضِ إلا وهو بحالها خبير، وهو الأحنُّ علينا من الأمِّ على طفلها الصغير، ويرحمُ الشيخَ الكبير، والغنيَّ والفقير، مَن يقولُ للشيءِ كن فيكون، ويعلمُ ما في القلبِ المكنون، مَن أعطانا بسخاء، ونعمهُ علينا لا حدَّ لها ولا انتهاء، وأشهدُ أنَّ لا إله إلَّا هو العالمُ بالسِّرِّ والخفاء، جبَّار الخواطرِ بلا قيدٍ ولا استثناء، لا يَردُّ لعبده حاجةً ولا دعاء.
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله، أدَّى الأمانة، وهدى الأمَّة، وكشف برسالتهِ عنها الغمَّة، لطالما كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- جابراً للخواطر؛ يجبرُ بخاطر الطفلِ الصغير، و يسأله عن عصفوره وهو قائد أمَّة عليه من الهموم ما عليه، ويجبرُ بخاطرِ الصّحيح والضّرير، حبيبي يا رسول الله، هو خير عباد الله، وخير السائرين في جبر الخاطر، لا حرمني الله وإياكم من لقياه عند الحوض والشرب من يديه الشريفتين.[١]
الوصية بتقوى الله
معشر المسلمين: اتقوا الله يرحمكم الله، اتقوا الله وكونوا عباد لله إخواناً، ألزموا أنفسكم بكلمة التقوى؛ فإنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى صراط الله المُستقيم، الذي ليس له مثيلٌ ولا بديل، هذا وللتقوى ثمارٌ لو تعلمون عظيمة، وهذه الثمار تعود على المؤمن بالخير في دينه ودنياه؛ إذ إنّها تُجّنبه الفتن، وتصرف عنه الشرور والمحن، وترفع درجته في الآخرة، لذا فلنحرص جميعاً على التّمثل بتقوى الله -تعالى- في السّر والعلن، والجهر والخفاء، حتى نلقى الله -تعالى- ونحن على هذا الحال، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).[٢]
الخطبة الأولى
أيّها الأخوة الفضلاء: من عرف الآمر عظَّم الأوامر، ومن سار على الدّرب وصل إلى ربه وهو عنه راضٍ، ومن علم أسماء الله وصفاته حق العلم عبد الله حقَّ العبادة، فسبحانه وتعالى له صفات الكمال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الكريم صاحب العطاء، لن نبلغ عطاءه مهما علت منازلنا، فهو سبحانه الغني عنا يجبر خواطرنا بكرمه، ومن معاني اسم الله الجبَّار القوَّة والحِدَّة، والجبار هو -سبحانه وتعالى- الرحيم الودود، جبَّار القلوب؛ يجبر الفقير والضعيف، والمتألمَ والفاقد، لا إله إلَّا هو مغيث الملهوف، ومُفرج الكربات.[٣] عبادَ الله مَن منَّا لا يعرفُ قصَّة سيدنا يوسف عليه -الصّلاة والسّلام- وكيف أنَّ إخوته آذوه وأرادوا قتله، فجبرَ الله خاطره بوحيٍ يُثبّت قلبه، قال -تعالى-: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).[٤]
عباد الله: اعلموا أنّ أحق الناس بجبر الخاطر والمعاملة الحسنة هم أهل بيتك وأرحامك؛ فهؤلاء لهم عليك حق أخوة الإسلام، وحق القرابة والرَّحم، يقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلَم-: (خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلِي)،[٥] فهم أولى الناس بجبر خواطرهم وتفقّد أحوالهم، ومساندتهم عند مواجهة مصائب الدنيا، ويكفيك أن تعلم ما قاله الله -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: (أنا اللهُ، وأنا الرحمنُ، خلقتُ الرحِمَ، وشققتُ لها منِ اسمي؛ فمن وصلَها وصلتُه، ومن قطعها بتتُّه)،[٦] فاجبر أخي الكريم خاطر رَحِمك فى كلّ نازلة وعند كلّ كرب، واجبر خاطرهم عند كل فرح وعند كل إنجاز بأن تشاركهم فيها وتحتفي بهم.
