شعر الغزل الجاهلي

كتابة:
شعر الغزل الجاهلي

الغزل في العصر الجاهلي

كيف جسّدت القصيدة الجاهلية وصف الجمال واستجلاءه؟

إنّ الغزل هو أحد الأغراض الشعريّة عند الشعراء بمختلف العصور، إذ اشُتهر العصر الجاهلي بالغزل، فكان الشعراء يتغزّلون بالنساء، ويتحدّثون حِيالهنّ بمشاعر الهيام والصّبابة والعشق، إذ طغى هذا الغرض على أشعارهم، فأصبحت لا تكاد تخلو قصيدة من الغزل، فيقولون قصائدهم بالنّساء، وسُمّي هذا النوع بالمقدّمة الطلليّة، أي أن يقف الشاعر على أطلال محبوبته فيبدأ بذكرها ووصفها، وتوظيف عبارات ومشاعر الحنين لها، وذلك عبر مطلع كلّ قصيدة.[١]


لقد كان الغزل في القصيدة الجاهليّة سمة من سمات الجمال الشعريّ لديهم، فهو ينشّط الشاعر ويجعله يندفع نحو الإبداع في الشعر، إضافة إلى تنشيط المُستمع والقارئ للأبيات الشعريّة، فكان الغزل لديهم يعتمد على الوصف، أي أن يصِف الشّاعر محبوبته وتفاصيل جمالها، ويتغزّل بعينيها وقوام جسدها وشعرها، وما إلى ذلك، فكان أسلوب شعراء الغزل في الجاهلية لا يختلف عن أسلوب المدح، فكلاهما يختصّ بذكْر محاسن الموصوف.[١]

الصدق الفني في شعر الغزل الجاهلي

كيف يتمكّن الشاعر من جمع العاطفة والصّدق الفني في أبياته؟

يُعدّ الغزل من أصدق فنون الشعر الجاهلي؛ إذ كان الشعراء يُصوّرون أحداث النّفوس وخلجاتها بكلّ صدق فنيّ وبلاغة، فيكشف عن دواخل المُحبّ، وعن سريرة المحبوبة، فينبع من عاطفة الحب، ويدور في أغلبه حول المرأة، إذ يُمثّل العاطفة الإنسانيّة الخالدة على مرّ العصور، فكان الغزل من أصدق الفنون وأكثرها تأثيرًا وخيالًا وإبداعًا في الأسلوب، وهو أبعد الأغراض عن النّحل والوضع؛ ذلك لأنّه يصف ما هو داخليّ، ولا يعتمد على الوقائع الخارجيّة والنّزعات القبليّة.[٢]


كان للشعر العربيّ القديم دور عميق في شعر الغزل، وفي وصف المرأة والمحبوبة، حتى أنّ بعض الأدباء وضعوا مُرادفات تشير إلى الغزل، ومنها: النّسيب، والتشبيب، فالبعض رأى أنّها ألفاظ تدلّ على الشيء ذاته، والبعض الآخر لم يُؤيّد هذا الكلام، فكانوا يعدّونه أنّه رأي الشاعر في حُبّ المرأة والميل إليها والتعبير في ذلك فقط، وأنّ النسيب هو التعبير الصادق عن هذا الحب، وفي هذا الرأي اختلف الأدباء واللُّغويّون، ولكن ممّا لا شك به أنّهما يصبّان بالمرأة نفسها وبالغزل بها.[٣]


إنّ الصدق الفني له أسباب وبواعث تجعله يصل إلى هذه الدرجة من البلاغة الصادقة، ومن هذه البواعث أن يُعبّر الشاعر عن عاطفته هو، أي عاطفة حبّه وإعجابه بهذه المرأة التي يختارها قلبه، وربّما يتغزّل لأنّه مدفوع بميله الفنيّ إلى التعبير عمّا في نفسه، إذ اتّسم ببراعة التصوير، والقدرة على التّعبير الصادق، فكان الغزل الموسوم بالصدق من أسمى أبواب الشعر العربي، إذ ضلّ قويًّا حيًّا يؤثّر فيما بعده من العصور، تعبيرًا وتصويرًا حتى وصل إلى العصر الحديث.[٤]


