محتويات
ما سبب نزول سورة البينة؟
ورد في كتب التفسير أنّ سبب نزول سورة البيّنة هو أنّ اليهود والنصارى كانوا في ظلام دامس من الجهل بما يجب عليهم الإيمان به والسير عليه من شرائع أنبيائهم -إلّا من عصم الله منهم-، وكان ذلك الظلام والجهل بسبب ما فعله أسلافهم من تغيير وتبديل في الشرائع؛ حيث أدخلوا فيها ما ليس منها إمّا لسوء فهمهم لما أُنزل على أنبيائهم، أو لأنّهم استحسنوا ألوانًا من البدع وظنّوها مؤيّدة للدين، ولكنّها كانت هادمة لأركانه، أو لأنّهم أرادوا إفحام خصومهم والانتصار عليهم، وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلّما جاء جيل زاد الوضع ظلامًا وجهلًا حتّى خفيت معالم وطُمست أنوار اليقين.[١]
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم من الملل الأخرى التي جعلت الأوثان آلهةً لها، فمرنت نفوسهم على عبادتها والخنوع لها وصار من الصعب تحويلهم عنها، كما كانوا يزعمون أنّ هذا هو دين إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وكان الجدل ينشب أحيانًا بين المشركين والنصارى، وأحيانًا بين المشركين واليهود، فكان اليهود يقولون للمشركين: إنّ الله -تعالى- سيبعث نبيًّا من العرب من أهل مكة ويصفونه لهم، ويخبرونهم بأنّه عندما يُبعث فسيقومون بنصرته ومؤازرته.[١]
فلمّا بُعث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قاومه المشركون وعصوه ورفعوا راية العداء في وجهه، وآذوا كلّ من اتبعه وسلك سبيله؛ ممّن أنار الله -تعالى- بصائرهم وشرح صدورهم لمعرفة الحق، أمّا اليهود فلم يتخذوا الموقف الذي تحدّثوا عنه قبل ظهور نبوّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بل صاروا يقولون إنّه لم يأتِ بشيء جديد وكلّ ما جاء به مذكور لديهم في كتبهم التي نزلت على أنبيائهم، فلا ينبغي لهم أن يتركوا ما هم عليه من الحق ليتّبعوا رجلًا لم يأتِ بأفضل ممّا هو بين أيديهم.[٢]
وقد وصل الأمر باليهود أنّهم كانوا يقفون بصفّ المشركين في عدائهم على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعدما كانوا يعاندونهم ويهددونهم بأنّهم سيتبعوّنه وينصرونه قبل بعثته، ففي الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون الحقّ الواضح ويغمضون أعينهم عن النظر فيه نزلت سورة البينة.[٢]
مكان نزول سورة البينة
ذكر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" اختلاف أهل العلم في كون سورة البيّنة سورة مكية أو مدنية؛ حيث قال ابن عطية إنّ الأشهر هو أنّ السورة مكيّة، وهو قول جمهور المفسرين.[٣]
ولكنّ ابن الزبير وعطاء بن يسار قالوا إنّها مدنية، وذكر القرطبي أنّ الجمهور وابن عباس -رضي الله عنهما- قالوا إنّها مدنية، ونسب القول بأنّها مكيّة إلى يحيى بن سلام، وقد أورد ابن كثير في تفسيره حديثًا يُفيد بأنّه لمّا نزلت سورة البيّنة أمر الله تعالى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بواسطة جبريل -عليه السلام- أنّ يقرأها أُبي بن كعب -رضي الله عنه- وأُبي من أهل المدينة.[٣]
وقد جزم البغوي وابن كثير أنّ السورة مدنية -أي أنّها نزلت في المدينة- وقال ابن عاشور إنّ هذا هو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب، وللحديث الوارد في الأمر بقراءة أُبي لها، وعدّها جابر بن زيد من السور المدنية، وقال ابن عطية: إنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إنّما دُفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة.[٣]
ترتيب نزول سورة البينة
تعدّ سورة البيّنة السورة المئة وواحد في ترتيب نزول سور القرآن الكريم، وقد نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فيكون تاريخ نزولها قبل غزوة بني النضير التي كانت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فيكون بذلك تاريخ نزول سورة البيّنة في أواخر السنة الثالثة للهجرة أو أوائل السنة الرابعة.[٣]
أمّا عن مناسبة سورة البيّنة للسورة التي سبقتها في ترتيب سور المصحف وهي سورة القدر؛ فيقول السيوطي: "هذه السورة واقعة موقع العلّة لما قبلها؛ كأنّه لما قال -سبحانه-: {إنا أنزلناه}، قيل: لم أُنزل؟ فقيل: لأنّه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتّى تأتيهم البيّنة، وهو رسولٌ من الله يتلو صحفًا مطهرة، وذلك هو المنزل".[٤]
دروس مستفادة من سورة البينة
تضمّنت سورة البيّنة دروسًا قيّمة وحقائق تاريخية وإيمانية عظيمة، ومنها ما يأتي:[٥]
- بعثة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين عمّا كانوا عليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحوّلوا بدون البعثة النبوية.
- أهلّ الكتاب لم يختلفوا في دينهم نتيجةً للجهل والغموض، وإنّما اختلفوا بعدما جاءهم العلم وجاءتهم البيّنة.
- الدين في أصله واحد ووقواعده واضحة يسيرة لا تدعو إلى الافتراق والاختلاف.
- الكفر بعد إقامة الحجة هو سبب في كون العبد من شرّ البرية وسبب في استحقاقه للعذاب.
- الإيمان والعمل الصالح يجعل المؤمن من خير البرية وهو الطريق لفوزه بالجنة ونجاته في الآخرة.
خلاصة المقال: سورة البيّنة هي سورة عظيمة نزلت لتُبيّن للكفّار من أهل الكتاب والمشركين حقيقة ما هم عليه من الضلال والاختلاف، وتوضّح لهم أنّ الدين الصحيح هو الذي جاء به رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأنّ عدم اتباعه سيكون سببًا في خسارتهم وخزيهم، وقد تعدّدت الأقوال في كون السورة مدنية أم مكية، ورجّح بعض العلماء نزولها في المدينة لأنّها تُجادل أهل الكتاب وتُقيم الحجة عليهم.
المراجع
- ^ أ ب المراغي، أحمد بن مصطفى، تفسير المراغي، صفحة 211-213. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد الأمين الهرري، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، صفحة 205-206. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ابن عاشور، التحرير والتنوير، صفحة 467-468. بتصرّف.
- ↑ السيوطي، كتاب أسرار ترتيب القرآن، صفحة 164.
- ↑ جعفر شرف الدين، كتاب الموسوعة القرآنية خصائص السور، صفحة 79-80. بتصرّف.