قصيدة خمس رسائل إلى أمي
يقول نزار قباني:
صباح الخير يا حلوة..
صباح الخير يا قديستي الحلوة
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافية
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
وخبأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
وليلكةً دمشقية..
أنا وحدي..
دخان سجائري يضجر
ومني مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ..
تفتش -بعد- عن بيدر
عرفت نساء أوروبا..
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إلي عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر
أيا أمي..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً..
ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة؟
بها أوصيك يا أماه..
تلك الطفلة الطفلة
فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي..
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها..
ويطعمها..
ويغمرها برحمته..
.. ومات أبي
ولا زالت تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته..
وتسأل عن جريدته..
وتسأل –حين يأتي الصيف-
عن فيروز عينيه..
لتنثر فوق كفيه..
دنانيراً من الذهب..
سلاماتٌ..
سلاماتٌ..
إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء.. فرحة "ساحة النجمة"
إلى تختي..
إلى كتبي..
إلى أطفال حارتنا..
وحيطانٍ ملأناها..
بفوضى من كتابتنا..
إلى قططٍ كسولاتٍ
تنام على مشارقنا
وليلكةٍ معرشةٍ
على شباك جارتنا
مضى عامان.. يا أمي
ووجه دمشق،
عصفورٌ يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا..
وينقرنا..
برفقٍ من أصابعنا..
مضى عامان يا أمي
وليل دمشق
فل دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها.. تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي..
قد زرعت بداخلنا..
كأن مشاتل التفاح..
تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء، والأحجار
جاءت كلها معنا..
أتى أيلول يا أماه..
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتى أيلول.. أين دمشق؟
أين أبي وعيناه
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه..
وأين رحاب منزلنا الكبير..
وأين نعماه؟
وأين مدارج الشمشير..
تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق، دمشق..
يا شعراً
على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً..
من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته..
وذبنا في محبته
إلى أن في محبتنا قتلناه...
قصيدة الأم
من قصائد كريم معتوق التي يمدح فيها الأم ويعظّم دورها:
أوصى بك اللهُ ما أوصت بك الصُحفُ
والشـعرُ يدنـو بخـوفٍ ثم ينـصرفُ
مــا قــلتُ والله يـا أمـي بـقـافــيـةٍ
إلا وكـان مــقـامـاً فــوقَ مـا أصـفُ
يَخضرُّ حقلُ حروفي حين يحملها
غـيـمٌ لأمي علـيه الطـيـبُ يُـقتـطفُ
والأمُ مـدرسـةٌ قـالوا وقـلتُ بـهـا
كـل الـمدارسِ سـاحـاتٌ لـها تـقـفُ
هـا جـئتُ بالشعرِ أدنيها لقافيتي
كـأنـما الأمُ في اللاوصـفِ تـتصفُ
إن قلتُ في الأمِ شعراً قامَ معتذراً
ها قـد أتـيتُ أمـامَ الجـمعِ أعـترفُ
الأم تلثم طفلها وتضمّه
من أجمل أشعار أبي القاسم الشابي القصيدة الآتية التي نظمها في مدح الأم:
الأُمُّ تَلْثُمُ طِفْلَها وتَضُمُّهُ
- حرمٌ سَمَاويُّ الجمالِ مُقَدَّسُ
تَتَألَّهُ الأَفكارُ وهي جِوارَهُ