إنّ الأسلوب الأدبيّ في كتابة شعر الغزل يختلف من شاعر إلى آخر، إذ توزّع بين ما هو عفيف وبين ما هو ماجن وصريح، ولكن الحقيقة أنّ الشعراء الذين وُصفوا بالغزل الحسيّ، وأُغرقوا في الوصف المادي، هم في حقيقتهم لم يقتصروا على وصف المرأة وجسدها فقط، بل هناك أبيات كثيرة تُشير إلى التّعبير عن العواطف والانفعالات الحقيقية والبعيدة بعض الشيء عن الوصف الحسيّ وحده، وأمثال هؤلاء: امرؤ القيس، والشّاعر عنترة بن شداد، وغيرهم.[٥]


لقراءة المزيد عن الشعر الجاهليّ، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: الأدب العربي في العصر الجاهليّ.


أشهر شعراء الغزل في العصر الجاهلي

كيف استطاعت المرأة أن تُحقّق حضورها في الشعر الجاهلي؟

اشتُهر العصر الجاهليّ بغرض الغزل، ومن أشهر مَن كتب شعر غزل جاهلي هم امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وعروة بن حزام، والأعشى، والنابغة الذبياني، ويعد هؤلاء الشعراء من أول من أدخل الشعر إلى مخادع النساء، أي الحديث في الغزل عبرهن، كما أنّ غالبيّة هؤلاء الشعراء كانوا من أصل عائلة اشتهرت بالشعر، لذلك فالقارئ لأشعارهم يلمس مدى الإبداع الفني.[٦]

امرؤ القيس

هو الشاعر جندح بن حُجر بن حارث الكندي، يُعدّ من أبرز الشعراء العرب في العصر الجاهليّ، لُقّب بامرئ القيس، نشأ في حياة مُترفة، وأكثر ميلًا إلى الترف، فكان أبوه ملكًا على بني أسد، وأمّه هي أخت كليب والشاعر المهلهل، ويعدّ من أول الشعراء وأشهرهم الذين أدخلوا الشعر والقصائد إلى مخادع النساء، إذ سلك في شعره مسلكًا يُخالف به البيئة التي حوله والتقاليد المُتعارف عليها آنذاك، إذ يقول:[٧]


لَعَمرُكَ ما قَلبي إِلى أَهلِهِ بِحُر

وَلا مُقصِرٍ يَومًا فَيَأتِيَني بِقُر

أَلا إِنَّما الدَهرُ لَيالٍ وَأَعصُرِ

وَلَيسَ عَلى شَيءٍ قَويمٍ بِمُستَمِر

لَيالٍ بِذاتِ الطَلحِ عِندَ مُحَجَّرِ

أَحَبُّ إِلَينا مِن لَيالٍ عَلى أُقَر

أُغادي الصَبوحَ عِندَ هِرٍّ وَفَرتَنى

وَليدًا وَهَل أَفنى شَبابِيَ غَيرُ هِر

إِذا ذُقتُ فاهًا قُلتُ طَعمُ مُدامَةٍ

مُعَتَّقَةٍ مِمّا تَجيءُ بِهِ التُجُر

هُما نَعجَتانِ مِن نِعاجِ تِبالَةِ

لَدى جُؤذَرَينِ أَو كَبَعضِ دُمى هَكِر

إِذا قامَتا تَضَوَّعَ المِسكُ مِنهُم

نَسيمَ الصَبا جاءَت بِريحٍ مِنَ القُطُر

كَأَنَّ التُجارَ أُصعِدوا بِسَبيئَةٍ

مِنَ الخِصِّ حَتّى أَنزَلوها عَلى يَسَر

فَلَمّا اِستَطابوا صُبَّ في الصَحنِ نِصفُهُ

وَشُجَّت بِماءٍ غَيرِ طَرقٍ وَلا كَدِر

بِماءِ سَحابٍ زَلَّ عَن مُتنِ صَخرَةٍ

إِلى بَطنِ أُخرى طَيِّبٍ ماؤُها خُصَر

لَعَمرُكَ ما إِن ضَرَّني وَسطَ حِميَرٍ

وَأَقوالِها إِلّا المَخيلَةُ وَالسُكُر[٨]


لقراءة المزيد من قصائد الشاعر، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: أجمل ما كتب امرؤ القيس.


