شرح وتحليل قصيدة الكوليرا

كتابة:
شرح وتحليل قصيدة الكوليرا

شرح أبيات قصيدة الكوليرا

إنّ موضوع القصيدة هو وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر، وعند تحليل القصيدة نلحظ أنّ الشاعرة وظفت مشاعرها وأحاسيسها نحو مصر حين داهمها هذا الوباء، محاولةً التعبير عن واقع أليم بعاطفة حزينة سيطرت على النص الأدبي، إذ تقول:

سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنين
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ على :الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ[١]

نلحظ في الأبيات السابقة أنّ العاطفة المُخيّمة عليها هي: عاطفة الحزن والأسى، حيث تُعبّر الشاعرة عن حال البيوت المسكونة بالفقد والشجن، وجاءت كلمة الموت مُكرّرةً أكثر من مرة دلالةً على سيطرة الموت على الحياة، فضلًا عن الصّرخات والأحزان التي يُسبّبها هذا المرض، ورغم كل ذلك إلّا أنّ الليل ساكن وهذا من آثار موت الأحباب ورحيلهم، فحلّ الصّمت مكان الضجيج.

طَلع الفجرُ
أصغِ إلى وقع خُطى الماشين
في صمتِ الفجْر أصِخْ انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكين
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى مَوْتَى ضاعَ العددُ
مَوْتَى موتَى لم يَبْقَ غَدُ[٢]

تصف الشاعرة حال البلاد بعد أنْ تفشّى فيها المرض، فتبدأ بقولها: (طلع الفجر) وهنا جاء الفجر دلالةً على حالة اليأس لا الأمل، وتُعبّر الشاعرة عن الدمار الذي حلّ بالبلاد والناس، فأعداد الموتى بازدياد دون التفرقة بين الصغير والكبير، ليقضي على أمل المستقبل والغد.

في كلّ مـكانٍ جـسـدٌ يندبه محزونُ
لا لحظةَ إخلاد لا صَمْتْ
هذا ما فعـلتْ كفُّ الموتْ
المـوتُ الـموتُ الـموت
الكوليرا
تـشكو البشريّةُ تـشكو مـا يرتكبُ الموتْ
في كَهْـفِ الرُّعْـب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ[٣]

تستمرُّ الشاعرة في التعبير عن آثار وباء الكوليرا، ففي كل مكان على الأرض جسدٌ مُصاب بهذا المرض، فقد أزال الصّمت والخلود، فالبشريّة تشكو منه و لا حل له سوى الموت، فأصبح الموت دواءً ومُنقذًا للبشرية، وتنتقل بعد ذلك لوصف المعيشة، فكهف الرعب هنا يُقصد به مكان مَبيت المصريين لشدة فقرهم وعُسر حالهم آنذاك.

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ[٤]

تُشبّه الشاعرة مرض الكوليرا بالإنسان الذي يستيقظ بعد غفلة، مُمتلِئًا بالحقد لينتشر في كل مكان ويقضي على كل شيء، فهو كالمجنون المضطرب في البيوت والأكواخ والوديان، حتى كانت نتيجة حقده الموت.

في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبننُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّير[٥]

تستمرّ الشاعرة بتشبيه الكوليرا بالإنسان القاسي الذي يُحاول الانتقام من البشرية جمعاء في الموت، فبسببه أصبح الصمت مُرًّا، فلا الأذان يُرفَع ولا حُفّارََ لقبورالأموات، ذلك الموت الذي أخذ الكبار ويَتـّم الصّغار، فلم يُبقِ سوى النّواح والزّفير والبكاء.

يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ[٦]

تُخاطب الشاعرة الموت، فتناديه بشيخ الهيضة دلالةً على ما يحمله من هموم وأحزان، فهو أنهى كلّ شيء ولم يُبقِ سوى الحزن والأسى، حيث عبّرت الشاعرة عن شعورها بالتمزق الداخلي والحُرقة على مصر.

التحليل الموضوعي لقصيدة الكوليرا

عند دراسة أيّ قصيدة نقف عند جانبين: الجانب الموضوعي الذي يهتم بما يدور حوله النص من معنى إجماليّ وأفكار رئيسة، والجانب الفنيّ المُتعلّق بالنواحي البلاغية من تشبيهات واستعارات وانزياحات، وفيما يلي ذِكرٌ لأهمّ موضوعات قصيدة" الكوليرا":

حتمية الموت

إنّ الموت هو المحور الرئيس في القصيدة، فانتشرت لفظة الموت وتكررت في مواضع كثيرة، ووظفت الشاعرة الموت في صور عديدة وذكرت آثاره في الحياة العامة وعلى الناس، حتى وصل الأمر إلى مخاطبته شخصيًا وخَلْقِ حوارٍ معه، كما أنّ النتيجة الدائمة والحتمية للأحداث والمجريات هي الموت فلا ينجو منه أحد، صغيرًا كان أم كبيرًا .[٧]

