قصيدة إلى أمي
يقول محمود درويش عن أمه :
- أحنّ إلى خبز أمي
- وقهوة أمي
- ولمسة أمي
- وتكبر في الطفولة
- يوماً على صدر يوم
- وأعشق عمري لأني
- إذا متّ،
- أخجل من دمع أمي
- خذيني إذا عدت يوماُ
- وشاحا لهدبك
- وغطّي عظامي بعشب
- تعمّد من طهر كعبك
- وشدي وثاقي..
- بخصلة شعر
- بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
- عساي أصير إلها
- إلها أصير..
- إذا ما لمست قرارة قلبك
- ضعيني، إذا ما رجعت
- وقوداً بتنور نارك..
- وحبل غسيل على سطح دارك
- لأني فقدت الوقوف
- بدون صلاة نهارك
- هرمت، فردّي نجوم الطفولة
- حتى أشارك
- صغار العصافير
- درب الرجوع..
- لعشّ انتظارك!.
شعر رسالة من المنفى
يقول محمود درويش لأمه :
- تحيّة .. وقبلة
- وليس عندي ما أقول بعد
- من أين أبتدي ؟ .. وأين أنتهي ؟
- ودورة الزمان دون حد
- وكل ما في غربتي
- زوادة، فيها رغيف يابس، ووجد
- ودفتر يحمل عني بعض ما حملت
- بصقت في صفحاته ما ضاق بي من حقد
- من أين أبتدي؟
- وكل ما قيل وما يقال بعد غد
- لا ينتهي بضمة.. أو لمسة من يد
- لا يرجع الغريب للديار
- لا ينزل الأمطار
- لا ينبت الريش على
- جناح طير ضائع .. منهد
- من أين أبتدي
- تحيّة .. وقبلة.. وبعد ..
- أقول للمذياع .. قل لها أنا بخير
- أقول للعصفور
- إن صادفتها يا طير
- لا تنسني، وقل: بخير
- أنا بخير
- أنا بخير
- ما زال في عيني بصر!
- ما زال في السما قمر!
- وثوبي العتيق، حتى الآن، ما اندثر
- تمزقت أطرافه
- لكنني رتقته.. ولم يزل بخير
- وصرت شاباً جاور العشرين
- تصوّريني .. صرت في العشرين
- وصرت كالشباب يا أماه
- أواجه الحياة
- وأحمل العبء كما الرجال يحملون
- وأشتغل
- في مطعم .. وأغسل الصحون
- وأصنع القهوة للزبون
- وألصق البسمات فوق وجهي الحزين
- ليفرح الزبون
- أنا بخير
- قد صرت في العشرين
- وصرت كالشباب يا أماه
- أدخن التبغ ، وأتكي على الجدار
- أقول للحلوة: آه
- كما يقول الآخرون
- " يا أخوتي؛ ما أطيب البنات
- تصوروا كم مرة هي الحياة
- بدونهن.. مرة هي الحياة
- وقال صاحبي: "هل عندكم رغيف؟
- يا إخوتي؛ ما قيمة الإنسان
- إن نام كل ليلة .. جوعان؟
- أنا بخير
- أنا بخير
- عندي رغيف أسمر
- و سلة صغيرة من الخضار
- سمعت في المذياع
- تحية المشرّدين .. للمشردين
- قال الجميع: كلنا بخير
- لا أحد حزين؛
- فكيف حال والدي
- ألم يزل كعهده، يحب ذكر الله
- والأبناء .. والتراب .. والزيتون؟
- وكيف حال إخوتي
- هل أصبحوا موظفين؟
- سمعت يوماُ والدي يقول:
- سيصبحون كلهم معلمين ..
- سمعته يقول
- أجوع حتى أشتري لهم كتاب
- لا أحد في قريتي يفك حرفاً في خطاب
- وكيف حال أختنا
- هل كبرت .. وجاءها خطّاب
- وكيف حال جدّتي
- ألم تزل كعهدها تقعد عند الباب
- تدعو لنا
- بالخير .. والشباب ..والثواب
- وكيف حال بيتنا
- والعتبة الملساء .. والوجاق .. والأبواب
- سمعت في المذياع
- رسائل المشردين .. للمشردين
- جميعهم بخير
- لكنني حزين ..
- تكاد أن تأكلني الظنون
- لم يحمل المذياع عنكم خبراً ..
- ولو حزين
- ولو حزين
- الليل يا أمّاه ذئب جائع سفاح
- يطارد الغريب أينما مضى ..
- ويفتح الآفاق للأشباح
- وغابة الصفصاف لم تزل تعانق الرياح
- ماذا جنينا نحن يا أماه
- حتى نموت مرتين
- فمرة نموت في الحياة
- ومرة نموت عند الموت!
- هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء؟
- هبي مرضت ليلة .. وهد جسمي الداء!