زهير بن أبي سلمى

وهو من الشّعراء الثلاثة المتقدمين في شعرهم على عصرهم، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني، إذ تتلمذ زهير في شعره على يد زوج والدته وهو أوس بن حجر، كما تميّز شعره بالحكمة والصدق، والبعد قليلًا عن المدح، وكانت تُسمّى أشعاره بالحوليات؛ وذلك لأنّه كان ينظم الشّعر في شهر، وينقحها ويهذّبها في سنة كاملة، وهو من عائلة اشتهرت بالشعر، فأخته هي الشاعرة الخنساء التي عٌرفت بقصائد الرثاء، ومن أشعار زهير بن أبي سلمى:[٩]


صَحا القَلبُ عَن سَلمى وَأَقصَرَ باطِلُه

وَعُرِّيَ أَفراسُ الصِبا وَرَواحِلُه

وَأَقصَرتُ عَمّا تَعلَمينَ وَسُدِّدَت

عَلَيَّ سِوى قَصدِ السَبيلِ مَعادِلُه

وَقالَ العَذارى إِنَّما أَنتَ عَمُّنا

وَكانَ الشَبابُ كَالخَليطِ نُزايِلُه

فَأَصبَحتُ ما يَعرِفنَ إِلّا خَليقَتي

وَإِلّا سَوادَ الرَأسِ وَالشَيبُ شامِلُه

لِمَن طَلَلٌ كَالوَحيِ عافٍ مَنازِلُه

عَفا الرَسُّ مِنهُ فَالرُسَيسُ فَعاقِلُه

فَرَقدٌ فَصاراتٌ فَأَكنافُ مَنعِجٍ

فَشَرقِيُّ سَلمى حَوضُهُ فَأَجاوِلُه

فَوادي البَدِيِّ فَالطَوِيُّ فَثادِقٌ

فَوادي القَنانِ جِزعُهُ فَأَفاكِلُه

وَغَيثٍ مِنَ الوَسمِيِّ حُوٍّ تِلاعُهُ

أَجابَت رَوابيهِ النِجا وَهَواطِلُه

هَبَطتُ بِمَمسودِ النَواشِرِ سابِحٍ

مُمَرٍّ أَسيلِ الخَدِّ نَهدٍ مَراكِلُه

تَميمٍ فَلَوناهُ فَأُكمِلَ صُنعُهُ

فَتَمَّ وَعَزَّتهُ يَداهُ وَكاهِلُه

أَمينٍ شَظاهُ لَم يُخَرَّق صِفاقُهُ

بِمِنقَبَةٍ وَلَم تُقَطَّع أَباجِلُه[١٠]

عنترة بن شداد

عٌرف بجمال شعره وبعفّة غزله بحبيبته عبلة، كما اشتهر بشعر الفروسيّة، أمّا عن مولده فقط وُلد من أصل أب عربيّ وأم حبشيّة، ويُقال إنّه جاء مختلفًا عن بقية أقرانه، وذلك الاختلاف يظهر في ضخامة جسده، وشعره المجعّد، ووجهه العبوس، إضافة إلى طول قامته، كما يُقال إنّه ذاق مرارة العيش والحرمان، إذ كان أبوه يُعامله بكلّ سوء وعقاب، فظهر ذلك الحرمان في شعره، كما كانت أشعاره تلتمس غرض الغزل في بعض الأحيان، ومن شعر عنترة بن شدّاد قوله:[١١]


