محتويات
مفهوم الوحي
إنّ الوحي من حيث اللغة يعني الإشارة والكتابة والإلهام والكلام الخفي وكلّ ما ألقاه الإنسان إلى غيره، وكذلك من معاني كلمة الوحي في اللغة الإيماء كقوله تعالى في سورة مريم: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}،[١] هذا من حيث اللغة،[٢] وأمّا في الاصطلاح فهو أن يُعلِمَ الله -تعالى- عبدًا من عباده ممّن اصطفاهم ما يُريده من العلم والهدي بطريقة خفيّة، وله في ذلك أشكال مختلفة منها ما يكون عن طريق مكالمة بين العبد وربّه كما كلّم الله -تعالى- موسى عليه السلام، ومنها ما يكون إلهامًا يقذفه الله -تعالى- في صدر عبده، ومنها ما يكون رؤيا صادقة، ومنها ما يكون عن طريق أمين الوحي جبريل -عليه السلام- وهي أشهر تلك الصور وأكثرها، وكان نزول القرآن الكريم على رسول الله محمّد -صلى الله عليه وسلّم- كلّه بهذه الصورة، وقد أكثر أعداء الأمّة من الطعن بالوحي واختلاق الأكاذيب عليه، وسيقف المقال مع شبهات حول الوحي وتفنيدها بالأدلة المناسبة.[٣]
شبهات حول الوحي وتفنيدها
إنّ أعداء الإسلام منذ ظهوره على وجه الأرض ما برحوا يحاولون دس الدسائس وكيل التُّهَم واختلاق الأكاذيب وإلصاق الشبهات به؛ ففي كلّ يوم يختلقون فِرية جديدة يروّجون لها لإطفاء الحقّ ونور الإسلام، وقد نسوا -ربّما- أو تناسوا أنّ الله مُتمٌّ نوره رغم أنف الكافرين والكاذبين، ولعلّ أكثر من أسرف في الطعن في الإسلام واختلاق الأكاذيب والترويج لها هم المستشرقون الذين هم في حقيقتهم مظهر من مظاهر التبشير والحروب الصليبيّة الخفيّة التي ارتدت لبوس العلم والمعرفة للترويج لبضاعتهم المزجاة بين العوام، وسيقف المقال فيما يأتي مع أبرز الأكاذيب والشبهات التي قامت حول مسألة الوحي وتفنيدها بالأدلّة العلميّة القاطعة التي لا تدع مجالًا للشكّ في قلب من يقرأ إن شاء الله تعالى.
شبهة إصابة النبي بالصرع لنفي الوحي
لقد اخترع أعداء الإسلام كذبة وصدّقوها وبثّوها في بعض كتبهم يقولون فيها إنّه ما من وحي كان ينزل على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ولكن كان النبي -عليه الصلاة والسلام- مصابًا بالصرع -حاشاه- وأنّ الذي يظنّه الناس وحيًا هو نوبات صرع كان يغرق بها عليه الصلاة والسلام، وهذا الكلام كذِبٌ بالجملة ليس له مصدر، بل مصدره الوحيد هو عقل مريضٌ حاقدٌ على انتشار الإسلام كالنار في الهشيم، فلا يجد أولئك المرضى حلًّا لمحاربته سوى الطعن بنبيّه الذي قد بلغت رسالته ما بلغ الليل والنهار، والرد على هذه الشبهة والكذبة يأتي من طرائق كثيرة، منها أنّهم يستندون على بعض الحالات التي كانت تصيب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عند تلقّيه الوحي من جهد ومشقّة، ولعلّ أشدّها تلك الحالة عندما يأتيه في مثل صلصلة الجرس، إذ اخرج البخاريّ في صحيحه أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "أحْيانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهو أشَدُّهُ عَلَيَّ، فيُفْصَمُ عَنِّي وقدْ وعَيْتُ عنْه ما قالَ"،[٤] وهذه الشدّة التي كان يجدها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- تأتي -كما ذهب علماء المسلمين- من محاولة فهم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الكلام الذي هو كصلصلة الجرس؛ فالذي يتحدّث بكلام مفهوم للجميع يكون الفهم عنه أسهل من الذي يتحدّث بكلام كصلصلة الجرس، فالفائدة من هذه الشدة رفعٌ للدرجات وتقرّبٌ أكثر من الله سبحانه، ولذلك كان يجد من الجهد ما يجعل جبينه يتفصّد عرقًا في اليوم شديد البرد كما تروي أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إذ قالت: "ولقد رأَيْتُه ينزِلُ عليه في اليومِ الشَّاتي الشَّديدِ البردِ فينفصِمُ عنه وإنَّ جبينَه ليتفصَّدُ عرَقًا"،[٥] ولكن ربّما فاتهم أنّ للوحي حالات أخرى لا يصيب النبي -عليه الصلاة والسلام- شدّة معها، وتلك الحالات كثيرة تُنظر في مظانّها ومنها حالة تشكّل الملك جبريل -عليه السلام- بصورة رجل يراه ويسمعه كلّ من حول النبي عليه الصلاة والسلام.[٦]