- وتَعودُ طاهرةً هناكَ الأَنفُسُ
حَرَمُ الحَيَاةِ بِطُهْرِها وحَنَانِها
- هل فوقَهُ حَرَمٌ أَجلُّ وأَقدسُ
بوركتَ يا حَرَمَ الأُمومَةِ والصِّبا
- كم فيكَ تكتملُ الحَيَاةُ وتَقْدُسُ
قصيدة أمي
يقول عبد الله البردوني في أمه القصيدة الآتية:
تركتني ها هنا بين العذاب
- ومضت، يا طول حزني واكتئابي
تركتني للشقا وحدي هنا
- واستراحت وحدها بين التراب
حيث لا جور ولا بغي ولا
- ذرّة تنبي وتنبي بالخراب
حيث لا سيف ولا قنبلة
- حيث لا حرب ولا لمع حراب
حيث لا قيد ولا سوط ولا
- ظالم يطغى ومظلوم يحابي
خلّفتني أذكر الصفو كما
- يذكر الشيخ خيالات الشباب
ونأت عنّي وشوقي حولها
- ينشد الماضي وبي – أوّاه – ما بي
ودعاها حاصد العمر إلى
- حيث أدعوها فتعيا عن جوابي
حيث أدعوها فلا يسمعني
- غير صمت القبر والقفر اليباب
موتها كان مصابي كلّه
- وحياتي بعدها فوق مصابي
أين منّي ظلّها الحاني وقد
- ذهبت عنّي إلى غير إياب
سحبت أيّامها الجرحى على
- لفحة البيد وأشواك الهضاب
ومضت في طرق العمر فمن
- مسلك صعب إلى دنيا صعاب
وانتهت حيث انتهى الشوط بها
- فاطمأنّت تحت أستار الغياب
آه "يا أمّي" وأشواك الأسى
- تلهب الأوجاع في قلبي المذاب
فيك ودّعت شبابي والصبا
- وانطوت خلفي حلاوات التصابي
كيف أنساك وذكراك على
- سفر أيّامي كتاب في كتاب
إنّ ذكراك ورائي وعلى
- وجهتي حيث مجيئي وذهابي
كم تذكّرت يديك وهما
- في يدي أو في طعامي وشرابي
كان يضنيك نحولي وإذا
- مسّني البرد فزنداك ثيابي
وإذا أبكاني الجوع ولم
- تملكي شيئًا سوى الوعد الكذّاب
هدهدت كفاك رأسي مثلما
- هدهد الفجر رياحين الرّوابي
كم هدتني يدك السمرا إلى
- حقلنا في (الغول) في (قاع الرحاب)
وإلى الوادي إلى الظلّ إلى
- حيث يلقي الروض أنفاس الملاب
وسواقي النهر تلقي لحنها
- ذائبًا كاللطف في حلو العتاب
كم تمنّينا وكم دلّلتني تحت
- صمت اللّيل والشهب الخوابي
كم بكت عيناكِ لمّا رأتا
- بصري يُطفا ويُطوى في الحجاب
وتذكرت مصيري والجوى
- بين جنبيك جراح في التهاب
ها أنا يا أمّي اليوم فتى
- طائر الصيت بعيد الشهاب
أملأ التاريخ لحنا وصدى
- وتغني في ربا الخلد ربابي
فاسمعي يا أمّ صوتي وارقصي
- من وراء القبر كالحورا الكعاب
ها أنا يا أمّ أرثيك وفي
- شجو هذا الشعر شجوي وانتحابي
قصيدة وجه أمي
يقول رياض بن يوسف قصيدة من أجمل القصائد في الأم ومكانتها:
أماه معذرة قد لزَّني الضجر
- وقد تبطنني الصبار والصبِر
أماه معذرة قد خانني حلمي
- وقد تكدر في أغصانه الثمر
أماه معذرة فالدرب آلمني
- ومزّق الخطوَ مني الشوك والحفر
أماه معذرة إن المدى ظُلَمٌ
- فقد توسده هذا الورى البقر
ماذا أغني وقد ضيعتُ حنجرتي
- وقد تقطعت الآهات والوتر؟
ماذا أحوك سوى أسمال قافية
- لجَّ الدجى في رؤاها غامت الصور؟!
لا نور يسعفني إلاكِ يا ألقا
- من مقلتيه همى في خلوتي الشجر
لا نور غيرك في أضواء زيفهمُ
- تبْكي على كتفيه الشمس والقمر
أماه معذرة فالله يشهد لي
- لمْ أنس هل يتناسى غيمَهُ المطر؟!
هل يترك السمك الفضي موطنه؟
- هل يهجر النهرُ مجراه وينتحر؟!
أماه! لا زلتِ ينبوعا يُغَسِّلني
- لا زال من ديمتيْكِ الماء ينهمر
لا زلت طفلًا صغيرًا مُمْحِلًا ويدي
- جدباءُ تبكي وتستجدي وتعتذر
أماه معذرة بل ألف معذرة
- جف اليراع وقلبي قلْبُهُ سقرُ!
ضمي ارتعاشي وضمي وجه معذرتي
- لينْتهي في مدى أحضانك السفرُ!