إذا الريحُ هبَّتْ منْ ربى العلم السعدي

طفا بردها حرَّ الصبابةِ والوجدِ

ولولاَ فتاة في الخيامِ مُقيمَةٌ

لما اختَرْتُ قربَ الدَّار يومًا على البعدِ

مُهفْهَفةٌ والسِّحرُ من لَحظاتها

إذا كلمتْ ميتًا يقوم منْ اللحدِ

أشارتْ إليها الشمسُ عند غروبها

تقُول: إذا اسودَّ الدُّجى فاطْلعي بعدي

وقال لها البدرُ المنيرُ ألا اسفري

فإنَّك مثْلي في الكَمال وفي السَّعْدِ

فولتْ حياء ثم أرختْ لثامها

وقد نثرتْ من خدِّها رطبَ الوردِ

وسلَّتْ حسامًا من سواجي جفونها

كسيْفِ أبيها القاطع المرهفِ الحدّ

تُقاتلُ عيناها به وَهْوَ مُغمدٌ

ومنْ عجبٍ أن يقطع السيفُ في الغمدِ

مُرنِّحةُ الأَعطاف مَهْضومةُ الحَشا

منعمة الأطرافِ مائسة القدِّ

يبيتُ فتاتُ المسكِ تحتَ لثامها

فيزدادُ منْ أنفاسها أرج الندّ

ويطلعُ ضوء الصبح تحتَ جبينها

فيغْشاهُ ليلٌ منْ دجى شَعرها الجَعدِ

وبين ثناياها إذا ما تبسَّمتْ

مديرُ مدامٍ يمزجُ الراحَ بالشَّهد

وبين ثناياها إذا ما تبسَّمتْ

مديرُ مدامٍ يمزجُ الراحَ بالشَّهدِ

شكا نَحْرُها منْ عِقدها متظلِّمًا

فَواحَربا منْ ذلكَ النَّحْر والعقْدِ

فهل تسمح الأيامُ يا ابنةَ مالكٍ

بوصلٍ يداوي القلبَ من ألم الصدِّ

سأَحْلُم عنْ قومي ولو سَفكوا دمي

وأجرعُ فيكِ الصَّبرَ دونَ الملا وحدي

وحقّكِ أشجاني التباعدُ بعدكم

فها أنتمُ أشجاكم البعدُ من بعدي

حَذِرْتُ من البيْن المفرِّق بيْننا

وقد كانَ ظنِّي لا أُفارقكمْ جَهدي

فإن عانيت عيني المطايا وركبها

فرشتُ لدَى أخْفافها صَفحةَ الخدّ[١٢]


لقراءة المزيد من قصائد الشاعر، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: شعر عنترة بن شداد في الغزل.


عروة بن حزام

يعدّ من مُتيّمي العرب، إذ مات والده وهو صغير، فعاش وتربّى في كنف عمه، فكان يحب ابنة عمّه عفراء، ولمّا كبر خطبها، لكن عمه طلب لابنته مهرًا غاليًا لا يقدر عليه، ولكن عروة لم يستسلم بل رحل على عم له في اليمن، وطلب منه مقدار المهر فعاد به، ولكنّه عندما عاد وجد عمه وقد زوّج ابنته العفراء بأمويّ من أهل الشام، فعاش عروة في حزن حتى وفاته، وبقي في أشعاره يذكر عفراء وحنينه لها، ومن أشعار عروة بن حزام:[١٣]


وإِنّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ رِعْدَةٌ

لها بين جسمي والعِظامِ دَبيبُ

وما هُوَ إِلاّ أَنْ أَراها فُجاءَةً

فَأُبْهَتُ حتى ما أَكادُ أُجِيبُ

وَأُصْرَفُ عن رَأْيي الّذي كُنْتُ أَرْتَئي

وأَنسى الّذي حُدِّثْتُ ثُمَّ تَغيبُ

وَيُظْهِرُ قَلْبي عُذْرَها ويُعينها

عَلَيَّ فما لي في الفؤادِ نصيبُ

وقد عَلِمَتْ نفسي مكانَ شِفائِها

قَريبًا وهل ما لا يُنالُ قريبُ

حَلَفْتُ بِرَكْبِ الرّاكعينَ لِرَبِّهِمْ

خشوعًا وفوقَ الرّاكعينَ رقيبُ

لَئِنْ كانَ بَرْدُ الماءِ عطشانَ صادِيًا

إِليَّ حبيبًا إِنَّها لَحَبيبُ

وَقُلْتُ لِعَرِّافِ اليَمامَةِ دوانِي

فَإِنَّكَ إِنْ أَبْرَأْتَني لَطبيبُ

فما بِيَ من سُقْمٍ ولا طَيْفِ جِنَّةٍ

ولكنَّ عَمِّي الحِمْيَريِّ كَذوبُ

عَشِيَّةَ لا عفراءُ دانٍ ضرارُها

فَتُرجى ولا عفراءُ مِنْكَ قريبُ

حَلَفْتُ بِرَكْبِ الرّاكعينَ لِرَبِّهِمْ

خشوعًا وفوقَ الرّاكعينَ رقيبُ[١٤]

