شعر الوصف في العصر العباسي

كتابة:
شعر الوصف في العصر العباسي

مفهوم شعر الوصف في العصر العباسي

كيف أثّر الترف على مسار الأدب في العصر العباسي؟

لقد تأثّرت جميع مناحي الحياة في العصر العبّاسي بالأمور والمستجدّات التي دارت في ذلك العصر، فقد كان للبذخ والتّرف والغنى والاختلاط مع الأمم الأخرى من الفرس واليونان والهند أثرٌ واضحٌ في شتّى مناحي الحياة، ولمّا كان الشّعر يمثّل ركنًا أساسيًّا من الأركان التي ترتكز عليها حياة العرب كان لا بدّ أن يطاله ذلك التّغيير، فقد اصطبغ الوصف في العصر العباسي بصبغة المجتمع الجديد بما يحتويه من خصائص فكريّة ومعنويّة.[١]


في المقابل حافظ مجموعة من الشّعراء على الإرث الشّعري ولم يُدخِلوا هذا التّجديد الفكري إلى أشعارهم بل بقوا على ما جاءهم من طرق وأغراض شعريّة موروثة ولم يتطرّقوا إلى أغراض جديدة، وإذا ما أريد تصنيف الشّعر الذي احتوى على الوصف في ذلك العصر، فإنّه يكاد يشمل جميع الأغراض التي تحدّث فيها الشّعراء، فإنّ معظم الأغراض التي تناولها الشّعراء حوت بين حناياها الوصف، فقد عمد الشّعراء على وصف كلّ تفصيل من تفاصيل هذا المجتمع الجديد.[١]


نشأة شعر الوصف في العصر العباسي

كيف تجلّى شعر الوصف عند الشعراء العباسيين؟

إنّ شعر الوصف لم يكن وليد العصر العباسي، فقد ظهر بدايةً في العصر الجاهلي، ولكنّه ظهر على صورة نقل للواقع كما هو، فإذا ما قُرِأتْ أشعار الجاهليين يُرى أنّها عبارة عن لوحاتٍ مرسومة بالكلمات قد نقلت الواقع كما هو، ولكنّ الوصف في العصر الجاهلي لم يكن غرضًا مستقلًّا بنفسه، بل كان مُدرجًا خلال القصائد الأخرى في بضع أبيات.[٢]


حتّى إذا ما أطلّ عصر صدر الإسلام استمرّ الوصف على الوتيرة ذاتها، فلم يكن هناك شيءٌ مختلفٌ عمّا كان معهودًا في العصر الجاهلي، وفي العصر الأموي تطوّر الوصف عمّا كان عليه سابقًا لكنّه أيضًا لم يحصل على الاستقلاليّة، أمّا في العصر العبّاسي فقد أصبح فنّ الوصف فنًّا مستقلًّا بنفسه، وأمّا أوصاف الشّعراء فقد تراوحت بين التّجديد والسير على ما أثر عن الأسبقين.[٢]


أسباب ظهور شعر الوصف في العصر العباسي

كيف ساعد التطور الحضاري في ظهور شعر الوصف؟

لقد كان لظهور الوصف في العصر العباسي بحلّته تلك المميزة كثير من الأسباب، ومنها:[٣]


  • التّطوّر الحضاري: فقد شمل التطور الحضاري جميع المستويات المعيشية التي كانت في المجتمع العبّاسي.
  • الاختلاط بالأمم الأخرى: فقد نتج عن ذلك الاختلاط اتّساع في النظرة إلى الأشياء، واتّساع في الرُؤى الفكريّة التي شجّعت بدورها التفات الشّعراء إلى التّفاصيل، والعناية بإبراز جمالها.


  • نشاط حركة الترجمة: فقد كان لنشاط حركة التّرجمة اتساع في أفق العرب أيضًا على كثير من المستويات الفكرية والثقافية.
  • فخامة العمران: فقد كان لانتشار القصور والاهتمام بالعمران والبناء أثرٌ بالغ في ظهور شعر الوصف.
  • الاستقرار: فقد جعلَتْ حالة الرخاء والاستقرار السياسي الشّعراء يتفرّغون لقول الشعر والانشغال به.
  • الخلفاء: إنّ تشجيع الخلفاء العباسيين للشّعراء على قول الشّعر وبذل الأعطيات لهم كان دافعًا كبيرًا في شعور الشاعر بالاكتفاء، وعليه فإنّه يمكن له أن يبدع أكثر.