- هل يذكر المساء
- مهاجراً أتى هنا.. ولم يعد إلى الوطن؟
- هل يذكر المساء
- مهاجرًا مات بلا كفن؟
- يا غابة الصفصاف! هل ستذكرين
- أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
- كأي شيء ميت إنسان؟
- هل تذكرين أنني إنسان
- وتحفظين جثتني من سطوه الغربان؟
- أماه يا أماه
- لمن كتبت هذه الأوراق
- أي بريد ذاهب يحملها؟
- سدّت طريق البر، والبحار والآفاق ..
- وأنت يا أماه
- ووالدي، وإخوتي، والأهل، والرفاق ..
- لعلّكم أحياء
- لعلّكم أموات
- لعلّكم مثلي بلا عنوان
- ما قيمة الإنسان
- بلا وطن
- بلا علم
- ودونما عنوان
- ما قيمة الإنسان.
شعر الولادة
يقول محمود درويش:
- كانت أشجار التين
- وأبوك..
- وكوخ الطين
- وعيون الفلاحين
- تبكي في تشرين!
- المولود صبي
- ثالثهم..
- والثدي شحيح
- والريح
- ذرت أوراق التين!
- حزنت قارئة الرمل
- وروت لي،
- همسا،
- هذا الغصن حزين !
- يا أمي
- جاوزت العشرين
- فدعي الهمّ، ونامي
- إن قصفت عاصفة
- في تشرين..
- ثالثهم..
- فجذور التين
- راسخة في الصخر.. وفي الطين
- تعطيك غصوناً أخرى..
- وغصون!.
شعر محمود درويش عن الأب
- قصيدة أبي:
- غضّ طرفاً عن القمر
- وانحنى يحضن التراب
- وصلّي..
- لسماء بلا مطر،
- ونهاني عن السفر!
- أشعل البرق أوديه
- كان فيها أبي
- يربي الحجارا
- من قديم.. ويخلق الأشجار
- جلده يندف الندى
- يده تورق الشجر
- فبكى الأفق أغنية:
- كان أوديس فارساً..
- كان في البيت أرغفة
- ونبيذ، وأغطية
- وخيول، وأحذية
- وأبي قال مرة
- حين صلّى على حجر:
- غض طرقاً عن القمر
- واحذر البحر.. والسفر!
- يوم كان الإله يجلد عبده
- قلت: يا ناس! نكفر؟
- فروى لي أبي.. وطأطأ زنده:
- في حوار مع العذاب
- كان أيوب يشكر
- خالق الدود ..والسحاب
- خلق الجرح لي أنا
- لا لميت.. ولا صنم
- فدح الجرح والألم
- وأعني على الندم
- مرّ في الأفق كوكب
- نازلاً.. نازلاً
- وكان قميصي
- بين نار، وبين ريح
- وعيوني تفكر
- برسوم على التراب
- وأبي قال مرة:
- الذي ما له وطن
- ما له في الثرى ضريح
- ..ونهاني عن السفر.
- قصيدة "إلى آخري و إلى آخره":
- هل تَعِبْتَ من المشي
- يا وَلَديي ، هل تعبتْ؟
- نَعَمْ ، يا أَبي
- طال ليلُكَ في الدربِ،
- والقلبُ سال على أَرض لَيْلِكَ
- ما زِلْتَ في خفَّة القطِّ
- فاصْعَدْ إلى كتفيَّ،
- سنقطع عمَّا قليلْ
- غابة البُطْم والسنديان الأخيرةَ
- هذا شمالُ الجليلْ
- ولبنانُ من خلفنا،
- والسماءُ لنا كُلٌّها من دمشقَ
- إلى سور عكا الجميلْ
- ثم ماذا؟
- نعود إلى البيت
- هل تعرف الدرب يا ابني
- نعم ، يا أَبي:
- شرقَ خرّوبَةِ الشارع العامِّ
- دربٌ صغيرٌ يَضِيقُ بِصُبَّارِه
- في البداية ، ثم يسير إلى البئرِ
- أَوْسَعَ أَوْسَعَ ، ثم يُطِلُّ
- على كَرْمِ عَمِّي "جميلْ"
- بائعِ التبغ والحَلَوِيَّات،
- ثم يضيعُ على بَيْدَرٍ قبل
- أَن يستقيمَ ويَجلِس في البيت،
- في شكل بَبْغَاءَ،
- هل تعرف البيتَ ، يا ولدي
- مثلما أَعرف الدرب أَعرفُهُ:
- ياسمينٌ يُطوِّقُ بوَّابةً من حديد
- ودعساتُ ضوءٍ على الدرج الحجريِّ
- وعبَّادُ شمسٍ يُحَدِّقُ في ما وراء المكان
- ونحلٌ أليفٌ يُعِدُّ الفطور لجدِّي
- على طبق الخيزران ،
- وفي باحة البيت بئرٌ وصفصافةٌ وحصانْ
- السياج غدٌ يتصفَّحُ أَوراقنا..