الأعشى

هو ميمون بن قيس بن جندل بن ربيعة بن نزار، لُقّب بالأعشى بسبب ضعف بصره، يُعدّ الأعشى من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، كما كان كثير التواصل مع الملوك العرب، وملوك الفرس، لذلك يُلاحظ في أشعاره أنّه أكثر من ألفاظ الفارسيّة، كما كان الأعشى جريئًا في غزله وفي خمرته، وكانت تلك الجرأة واضحة في مدحه وهجائه وفخره، إضافة إلا أنّ معظم شعره لم يصل عبر العصور، بل وصل القليل من أشعاره، ومنها قصيدة ودّع هريرة، إذ يقول في مطلعها:[١٥]


ودّعْ هريرة إنْ الركبَ مرتحلُ

وهلْ تطيقُ وداعًا أيها الرّجلُ؟

غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها

تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ

كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا

مر السّحابةِ، لا ريثٌ ولا عجلُ

تَسمَعُ للحَليِ وَسْوَاسًا إذا انصَرَفَتْ

كمَا استَعَانَ برِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ

ليستْ كمنْ يكره الجيرانُ طلعتها

ولا تراها لسرّ الجارِ تختتلُ

يَكادُ يَصرَعُها لَوْلا تَشَدّدُهَا

إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ

إذا تُعالِجُ قِرْنًا سَاعةً فَتَرَتْ

وَاهتَزّ منها ذَنُوبُ المَتنِ وَالكَفَلُ

مِلءُ الوِشاحِ وَصِفْرُ الدّرْعِ بَهكنَةٌ

إذا تَأتّى يَكادُ الخَصْرُ يَنْخَزِلُ

صدّتْ هريرةُ عنّا ما تكلّمنا

جهلًا بأمّ خليدٍ حبلَ من تصلُ؟

أأنْ رأتْ رجلًا أعشى أضر بهِ

لِلّذّةِ المَرْءِ لا جَافٍ وَلا تَفِلُ

هركولةٌ، فنقٌ، درمٌ مرافقها

كأنّ أخمصها بالشّوكِ منتعلُ

إذا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أصْوِرَةً

والزنبقُ الوردُ من أردانها شملُ

ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعشبةٌ

خَضرَاءُ جادَ عَلَيها مُسْبِلٌ هَطِلُ

يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ

مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النّبْتِ مُكْتَهِلُ

يَوْمًا بِأطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ

ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ

علّقتها عرضًا، وعلقتْ رجلًا

غَيرِي، وَعُلّقَ أُخرَى غيرَها الرّجلُ

وَعُلّقَتْهُ فَتَاةٌ مَا يُحَاوِلُهَا

مِنْ أهلِها مَيّتٌ يَهذي بها وَهلُ

وَعُلّقَتْني أُخَيْرَى مَا تُلائِمُني

فاجتَمَعَ الحُبّ حُبًّا كُلّهُ تَبِلُ

فَكُلّنَا مُغْرَمٌ يَهْذِي بصَاحِبِهِ

نَاءٍ وَدَانٍ، وَمَحْبُولٌ وَمُحْتَبِلُ

قالتْ هريرةُ لمّا جئتُ زائرها:

وَيْلي عَلَيكَ، وَوَيلي منكَ يا رَجُلُ

يا مَنْ يَرَى عارِضًا قَد بِتُّ أرْقُبُهُ

كأنّمَا البَرْقُ في حَافَاتِهِ الشُّعَلُ[١٦]


لقراءة المزيد عن الشاعر، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: نبذة عن الأعشى.