أيّها الأخوة الكرام: كثيرةٌ هى المواقف والأحوال التى يحتاج الناس عندها لجبر خواطرهم؛ فمثلا تُسنّ التّعزية والمواساة لأهل الميت والتخفيف عمّا أصابهم من مُصيبة الفقد، والتسرية عن قلوبهم التي تعتصر ألماً، وما ذلك إلَّا من باب جبر الخواطر، وكذلك المريض يحتاج من يتفقّده ويجبر خاطره، وكلنا يعلم حاجة الفقير، واليتيم، والمسافر، والغريب لجبر الخاطر والكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة.[٧] ومن عظيم الأحكام فى الإسلام جبرُ الله بحال الأيتام والمساكين الذين يحضرون تقسيم الميراث؛ حيث قال -تعالى- في جبر خواطرهم: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)،[٨] وهذا المنهج مُتأصِّلٌ في كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه المُصطفى -صلُى الله عليه وسلُم-.[٩]
وعاتب الله -سبحانه وتعالى- سيدنا محمد -صلّى الله عليه وسلّم- عندما أعرض عن ابن أم مكتوم؛ وهو أعمى جاءه سائلاً مُستفسراً، وفي ذلك الوقت كان النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- مُنشغلاً بدعوة صناديد قريش، فعاتبه الله بآيات ما زالت تُقرأ وتُحفظ إلى يومنا هذا، ويدلّ ذلك على أهمية جبر الخواطر، كما أنّنا لا ننسى موقف المطعم بن عدي الذي آوى إليه النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في رحلته المؤلمة إلى الطَّائف، فهذه المواقف وغيرها الكثير تربينا على أهمية جبر الخاطر وتفقد الآخرين، وتخبرنا متى يجب علينا السؤال عن الحال، وكيف نجبر النفوس، ونعتني بالقلوب.[١٠]
عباد الله: إنَّ الله -تعالى- هدانا لهذا الدين، وأخرجنا من الظلمات إلى النُّور، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادته وحده لا شريك له، ومن العمى إلى نور البصيرة، فكنَّا على صراطٍ مستقيم، لا نحيد عنه، وفطرنا على الأخلاق، وتمَّم لنا هذا الدين العظيم، أيّها الفضلاء، إنَّ أحبَّ العباد إلى الله أحسنهم أخلاقاً، ومن هذه الأخلاق التي علينا التّمثُل بها خُلق جبر الخاطر، فلنكن نماذج حية وواقعية يجبر أحدنا كسر الآخر، ويعينه على المضي في هذه الحياة.[١]
إخوتي في الله: إنَّنا في هذه الدنيا ضيوف، وما على الضيفِ إلَّا الرحيل، فلنُحسن المكوث، ولنكن لبعضنا السند والجسر الذي نعبر منه للجنَّة، من اعوجَّت طريقه بالكلام الطيب عدَّلناه، من كثُرت ديونه إن استطعنا قضيناها عنه، ومن احتاج الغوث منَّا أغثناه، ولنُحبَّ لغيرنا ما نحبُّ لأنفسنا، ولنتذكر أنَّ الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- كان إذا جاءه الصغير سمع منه، وإذا جاءه الكبير أكرمه، ولم يعبس يوماً في وجه أحد قط.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسّلام على أشرف الخلقِ والمرسلين سيدنا محمد -صلّى الله عليه وسلّم- وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدّين وبعد، عندما نتحدث عن جبر الخواطر وكيفية تمثّلها حقيقةً لا مجازاً، وفعلاً لا قولاً، فلا نجد خيراً من الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- للإقتداء به؛ فالرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- هو المعلِّم الأول، والقدوة التي اقتدى بها أتباعه، وشريعته مرسومة كخطة ذهنية في عقول الصحابة، لا يحيدون عنها مهما التفت بهم الحياة، ولطالما كانت أفعالهم لها الأثر البالغ في النُّفوس؛ فكانوا جابرين للخواطر، سائرين بين النَّاس بابتسامةٍ، مُدخلين السرور على قلوب العباد، هم بشر ولكنَّهم تخلَّقوا بأخلاق الأنبياء، حتى في الحروب أخلاقهم حاضرة.[١١]