خصائص شعر الوصف في العصر العباسي

كيف جعل الشعراء العباسيون فن الوصف غرضًا مستقلًّا؟

لشعر الوصف في العصر العباسي خصائص تميزه عن غيره في باقي العصور، ومنها:

  • الاستقلال والانفراد: أصبح فن الوصف في العصر العباسي فنًّا مستقلًّا، فلم يعد يعرض الشّعراء إلى الوصف عرضًا، بل أصبح فنًّا كاملًا جنحوا إليه في قصائد كاملة، فأصبحت هناك قصائد في وصف الطّبيعة، وقصائد في وصف المعارك، وقصائد في وصف الخمرة، وما إلى ذلك من موضوعات حملها الوصف بين ثناياه.[٤]


  • تغير الصورة الشعرية: فقد تغيّرت الصورة من البسيطة إلى المركّبة، فلم تعد الصّورة الشّعرية عبارة عن مشبّه ومشبّه به، إنّما أصبح التّشبيه عبارة عن تشبيه صورة بصورة، ومن ذلك قول بشار بن برد:[٤]

كأنّ مُثارَ النقعِ فوقَ رؤوسِنا

وأسيافُنا ليلٌ تهاوى كواكبُه


  • رقّة العبارة ولينها: وذلك بسبب الموضوعات المتجدّدة التي تناولها الوصف، فقد كان الوصف لمظاهر الحياة الجديدة يمتاز بما امتازت به هذه الحياة ذاتها.[٥]
  • التفنّن في البديعيّات: فقد امتلأت أشعارهم بألوان البديع المختلفة، وعمد الشّعراء على توشية أشعارهم بها، فلم يبلغ الشّعر هذه المرحلة من البديعيّات قبل العصر العبّاسي، ولذا فقد وجد من الشّعراء العبّاسيين من سمّي شاعر الصّنعة.[٦]
  • التّوسّع في المصطلحات اللفظيّة: فترى الشّعراء قد ذكروا ألفاظًا لم تكن مطروقة من قبل، وهذا أمرٌ طبيعي؛ إذ هذا الاتّساع اللغوي كان نتيجةً للاختلاط بالأمم الأخرى.[٧]


اتجاهات شعر الوصف في العصر العباسي

ما المجالات التي برز فيها الوصف في العصر العباسي؟

لقد تنوّعت اتّجاهات الوصف في العصر العبّاسي بتنوّع المواضيع التي تناولها الشّعراء بأوصافهم، وتعدّت الأوصاف من ذكر الناقة والأطلال وإلى ما ذلك من موضوعات قد طرقها القدماء في أوصافهم، فقد كانت الأوصاف جديدة متناسبة مع مستجدّات العصر، وهي كالآتي:[٨]


وصف القصور

فقد وصف الشّعراء القصور وصفًا حيًّا وكأنّ هذا الوصف قد حيك بالريشة حتّى استوعب كلّ التفاصيل وشخّصها تشخيصًا حقيقيًّا، ومن ذلك ما جاء من وصف علي بن الجهم لأحد قصور المتوكّل في سامرّاء، فيتحدّث في وصفه عن قبّته الشّامخة التي تكاد تحاكي النجوم جمالًا ورفعةً، كما يتحدّث عن نوافذ القصر التي زيّنتها ألوان الفسيفساء، حيث شبّه تلك الألوان بالفتيات النصارى اللواتي خرجن صباحًا بثيابهن الملوّنة في يوم الفصح، ووصف النافورة التي تتجه نحو السّماء بحماسٍ وكأنّها يجمعها بالسّماء ثأر فيقول:[٨]

وقُبَةُ ملِكٍ كأنَّ النّجومَ

تُفضي إليها بأسرارِها

لها شُرُفاتٌ كأنّ الربيعَ

كساها الرّياضَ بأنوارها

نَظَمْنَ الفسيفسَ نظمَ الحليّ

لِعَونِ النّساءِ وأبكارها

فهُنّ كمصطحباتٍ بَرَزْنَ

بفصحِ النّصارى وإفطارها

ونافورةٌ ثأرها في السّماءِ

فليست تُقصّرُ عن ثأرها


وصف الطبيعة

لقد عمد الشّعراء العباسيون إلى وصف المظاهر الطّبيعيّة من ربيعٍ وأمطارٍ وبحار وغير ذلك وصفًا دقيقة، فأبدعوا أيّما إبداعٍ في أوصافهم، فقد كان للرياض والطبيعة وأزهارها وغاباتها ونحو ذلك أثرٌ بالغٌ عند المشرقيين الذين عاش أجدادهم في البوادي والحواضر ولكن بعيدًا عن الجنان والرياض، فلذلك تعلّق الشعراء بهذه المظاهر، ومن ذلك ما جاء في قول أبي تمّام في وصفه للربيع إذ يقول:[٨]