النابغة الذبياني

هو زياد بن معاوية بن ريث بن غطفان، لُقّب بالنابغة وذلك لأنّه نبغ في شعره، وأبدع في قصائده دفعة واحدة، ويعّد من سادات قومه، إذ كان له اتصال ببلاط الحيرة، أمّا في شعره فقد كان يتّصف بشاعريته، وذلك لما تحمله قصائده من ضروب في المعاني واختلاف في الأساليب، إضافة إلى رجاحة فِكره، فقد كان يتميّز ببصيرته بمواطن الكلام، والإبداع في انتقاء الألفاظ الدالة، ومن شعر النّابغة الذبيانيّ:[١٧]


رأيتُ نعمًا وأصحابي على عجلٍ

والعِيسُ، للبَينِ، قد شُدّتْ بأكوارِ

فريعَ قلبي، وكانتْ نظرةٌ عرضتْ

حينًا، وتوفيقَ أقدارٍ لأقدارِ

بيضاءُ كالشّمسِ وافتْ يومَ أسعدِها

لم تُؤذِ أهلًا، ولم تُفحِشْ على جارِ

تلوثُ بعدَ افتضالِ البردِ مئزرها

لوثًا، على مثلِ دِعصِ الرملة الهاري

و الطيبُ يزدادُ طيبًا أن يكونَ بها

في جِيدِ واضِحةِ الخَدّينِ مِعطارِ

تسقي الضجيعَ -إذا استسقى- بذي أشرٍ

عذبِ المذاقةِ بعدَ النومِ مخمارِ

كأنّ مَشمولةً صِرْفًا برِيقَتِها

من بعدِ رقدتها، أو شهدَ مشتارِ

ألَمحَةٌ من سَنا بَرْقٍ رأى بصَري

أم وجهُ نعمٍ بدا لي، أم سنا نارِ؟

بل وجهُ نعمٍ بدا، والليلُ معتكرٌ

فلاحَ مِن بينِ أثوابٍ وأستْارِ

إِنَّ الحُمولَ الَّتي راحَت مُهَجِّرَةً

يَتبَعنَ كُلَّ سَفيهِ الرَأيِ مِغيارِ

نَواعِمٌ مِثلُ بَيضاتٍ بِمَحنِيَةٍ

يَحفِزنَ مِنهُ ظَليمًا في نَقًا هارِ[١٨]

مختارات من شعر الغزل الجاهلي

كيف يصف الشاعر مشاعره تجاه المرأة في العصر الجاهلي؟

اشتُهر غزل الجاهليّة في النساء بأن انقسم لأكثر من نوع، ومنه؛ الشعر الجاهليّ في الغزل العذري العفيف، وهو أن يذكر الشاعر عواطفه الطاهرة والعفيفة، لإبراز عشقه للمحبوبة، والنوع الآخر هو الشعر الجاهليّ في الغزل الصريح، أي أن يذكُر الشاعر محاسن المحبوبة الجسديّة ويصفِها بالوصف الدّقيق، ويعدّ ذلك من الغزل الماجِن؛ لأنّه يكشف عن أسرار جسد المرأة ويصفِها كاملة.[١٩]

الغزل الجاهلي العفيف

كانت الكثير من القصائد المُدوّنة هي من شعر غزل جاهلي عفيف وعذري، أي الغزل الجاهلي في العيون، والشعر بجمال المرأة وجمال شعرها وما إلى ذلك، ومنها:


قصيدة: بردُ نسيم الحجاز في السحرِ:[٢٠]