فلنتذكر جيداً أيها الفضلاء أنَّ أحقّ الناس بحسن الخلق وجبر الخواطر هم أهل البيت؛ لذا وجب علينا أن نُحسن إليهم وأن نجبر بخواطرهم، وبعدها نتفقّد الأقرب فالأقرب من أهل الحي والجيران، والسّاعي في جبر الخواطر يجبره الله -تعالى-، فلنكن نحن مُسببي الفرح لا باعثي الحزن والتعاسة، ولنتعلم ثقافة الاعتذار؛ فإذا أخطأت اعتذر، ولنتعلّم من الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- ومن السَّلف الصَّالح الذين كانوا وما زالوا مثل يُحتذى به في كل زمان ومكان، إخوتي في الله، القسوة لا تُورث في القلب إلا الكره والحقد، ولا تملأ القلب إلَّا تعاسةً وتنغيصاً في العيش، وإنَّ من لزم الأخلاق وصلَ لأعلى مراتب الحياة الطيبة وعاش كريماً عزيز النَّفس.
الدعاء
- اللَّهم لك الحمد على كل نعمك العظيمة التي لا يُحصيها إلا أنت، نحمدك ربنا أن أحسنَت خَلقنا وخُلقنا، وجعلنتا مُتبِّعين مُهتدين، مُتصافين فيما بيننا، حريصين على جبر خواطر من نحب، ومتفقدين لأحوالهم، وجابرين لكسورهم.[١٢]
- اللَّهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرفنا عن سيئها لا يصرف عن سيئها إلا أنت، اللهمَّ يا جامع النّاس في يومٍ لا ريب فيه اجعلنا خفيفي ظلٍّ لا نؤذي ولا نُؤذى، واجعلنا اللَّهم سائرين بين النَّاس نجبرُ الخواطر، ونغيث الملهوف.
- اللهمَّ هوِّن على القلوب مُصابُها، وداوِ الجروح التي تنزفُ فقداً وتعتصرُ من الحاجة ولكنَّ عزَّة النَّفسِ تمنعهم من مدّ اليد، اللهم اربت على كتف المُتألمين، والمجروحين، والمبتسمين أمام الناس الباكين من خلفهم، ربِّ أرهم من عجائب الفرح ألواناً، ربنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا وهب لنا من لدنك رحمة تُنجّينا بها من عذاب الدّنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلِّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه وسلم تسليماً كثيراً.
المراجع
- ^ أ ب ابن عثيمين (1408)، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع (الطبعة 1)، صفحة 116، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:102
- ↑ ماهر حمد المعيقلي (8-11-2019)، "جبر الخواطر"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 20-6-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية:15
- ↑ رواه شعيب الأرناؤوط ، في تخريج المسند ، عن عائشة أم المؤمنين ، الصفحة أو الرقم:365، صحيح.
- ↑ رواه الألباني ، في صحيح أبي داود ، عن عبدالرحمن بن عوف ، الصفحة أو الرقم:1694، صحيح.
- ↑ مهدي راسم اسليم (23-5-2018)، "جبر الخواطر"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 20-6-2021. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:8
- ↑ مصطفى العدوي، سلسلة التفسير لمصطفى العدوي، صفحة 20، جزء 24. بتصرّف.
- ↑ مهدي راسم اسليم (23-5-2018)، "جبر الخواطر"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 20-6-2021. بتصرّف.
- ↑ ياسر مصطفى يوسف (2-2-2017)، "جبر الخواطر خلق اسلامي نبيل"، رابطة العلماء السوريين، اطّلع عليه بتاريخ 20-6-2021. بتصرّف.
- ↑ سليمان العودة (1434)، كتاب شعاع المحراب (الطبعة 2)، الرياض-السعودية:دار المغني للنشر والتوزيع، صفحة 288، جزء 12. بتصرّف.