ولو كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مصابًا بالصّرع لما كانت هذه التهمة لتفوت كفّار الجاهليّة الذين آذوه ووصفوه بصفات كلّها كذب ككذبة المستشرقين هذه، مع العلم أنّ مرض الصّرع كان معروفًا في الجاهليّة وصدر الإسلام، ومن ذلك الحديث الذي يرويه ابن عبّاس أنّ امرأة أتت النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فقالت: "إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي"،[٧] وواضح أنّ الصّرع معروف وهذه المراة تعلم مرضها، ثمّ إنّهم يركّزون على مرحلة النبوّة ويتناسون ما قبلها، ولو كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مصابًا بالصّرع فلماذا لم يُذكر ذلك عنه في مرحلة ما قبل النبوة، ولكنّه الحقد على الإسلام وأهله ليس إلّا، وخيرُ ردٍّ على كذبة الإصابة بالصرع هو ما يدعمه العلم الذي يختبئ وراءه أولئك المستشرقون الصليبيّين، فالعلم له في مريض الصرع آراء منها:[٨]
- أنّ المريض بالصرع يبرد جسمه والنبي -عليه الصلاة والسلام- بعكس ذلك؛ فجبينه يتفصّد عرقًا في اليوم شديد البرد.
- أنّ المريض بالصرع إذا أتته نوبة صرع يتمايل ويتمدّد على الأرض ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، على عكس ما كان يحصل مع النبي -عليه الصلاة والسلام- إذ كان يأتيه الوحي وهو على دابته أو بين أصحابه ولا يحدث معه شيء ممّا يظهر على المصروع.
- أنّ المصروع يقع ما في يده والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يحدث معه ذلك، إذ تروي أم المؤمنين عائشة أنّه بعدما ضُرِبَ الحجاب خرجت أمّ المؤمنين سودة -رضي الله عنهما- لبعض حاجتها، فرآها عمر بن الخطاب -رضي الله عنها- وقد كانت جسيمة لا تخفى على من يراها، فعرفها فقال لها: يا سَوْدَةُ، أما واللَّهِ ما تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كيفَ تَخْرُجِينَ، قالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، ورَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في بَيْتِي، وإنَّه لَيَتَعَشَّى وفي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقالَ لي عُمَرُ كَذَا وكَذَا، قالَتْ: فأوْحَى اللهُ إلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عنْه، وإنَّ العَرْقَ في يَدِهِ ما وضَعَهُ، فَقالَ: "إنَّه قدْ أُذِنَ لَكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ"،[٩] فالعرق -وهو العظم الذي ذهب عنه أغلب اللحم- لم يسقط من يده، بل إنّه قد أوحي إليه ولم يقع العظم من يده وتابع طعامه بعدها.
- والمصروع لا يذكر ما حدث معه على عكس النبي صلّى الله عليه وسلّم.
- والمصروع يهذي بكلام غير مفهوم بينما يأتي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالكلام الجليل والحكمة والمواعظ والأحكام والقرآن.
- والمصروع يصفرّ وجهه بينما رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يصبح وجهه أحمر، وبذلك يتّضح جليًّا الافتراءات التي يسوقها أولئك القوم للنبي -عليه الصلاة والسلام- التي يريدون من ورائها إنكار ظاهرة الوحي، والله أعلم.