بَردُ نَسيمِ الحِجازِ في السَحَرِ

إِذا أَتاني بِريحِهِ العَطِرِ

أَلَذُّ عِندي مِمّا حَوَتهُ يَدي

مِنَ اللَآلي وَالمالِ وَالبِدَرِ

وَمُلكُ كِسرى لا أَشتَهيهِ إِذ

ما غابَ وَجهُ الحَبيبِ عَن نَظَري

سَقى الخِيامَ الَّتي نُصِبنَ عَلى

شَرَبَّةِ الأُنسِ وابِلُ المَطَرِ

مَنازِلٌ تَطلُعُ البُدورُ بِه

مُبَرقَعاتٍ بِظُلمَةِ الشَعَرِ

بيضٌ وَسُمرٌ تَحمي مَضارِبَه

أَسادُ غابٍ بِالبيضِ وَالسُمُرِ

صادَت فُؤادي مِنهُنَّ جارِيَةٌ

مَكحولَةُ المُقلَتَينِ بِالحَوَرِ

تُريكَ مِن ثَغرِها إِذا اِبتَسَمَت

كَأسَ مُدامٍ قَد حُفَّ بِالدُرَرِ

أَعارَتِ الظَبيَ سِحرَ مُقلَتِه

وَباتَ لَيثُ الشَرى عَلى حَذَرِ

حَودٌ رَداحٌ هَيفاءُ فاتِنَةٌ

تُخجِلُ بِالحُسنِ بَهجَةَ القَمَرِ

يا عَبلَ نارُ الغَرامِ في كَبدي

تَرمي فُؤادي بِأَسهُمِ الشَرَرِ


قصييدة: أتعرف رسمَ الدارِ قفرًا منازله:[٢١]

أَتَعرِفُ رَسمَ الدارِ قَفرًا مَنازِلُه

كَجَفنِ اليَمانِ زَخرَفَ الوَشيَ ماثِلُه

بِتَثليثَ أَو نَجرانَ أَو حَيثُ تَلتَقي

مِنَ النَجدِ في قَيعانِ جَأشٍ مَسائِلُه

دِيارٌ لِسَلمى إِذ تَصيدُكَ بِالمُنى

وَإِذ حَبلُ سَلمى مِنكَ دانٍ تُواصُلُه

وَإِذ هِيَ مِثلُ الرَئمِ صيدَ غَزالُها

لَها نَظَرٌ ساجٍ إِلَيكَ تُواغِلُه

غَنينا وَما نَخشى التَفَرُّقَ حِقبَةً

كِلانا غَريرٌ ناعِمُ العَيشِ باجِلُه

لَيالِيَ أَقتادُ الصِبا وَيَقودُني

يَجولُ بِنا رَيعانُهُ وَيُحاوِلُه

سَما لَكَ مِن سَلمى خَيالٌ وَدونَها

سَوادُ كَثيبٍ عَرضُهُ فَأَمايِلُه

فَذو النيرِ فَالأَعلامُ مِن جانِبِ الحِمى

وَقُفٌّ كَظَهرِ التُرسِ تَجري أَساجِلُه

وَأَنّى اِهتَدَت سَلمى وَسائِلَ بَينَنا

بَشاشَةُ حُبٍّ باشَرَ القَلبَ داخِلُه

وَكَم دونَ سَلمى مِن عَدوٍّ وَبَلدَةٍ

يَحارُ بِها الهادي الخَفيفُ ذَلاذِلُه

يَظَلُّ بِها عَيرُ الفَلاةِ كَأَنَّهُ

رَقيبٌ يُخافي شَخصَهُ وَيُضائِلُه

الغزل الجاهلي الصريح

ظهر الغزل الصريح في بدايته في العصر الجاهلي، فكان بعض الشعراء يتوغّلون بهذا النوع، فيلجأ الغزل لديهم إلى الحديث عن المحاسن الجسديّة للمحبوبة، وهذا الغزل في حقيقته لا يجوز،[٢٢] ومن هذه القصائد ما يأتي:


قصيدة: سموت إليها بعد ما نام أهلها:[٢٣]