سوداوية الوباء

إنّ القصيدة مفرطة في السوداوية من ناحية المضمون، وتجلّى ذلك في حديث الشاعرة عن الموت، فالوباء إعدام علنيّ لمظاهر الحياة والناس كافّة، حتى الفجر الذي هو مبعث للأمل أصبح في القصيدة دلالةً على اليأس والحزن.[٨]

موقف الشاعرة

يُحاكي الشعر النفس البشرية وخباياها، وهذا ما سارت عليه نازك الملائكة في قصيدة "الكوليرا"، حيث حاولتْ مُحاربة الوباء اللعين بكلماتها ووصفت حال المجتمع والناس إِثْر حدوثه، معلنةً تعاطفها الكبير مع مصر في آخر الأبيات، وما تشعر به من ألم ووجع جرّاء هذا المشهد القاسي الذي خلّفه المرض.[٩]

أسلوب القصيدة البلاغي والشعري

سلاسة الشعر الحر

تشيرالمعطيات التاريخية إلى أنّ الشعر الحُر أوشعر التفعيلة بدأ في العراق، تحديدًا عام 1947م، فكانت قصيدة الكوليرا التي أبدعت فيها الشاعرة نازك الملائكة بداية انطلاق الشّعر الحرّ، وتبعها بدر شاكر السياب في قصيدته " هل كان حُبًّا"، وأثبتت الملائكة قدرتها الشعرية والبلاغية في قصيدة " الكوليرا" التي أدمت القلوب، حيث خرج الشعر الحر عن الشعر التقليدي ذي الشطرين، فأصبح يحاكي معطيات الواقع بطريقة سلسلة ومرنة دون قيود.[١٠]

الانزياح الإيقاعي

يُمكن القول: إنّ هذه القصيدة جاءت على مستوى التوزيع الإيقاعي، فقد أبدعت الشاعرة في التنقل بين مستوى بناء المعنى والمستوى الإيقاعي، فكان الأخير غريبًا على الأذن العربية التي اعتادت على أوزان الفراهيدي، وهذا ما جعلها قصيدةً متميزة ومختلفة.[١١]

نُظِمتْ القصيدة على البحر المُتدارك، فساعد ذلك الشاعرة على أنْ تكون أكثر حريةً في السّطر الشعري، كما أنه أثرى إيقاع القصيدة، وتعدّدت القافية فيها ممّا أضاف تعبيرًا صادقًا عن القلق والاضطراب والحزن، ممّا يعكس الحالة النفسية للشاعرة.[١٢]

التقديم والتأخير

أكثرت الشاعرة في القصيدة من أساليب التقديم والتأخير، وذلك تبعًا للانفعالات والرغبات؛ فاللفظ الذي يسبق هو الأقوى على التأثير ويحمل دلالاتٍ عدة، ونُدلّل على ذلك بالأمثلة الآتية:[١٣]

  • قول الشاعرة: "في كلّ فؤاد غليان" فهنا تقدّم الخبر" شبه الجملة" على المبتدأ النكرة ليُفيد التعميم، دلالةً على أنّ الفاجعة لم تترك أحدًا.
  • قول الشاعرة: "يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ" تقدّم المفعول به " شعوري" على الجملة الفعلية، وفي ذلك دلالة على أثر الموت الكبير في مشاعر الناس.

الأساليب الخبرية

تأتي الأساليب في اللغة نوعين: خبريّ وإنشائيّ، وقد أكثرت الشاعرة من استخدام الأساليب الخبرية، وكان القصد من ورائها الإحساس بالضعف والتحذير والتحسر، ومن الأمثلة على ذلك: "صرخات تعلو، تضطرب"، "روح تصرخ في الظلمات"، كما أنّ الأسلوب الخبريّ يحمل معنى الثبات والاستقرار؛ فكأنّ حالهم المتمثل بالفقد واليأس استمرّ فترة طويلة.[١٤]

التكرار

جاء التكرارفي القصيدة بشكلٍ مُلاحظ؛ للتأكيد على بعض المعاني وإثراء الموسيقى الشعرية، ومن الأمثلة على ذلك هو تكرار لفظة الموت أكثر من مرة وفي أكثر من موضع.[١٥]

العاطفة

تمثلت العاطفة الرئيسة في القصيدة بعاطفة الأسى والشجن، فالحزن يُخيّم على بنية القصيدة، و يظهرذلك جليًا في الافتتاحية إذ تقول: "سكن الليل"، إضافة إلى دعمها القصيدة بالصور الفنية المؤلمة وتوظيفها لمفردات توحي بالكآبة والوجع.[١٦]

الصور الشعرية في القصيدة

أبدعت الشاعرة في التصوير الشعري ونوّعت في طرائقه، للتعبير عن عاطفة الحزن والأسى التي خيّمت على النص، وذلك على النحو الآتي:

الصور البيانية

من أبرز الأمثلة على الصور البيانية ما يأتي:[١٧]