شبهة أن النبي قد جاء بالقرآن من مجتمعه
ويرى أصحاب هذه الشبهة أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أتى بالقرآن الكريم من مجتمعه المحيط من الوثنيين وأهل الكتاب، ولعلّه لهوان هذه الشبهة سيكون الردّ عليها مقتضبًا، فأمّا أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- قد جاء بالقرآن من مجتمعه الوثني الجاهل فهذا بعيد لما ورد من صفات هذا المجتمع في كثير من آيات القرآن الكريم، منها -مثلًا- ما ورد في سورة النحل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}،[١٠] وأيضًا ما ورد في جهلهم قوله تعالى عن عاداتهم التي فيها كمّ بالغ من الجهل والتخلّف، فيقول تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ۗ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}،[١١] وأمّا أنّه قد تعلّمه من اليهود والنصارى فلا معنى لهذا الكلام لأنّ كتب اليهود والنصارى لم تُنقل إلى العربيّة إلّا بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بقرون، وأيضًا فوقت النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل البعثة كان بين التجارة ورعي الأغنام فلم يكن عنده وقت ليجلس إلى أهل الكتاب ليتعلّم منهم كما يدّعي أولئك القوم،[١٢] وغير ذلك فهذه التهمة قديمة قد ذكرها كفّار الجاهليّة حين قالوا إنّ القرآن أساطير الأوّلين،[١٣] يقول تعالى في سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[١٤]، فيقول الإمام ابن كثير معلّقًا على هذه الكذبة بما يدفعها: "إنّه قد عُلِمَ بالتواتر وبالضرورة أنّ محمّدًا رسول الله لم يكن يعاني شيئًا من الكتابة لا في أوّل عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أوّل مولده إلى أن بعثه الله نحوًا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبرّه وأمانته ونزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنّهم لم يكونوا يسمّونه في صغره إلى أن بُعِثَ إلّا الأمين؛ لما يعلمون من صدقه وبرّه، فلمّا أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلمُ كلّ عاقلٍ براءته منها..."، والله أعلم.[١٥]
شبهة الوحي النفسي
يرى الماديّون من الغرب أنّ مسألة الوحي هي مسألة نفسيّة قد مرّ بها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لأنّهم يُنكرون عالم الغيب والأمور التي لا تثبت عندهم بمعاييرهم الخاصّة التي يستندون عليها، تلك المعايير التي تنفي عوالم ما وراء الطبيعة من عالم الروح وغيره، فيرون أنّ الوحي الذي كان يتحدّث عنه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان أحاديث نفس تحدّثه به نفسه ليس إلّا، وليس هنالك ملَكٌ مُرسل من عند الله تعالى، وقد استند أولئك الماديّون على ستّة أمور ليثبتوا صحّة دعواهم، وهي:[١٦]
- أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يخرج مع عمه أبي طالب في التجارة، وكان يسمع في طريقه من الأعراب الذين يسكنون ديار الأقوام البائدة كثمود ومدين أخبارهم، وكذلك قد لقي الراهب بحيرى الذي كان نصرانيًّا موحّدًا من أتباع آريوس، ولا بدّ أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- قد تعلم منه.
- علاقة النبي -عليه الصلاة والسلام- بورقة بن نوفل أحد النصرانيين الموحدين في الجاهلية.
- أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قد استفاد من بعض الفصحاء الذين تنصّروا في الجاهلية كقُس بن ساعدة الإيادي وأميّة بن أبي الصلت الذين كانوا يسمعون من الرهبان والقساوسة قرب ظهور نبي العرب فاستفاد من هذه البشارة وأخذ الدعوة لنفسه.
- زعموا أنّ هناك يهودًا ونصارى في مكة من العبيد والخدم وكانوا يتحدثون عن قصص الأولين فاستفاد النبي -عليه الصلاة والسلام- من قصصهم.
- ذكروا أنّ أهل مكة كانوا يمرّون في رحلاتهم في الصيف والشتاء إلى اليمن والشام بدور عبادة أهل الكتاب، فاستفاد النبي -عليه الصلاة والسلام- ممّا سمعه فتعلّقت روحه بفكرة النبوة وظهر ذلك على لسانه بالدعوة.
- وأخيرًا فقد قرّروا أنّ خلوات النبي -عليه الصلاة والسلام- في غار حراء وتفكّره المتواصل بخلق الله -تعالى- جعل قلبه يمتلئ بالوحدانية حتى أيقن أنّه هو النبي المنتظر، فتجلى له هذا الاعتقاد بالرؤيا ثم تطوّر الأمر فصار يعتقد أنّه يرى ملَكًا، ومصادره التي سيحدّث الناس بها هي تلك المعارف التي اكتسبها ممّا سبق.
والحقّ أنّ هذه الشبهة أوهى من بيت العنكبوت، والرد عليها يكون كما يأتي بحسب ترتيبها أعلاه:[١٧]
- الأمر الأوّل: إنّ الثابت في السيرة النبوية أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يرافق أبا طالب سوى مرة واحدة، والراهب بحيرى حين شاهد الغمامة تظلّله -عليه الصلاة والسلام- فإنّه سارع في تحذير أبي طالب من اليهود الذين سيؤذون النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا حظوا به، وأمّا أنّه قد التقى بساكني أراضي مدين وثمود وغيرها فليس بصحيح لأنّها ليست في طريقهم إلى الشام.
- الأمر الثاني: علاقة النبي -عليه الصلاة والسلام- بورقة لم تكن كما ذكروا، ولكنّه التقى به مرّة واحدة فقط حين هبط عليه الوحي في غار حراء، فأخذته خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- إلى قريبها ورقة بن نوفل، فبشّره بأنّ هذا هو الناموس -الوحي- الذي كان يهبط على الأنبياء قبله، وكذلك أخبره أنّ قومه سيعادونه ويخرجونه من دياره، فقال عليه الصلاة والسلام: "أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ"، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ"،[١٨] وهذه المرة الوحيدة التي التقى بها النبي -عليه الصلاة والسلام- ورقة، وتوفّي بعدها وكان شيخًا طاعنًا في السن، ولا يُعقل أنّ لقاء خاطفًا كهذا سيكون له أثرٌ كبير في حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- وسيُثري معلوماته ويجعل من ذلك قرىنًا كما يقولون.