سَمَوتُ إِلَيها بَعدَ ما نامَ أَهلُه

سُموَّ حَبابِ الماءِ حالاً عَلى حالِ

فَقالَت سَباكَ اللَهُ إِنَّكَ فاضِحي

أَلَستَ تَرى السُمّارَ وَالناسَ أَحوالي

فَقُلتُ يَمينَ الله أَبرَحُ قاعِد

وَلَو قَطَعوا رَأسي لَدَيكِ وَأَوصالي

حَلَفتُ لَها بِاللَهِ حِلفَةَ فاجِرٍ

لَناموا فَما إِن مِن حَديثٍ وَلا صالِ

فَلَمّا تَنازَعنا الحَديثَ وَأَسمَحَت

هَصَرتُ بِغُصنٍ ذي شَماريخَ مَيّالِ

وَصِرنا إِلى الحُسنى وَرَقَّ كَلامُن

وَرُضتُ فَذَلَّت صَعبَةٌ أَيَّ إِذلالِ

فَأَصبَحتُ مَعشوقًا وَأَصبَحَ بَعلُه

عَلَيهِ القَتامُ سَيِّئَ الظَنِّ وَالبالِ

يَغُطُّ غَطيطَ البَكرِ شُدَّ خِناقُهُ

لِيَقتُلَني وَالمَرءُ لَيسَ بِقَتّالِ

أَيَقتُلُني وَالمَشرَفِيُّ مُضاجِعي

وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كَأَنيابِ أَغوالِ

وَلَيسَ بِذي رُمحٍ فَيَطعَنُني بِهِ

وَلَيسَ بِذي سَيفٍ وَلَيسَ بِنَبّالِ

أَيَقتُلَني وَقَد شَغَفتُ فُؤادَه

كَما شَغَفَ المَهنوءَةَ الرَجُلُ الطالي


قصيدة: ليت هندًا أنجزتنا ما تعد:[٢٤]

لَيتَ هِندًا أَنجَزَتنا ما تَعِد

وَشَفَت أَنفُسَنا مِمّا تَجِد

وَاِستَبَدَّت مَرَّةً واحِدَةً

إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد

زَعَموها سَأَلَت جاراتِها

وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِد

أَكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني

عَمرَكُنَّ اللَهَ أَم لا يَقتَصِد

فَتَضاحَكنَ وَقَد قُلنَ لَها

حَسَنٌ في كُلِّ عَينٍ مَن تَوَد

حَسَدٌ حُمِّلنَهُ مِن أَجلِها

وَقَديمًا كانَ في الناسِ الحَسَد

غادَةٌ تَفتَرُّ عَن أَشنَبِها

حينَ تَجلوهُ أَقاحٍ أَو بَرَد

وَلَها عَينانِ في طَرفَيهِما

حَوَرٌ مِنها وَفي الجيدِ غَيَد

طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا

مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِد

سُخنَةُ المَشتى لِحافٌ لِلفَتى

تَحتَ لَيلٍ حينَ يَغشاهُ الصَرَد

وَلَقَد أَذكُرُ إِذ قُلتَ لَها

وَدُموعي فَوقَ خَدّي تَطَّرِد


لقراءة المزيد من الأشعار الجاهليّة، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: أجمل أبيات الشعر الجاهلي.

المراجع

  1. ^ أ ب "غرض الغزل في العصر الجاهلي"، جامعة بابل، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  2. أحمد محمد الحوفي، الغزل في العصر الجاهلي، صفحة 3-4. بتصرّف.
  3. أحمد محمد الحوفي، الغزل في العصر الجاهلي، صفحة 10. بتصرّف.
  4. أحمد محمد الحوفي، الغزل في العصر الجاهلي، صفحة 11-14. بتصرّف.
  5. ناصر الظاهري، وصف الجسد في الشعر الجاهلي، صفحة 72. بتصرّف.
  6. "أشهر شعراء الجاهلية"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-12. بتصرّف.
  7. "امرؤ القيس"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  8. "لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  9. "زهير بن أبي سلمى"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  10. "صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  11. "عنترة بن شداد"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  12. "إذا الريح هبت من رُبى العلم السعدي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  13. "عروة بن حزام"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  14. "وإني لتعروني لذكراك رعدة"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  15. "أعشى قيس"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  16. "ودع هريرة إن الركب مرتحل"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  17. "النابغة الذبياني"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-13. بتصرّف.
  18. "عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  19. "غزل عذري"، ويكيبيديا، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10. بتصرّف.
  20. "برد نسيم الحجاز في السحر"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10.
  21. "أتعرف رسم الدار قفرا منازله"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10.
  22. "شعر الغزل بين الجواز والحرمة"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-11. بتصرّف.
  23. "ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10.
  24. "ليت هندا أنجزتنا ما تعد عمر بن أبي ربيعة"، يوتيوب، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-10.
5988 مشاهدة
للأعلى للسفل
×