إنّ الربيعَ أثَرُ الزّمانِ

لو كانَ ذا روحٍ وذا جُثمانِ

تختالُ من مفوّف الألوانِ

في زهرٍ كالحدقِ الروّاني

من فاقعٍ وناصعٍ وقانِ

عجبْتُ لكُلّ ذي فكرى يقظانِ


وصف الخمرة

فقد اتّجه الشّعراء العباسيون إلى وصف الخمرة وكل ما يتعلّق بها، فلم يخلُ ديوانٌ من الدّواوين من ذكر الخمرة وأوصافها سواء أكان الشّاعر قد شربها أم لم يشربها من قبل، فتنوّعت أسماؤها عند الشعراء في دواوينهم، فمنهم من كان يسميّها المدامة، ومنهم من كان يسميها العقار، ومنهم الكميت، ومنهم الصّهباء وإلى غير ذلك من الأسماء التي هي في الأصل موجودة في اللغة ولكنّ استعمالها تراجع في وقت من الأوقات، وقد كان الأبرز في وصفها أبو نواس، ومن ذلك قوله:[٨]

لا تبكِ ليلى ولا تَطربْ إلى هندِ

واشربْ على الوردِ منْ حمراءَ كالوردِ

كأسًا إذا انحدرتْ منْ حلقِ شاربِها

أجدَتْهُ خَمْرَتُها في العينِ والخدِّ

فالخمرُ ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ

من كفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ


وصف المعارك

إنّ وصف المعارك هو قديم في التراث الشعري العربي، ولكن كان أهل كلّ عصر يضيفون عليه لمستهم الخاصة مما امتاز به ذلك العصر، ففي صدر الإسلام -مثلًا- صار وصف المعارك يأخذ طبعًا دينيًّا، وكذلك الأموي وجد أهله ما يضيفوه، والشعراء العبّاسيون أضافوا وصف المعارك البحريّة، وقد اشتهر البحتري في هذا النوع من الوصف، وممّا جاء في ذلك قوله:[٩]

ورَمَتْ بنا سَمْتَ العراقِ أياتقٌ

سُحْمُ الخدودِ لُغامُهنَّ الطُّحلُبُ

مِنْ كلِّ طائرةٍ بخمسِ خوافِقٍ

دُعْجٍ كما ذُعِر الظَّليمُ المُهْذِبُ

يحملْنَ كلَّ مفرَّقٍ في همَّةٍ

فُضُلٍ يَضيقُ بها الفضاءُ السَّبسبُ


وصف الطعام

لقد وصلت خزانة المال للدولة الإسلامية في العصر العباسي إلى ذروتها، فقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وصار خراجها كثيرًا ممّا سبّب وجود حالة استقرار مادي عند السواد الأعظم من المسلمين، فصار الطعام -ولا سيّما الحلوى منه- مؤشّرًا على الرفاهية العالية التي تمتّع بها السكان، وقد اعتنى الشّعراء العباسيّون بوصف الأطعمة وصفًا دقيقًا، وكان الأبرع في هذا الوصف هو الشاعر ابن الرومي، وممّا جاء في وصفه للقطائف قوله:[١٠]

قطائفٌ قد حُشيتْ باللّوزِِ
والسكّرِ الماذيّ حشوَ المَوْزِ
تَسْبحُ في آذيِّ دُهْن الجَوْزِ
سُررْتُ لمّا وقعتْ في حوزي
سرورَ عباسٍ بقربِ فَوْزِ


وصف مظاهر اللهو واللعب

لقد كان من البدهيّ في ظلّ انتشار المال والاستقرار المادي بين الرعية أن تنتشر مظاهر اللهو واللعب وما شاكلها؛ فإنّ الفراغ الذي عاشه أبناء تلك الحقبة كفيل بأن يسفر عن مظاهر تدلّ على الترف والرفاهية، ومن تلك الألعاب التي تشتُهرت كانت لعبة الشطرنج والنرد، فعمد الشّعراء إلى وصفها والتفنن في ذلك، وممّا جاء في وصفها قول الشاعر علي بن الجهم:[٨]