- الأمر الثالث: أوّلًا قسّ بن ساعدة كان من المتحنّفين الموحّدين ولم يكن نصرانيًّا، وقد مات قبل البعثة بزمن طويل، وأمّا أميّة بن أبي الصلت فقد كان من الحنيفيين الموحّدين، ولكنّه في آخر حياته لمّا سمع باقتراب ظهور النبي العربي لبس مُسوح الرهبان وطمع في أن يكون هو النبي، ولكن لمّا بُعث النبي -عليه الصلاة والسلام- أخذه الحقد والحسد ولم يُسلم، وعندما سمع النبي -عليه الصلة والسلام- شيئًا من شعره قال: "وكادَ أُمَيَّةُ بنُ أبِي الصَّلْتِ أنْ يُسْلِمَ"،[١٩] هذا بالنسبة لهذين الذين ذكرهما أولئك القوم، وأمّا بالنسبة لوجود اليهود والنصارى في مكة فلم يكن كذلك، بل هم كانوا إلى جوار المدينة ولم يكن لهم ذلك التأثير، ولو كان لهم تأثير لأثّروا بالأوس والخزرج، فلم يتهوّد من العرب إلّا قليل، والذين تنصّروا هم أقل من ذلك، وكان ما يعرفونه هو ما يعرفه اليهود والنصارى آنذاك من معلومات مشوّهة مُحرّفة لا تتناسب مع الأمور الصادقة التي جاء بها القرآن.
- الأمر الرابع: وهذا الامر قد رُدّ عليه في النقطة السابقة؛ فمكّة لم يكن فيها لا يهود ولا نصارى، ولو كان فيها من أحد لوجدها المشركون مطيّة لكذباتهم، وقد سبق أن رموا النبي -عليه الصلاة والسلام- بتهمة أنّه يقف عند قين روميّ يصنع السيوف فيقف معه النبي -عليه الصلاة والسلام- ويتحدّث معه، فقال المشركون هذا القين يعلّم النبي -عليه الصلاة والسلام- القرآن، فأنزل الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}.[٢٠]
- الأمر الخامس: إنّ القرشيين كانوا أهل تجارة ولم يستفيدوا من رحلة الشتاء والصيف سوى بالتجارة ولا يهمهم ما سوى ذلك، ولا يُذكر أنّ من أهل مكّة من تهوّد أو تنصّر، ومن تهوّد أو تنصّر منهم هم قلّة قليلة لا يُذكرون.
- الأمر السادس: وأمّا دعوى أنّه في خلوته قد أحبّ أن يكون نبيًّا فلا أسهل من الرد عليها بقوله تعالى في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ}،[٢١] فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن يرجو أن يكون نبيًّا، ولكنّ الله أعلم حيث يضع رسالته، وأمّا كون النبع الذي صدر عنه القرآن الكريم الذي خرج من صدر النبي -عليه الصلاة والسلام- والذي يرونه التعاليم التي أخذها من اليهود والنصارى ومن أخبار الأمم البائدة فهو مردود جملة وتفصيلًا؛ كون الوحي الذي هبط على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد جاءه بالعبادات والتشريعات والعقائد والمعاملات والحدود والاقتصاد والسياسة والأمور الجنائية وغير ذلك الكثير، فلا يُعقل أن يكون كلّ ذلك من لقاءات عابرة على هامش الحياة هذا إن كانت تلك اللقاءات صحيحة وقد حدثت فعلًا، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، والله أعلم.
المراجع
- ↑ سورة مريم، آية:11
- ↑ "تعريف ومعنى الوحي في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ "مفهوم الوحي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:2، حديث صحيح.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:38، أخرج ابن حبان هذا الحديث في صحيحه.
- ↑ "أنواع الوحي وصوره، وأثرها على النبي، ورد على ادعاء إصابته بالصرع"، islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:5652، حديث صحيح.
- ↑ "أنواع الوحي وصوره، وأثرها على النبي، ورد على ادعاء إصابته بالصرع"، islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:4795، حديث صحيح.
- ↑ سورة النحل، آية:20-21
- ↑ سورة النحل، آية:56-59
- ↑ "شبهات حول الوحي"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ "هل القرآن وحي من الله أم تأليف من الرسول؟"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ سورة الفرقان، آية:5
- ↑ "القرىن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الفرقان - الآية 5"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ "المدخل لدراسة القرآن الكريم"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ "المدخل لدراسة القرآن الكريم"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-23. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:3، حديث صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6147، حديث صحيح.
- ↑ سورة النحل، آية:103
- ↑ سورة القصص، آية:86