  • التشبيه
    • "سكن الليل، أصغ إلى وقع صدى الأنات": تشبّه الشاعرة الليل بالإنسان الهادئ والساكن، كما تُشبّه صوت الأنين بوقع الصدى الذي يُسمع ويُصغى إليه.
    • "حزن يتدفق يلتهب يتعثَر فيه صدى الآهات": تشبه الحزن بتدفق الماء والشيء الذي يلتهب من الحروق، ومن ثم تنتقل لتشبهه بالشيء الكبير الذي يعيق أي محاولات لتخطيه.
    • "استيقظ داء الكوليرا حقدا يتدفق موتورا": تشبّه الشاعرة داء الكوليرا بالإنسان الحاقد والذي يتدفق منه الغضب.
    • "يصرخ مضطربًا مجنونًا لا يسمع صوت الباكينا": تشبّه الشاعرة داء الكوليرا بالإنسان المضطرب والمجنون والقاسي الذي لا يسمع أصوات البكاء.
    • "يا شبح الهيضة ما أبقيت لا شيء سوى أحزان الموت": تشبه الشاعرة مرض الكوليرا بالشبح الذي لا يخلف سوى الموت.
  • الاستعارة المكنية
    • "يا مصر شعوري مزّقه ما فعل الموت": تشبّه الشاعرة شعورها تجاه ما يحدث في مصر بالشيء المُمزّق والسبب هو الموت، فكأن الموت أداة حادة.

المحسنات البديعية

تنوّعت المحسنات البديعية في القصيدة، وقد أكثرت الشاعرة من استخدامها:

  • الجناس الناقص

الاختلاف في عدد الحروف بين لفظتين، ويكون بالزيادة أو بالحذف، وهو من المحسناتِ البديعيّةِ التي يمكنُ إدراجُهَا تحتَ الانزياحِ الصوتيِّ، وتنتجُ عنْهُ قيمةٌ جماليّةٌ فنيّةٌ فهو يزيد من التناغمِ، ومن الأمثلة عليه من القصيدة:

  • عشرة، عشرونا.
  • مات، ميّت.

الجمع بين الشيء وضدّه، وقد طوّعته الشاعرة فيما يخدم غرض القصيدة؛ للمفارقة بين الحال قبل الوباء وبعده، ومن الأمثلة عليه كما جاء في القصيدة:

  • ضاع، يبق.
  • داء، دواء.
  • الليل، الفجر.

أهم آراء النقاد في القصيدة

من أبرز الآراء التي قيلت في قصيدة نازك الملائكة وفي أشعارها بشكلٍ عام :[١٨]

  • علي جعفر العلاق

يقول الناقد علي جعفر العلاق" لم تكن نازك شاعرة فقط بل كانت ناقدة من طراز ممتاز، وحين كتبت القصيدة الحديثة كانت ترقب المشهد الشعري بيقظة عالية وسجلت العثرات الأولى لهذه التجربة كما سجلت خطوات النجاح الأولى، وقد يجادل البعض في أن نقد نازك كان وسيظل أكثر أهمية من الشعر الذي كتبته ومع ذلك فان نازك قد تفردت كشاعرة بوعيها لشكل الشعر الجديد وتحقيقها لمستويات عالية من البناء الشعري في معظم قصائدها".

  • فيصل دراج

يضيف الناقد فيصل دراج "أنّ نازك الملائكة من أبرز الوجوه في إطلاق ما يُعدُّ الآن بالشعر العربي الحديث وسواء كانت الريادة تعود لها في قصيدتها الشهيرة “الكوليرا” ام إلى الشاعر بدر شاكر السياب فإنها بالتأكيد شكلت مع السياب ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي الصوت الأكبر الذي استهلت به الحداثة الشعرية".

المراجع

  1. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 138.
  2. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 139.
  3. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 140.
  4. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 140.
  5. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 141.
  6. نازك الملائكة، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، صفحة 142.
  7. أسامة محمد سليم عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 564. بتصرف
  8. "قيثارة الشعر العربي نازك الملائكة"، ديوان العرب. بتصرف
  9. أسامة عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 551. بتصرف
  10. رشيد الخديري، شعرية القصيدة الحضور في الغياب، صفحة 56. بتصرف
  11. توتاي سيف الدين هشام، شعرية الانزياح في بنية القصيدة العربية، صفحة 118. بتصرف
  12. أسامة محمد سليم عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 562. بتصرف
  13. أسامة محمد سليم عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 555. بتصرف
  14. محمد عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 564. بتصرف
  15. محمد عطية، خصائص التراكيب في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة دراسة نحوية دلالية، صفحة 563.بتصرف
  16. "قيثارة الشعر العربي نازك الملائكة"، ديوان العرب. بتصرف
  17. "نازك الملائكة أو الشاعرة التي كسرت عمود الفحولة"، القدس العربي. بتصرف
  18. عزيزة علي (25/7/2011)، "نقاد ومبدعون: نازك الملائكة تفردت بوعيها للقالب الإيقاعي وحققت ريادة استهلت بها الحداثة الشعرية"، الغد ، اطّلع عليه بتاريخ 9/12/2021. بتصرف
6625 مشاهدة
للأعلى للسفل
×