أرضٌ مربعةٌ حمراءُ من أَدَمٍ

ما بين إلفَين موصوفَين بالكرمِ

تذاكرا الحربَ فاحتالا لها شبهًا

من غيرِ أن يأثما فيها بسفكِ دمِ


أبرز شعراء الوصف في العصر العباسي

من أهم الشعراء الذين اعتلوا صهوة شعر الوصف؟


  • أبو تمّام: هو حبيب بن أوس بن الحارث الطّائي، (803م - 845م) كان من أشهر الشّعراء العباسيين، وقد عرف شعره بالقوّة والجزالة والتصنّع الكبير.[١١]
  • أبو نواس: الحسن بن هانئ الحكمي، (756م - 814م) كان شعره صورةً عن البيئة المتحرّرة التي كان بها، وقد اشتهر بخمريّاته وغزله الخليع والمجون المنتشر في أشعاره.[١٢]
  • البحتري: هو الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطّائي، (820م - 897م) يُعدّ من أشهر الشّعراء في العصر العبّاسي، وقد عقدت بعض الكتب للموازنة بينه وبين أبي تمام وقد اشتهر شعره بالحكمة.[١٣]


نماذج من شعر الوصف في العصر العباسي

ما هي أهم اللوحات التي ظهر من خلالها شعر الوصف في العصر العباسي؟


الغيمُ مِنْ بينِ مَغْبوقٍ ومُصطَبَحِ

مِنْ رِيقِ مُكتَفِلاتٍ بالثَّرى دُلُحِ

دُهْمٍ إذا ضحكتْ في روضَةٍ طَفِفَت

عُيونُ نُوَّارِها تبكي من الفَرَحِ


قامتْ بإبريقها واللّيلُ مُعتكرٌ

فلاحَ من وجهها في البيتِ لألاءُ

فأُرسلتْ من فمِ الإبريق صافيةً

كأنّما أخذها بالعينِ إغفاءُ


فحاجبُ الشَّمسِ أحيانًا يُضاحكُها

وريّقُ الغيثِ أحيانًا يباكيها

إذا النجومُ تراءَتْ في جوانبَها

ليلًا حسبْتَ سماءً رُكِّبتْ فيها


لقراءة المزيد، انظر هنا: أجمل قصائد البحتري في الوصف.

المراجع

  1. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، قضايا أدبية في العصر العباسي، الأردن:منهاج وزارة التربية والتعليم، صفحة 51. بتصرّف.
  2. ^ أ ب هبة إبراهيم منصور اللبدي، الوصف في شعر الملك الأندلسي يوسف الثالث، نابلس:منشورات جامعة النجاح الوطنية، صفحة 18. بتصرّف.
  3. شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، القاهرة:دار المعارف، صفحة 138. بتصرّف.
  4. ^ أ ب هبة إبراهيم منصور اللّبدي، الوصف في شعر الملك الأندلسي يوسف الثّالث، نابلس:منشورات جامعة النجاح الوطنية، صفحة 39. بتصرّف.
  5. أنيس المقدسي، أمراء الشعر العربي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 86. بتصرّف.
  6. أنيس المَقدسي، أمراء الشّعر العربي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 86. بتصرّف.
  7. أَنيس المقدِسي، أُمراء الشعر العَربي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 86. بتصرّف.
  8. ^ أ ب ت ث ج شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، القاهرة:دار المعارف، صفحة 425. بتصرّف.
  9. شوقِي ضيْف، العَصر العَباسي الأول، القاهرة:دار المعارف، صفحة 428. بتصرّف.
  10. شَوقي ضيف، العصرُ العباسيّ الأول، القاهرة:دار المعارف، صفحة 428. بتصرّف.
  11. التبريزي، شرح ديوان أبي تمّام، بيروت:دار الكتاب العربي، صفحة 5. بتصرّف.
  12. أنيس المقدسي، أمراء الشّعر العربي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 104. بتصرّف.
  13. شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، القاهرة:دار المعارف، صفحة 270. بتصرّف.
  14. التبريزي، شرح ديوان أبي تمّام، بيروت:دار الكتاب العربي، صفحة 454، جزء 2.
  15. أنيس المقدسي، أمراء الشّعر العربي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 131.
  16. هبة إبراهيم منصور اللبدي، الوصف في شعر الملك الأندلسي يوسف الثّالث، نابلس:منشورات جامعة النجاح الوطنية، صفحة 37.
23640 مشاهدة
للأعلى للسفل
×