قصة ولادة وابن زيدون

كتابة:
قصة ولادة وابن زيدون

بداية الحب بين ولادة وابن زيدون

ما الذي جمع ابن زيدون بولادة؟


لقد ولد أحمد بن عبد الله بن زيدون في قرطبة، وفي بيتٍ من بيوت أعيانها، فأبوه فقيه انحدر من سلالة بني مخزوم القرشيين، وجدّه لأمه كان وزيرًا، وبذلك يكون ابن زيدون قد نشأ في بيت علمٍ وأدب، وقد اهتمّ فيه أبوه اهتمامًا خاصًّا، وخلفَ أباه في تربيته وكفالته جدّه؛ إذ مات والد ابن زيدون وهو بعد لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.[١]


في كبره لمع اسمه في ميدان قول الشّعر، وفي أحد الأيام رأى في أحد مجالس قرطبة فتاةً حسناء تُدعى ولادة بنت المستكفي، وقد كان والدها خليفة اهتمّ بالمال والنساء، وقد كانت أمّها جارية قد أغوتْ ذلك الخليفة واستبدّت به، وقد عني والد ولادة بتعليمها وتثقيفها، فأصبحت تقول الشّعر وتجيد العزف على الآلات الموسيقيّة.[١]


صارت ولادة تستقطب الشّعراء وأهل الفن إليها، وقد كانت تتمتّع بشخصيةٍ غير ملتزمة تميل إلى اللهو، وكان ممّن جذبتهم ابن زيدون، فحدث ذات يوم أن جمع أحد المجالس بين ابن زيدون وولّادة بنت المستكفي، فوقع في حبّها وبادلتْه هي ذلك الحب، ولمّا سمحتْ لها الظّروف أرسلتْ إليه شعرًا تقول فيه:[٢]


ترقّب إذا جنّ الظلامُ زيارتي

فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمَ سرًّا

وبي منكَ ما لو كان بالبدر ما بدا

وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر


فلمّا جاء اللّيل اجتمع ابن زيدون بولادة في مكان ما، فتسامرا إلى أن اعترفت بحبّها وتبادلا الحب، وعندما حلّ الصّباح وصار موعد رحيل ابن زيدون أنشدها قوله:

ودَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك

ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما استَودَعَك

يَقرَعُ السِنَّ عَلى أَن لَم يَكُن

زادَ في تِلكَ الخُطا إِذ شَيَّعَك

يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَنًا

حَفِظَ اللهُ زَمانًا أَطلَعَك

إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم

بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك

فلم يكن حبّهم عذريًا عفيفًا، بل كان عنيفًا جريئًا، وبقيا كذلك يلتقيان في الرياض ويتبادلان الحب وكؤوس الخمر زمنًا.[٢]


تأزم العلاقة بين ولادة وابن زيدون

ما السّبب الّذي فرّق بين ولّادة وابن زيدون؟


وجاء وقت أبعد بين ابن زيدون وولادة لأمرٍ أجبر ابن زيدون على الابتعاد عن حبيبته، فكتبت إليه:[٣]

ألا هل لنا من بعد هذا التفرقِ

سبيلٌ فيشكو كلُّ صبٍّ بما لقي

وقد كنتُ أوقات التزاور في الشّتا

أبيتُ على جمرٍ من الشّوق محرقِ


فأجابها ابن زيدون بقوله:[٣]

لحا الله يومًا لستُ فيه بملتقٍ

مُحيّاكِ من أجل النوّى والتفرقِ

وكيف يطيب العيش دون مسرّةٍ

وأيّ سرورٍ للكئيب المؤرقِ


فعادا إلى اللقاء وتبادل الحب، ولكن سرعان ما تغيّرتْ ولادة على ابن زيدون، فصدّتْ عنه وهجرتْهُ، فأصبح يعاني ذلك الهجر ويتمنّى النظرة منها بأي ثمن ولكن بلا جدوى، ويعود سبب هذا الصد إلى أنّ ابن زيدون قد طلب من مغنية ولادة أن تعيد عليه ما غنّته، فأشعل ذلك نار الغيرة في صدرها، وقد كان تصرفها تصرّفًا أحمقَ يدلّ على قلّة إدراكها لما تخفي صدور الرجال، فقد ظنّت أنّه يغازل مغنيتها، وقالت في ذلك:[٤]

لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا

لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِِ

وَتركتَ غصنًا مثمرًا بجماله

وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ

ولقد علمت بأنّني بدر السما

لَكن دُهيتُ لشقوتي بالمشتري


قيل إنّ سبب انفصالها عنه هو انتقاده للبيت الذي قالته فيه، وهو:

سقى اللهُ أرضًا قد غدتْ لكَ منزلًا

بكلّ سكوبٍ هاطل الوبلِ مغدقِ

فقد زعم أنّ هذا البيت هو دعاءٌ على المحبوب وليس دعاءً له، ولكنه قد ذكر ذلك النقد بأسلوبٍ فظٍّ مما جعلها تبتعد عنه وتنفر منه، وهكذا سرعان ما أنهتْ علاقتها معه بعد ذلك الحب العنيف.[٤]


محاكمة ابن زيدون وهروبه من السجن

ما تهمة ابن زيدون التي سجن بسببها؟


بعدما انتهتْ العلاقة بين ولّادة وابن زيدون صرفت ولادة اهتمامها للوزير أبي عامر بن عبدوس، وقد كان وزيرًا ذا شأن كبير، ولكنّ ابن زيدون لم يفقد الأمل في وصل محبوبته، وظلّ يرسل إليها الرسائل والأخبار علّها تلين، ولكنّ ذلك كلّه كان لم يكن له فائدة تُذكر، ولمّا رأى ما رآه من عدم مبالاتها انتقل إلى ابن عبدوس، فأصبح يبعث له المعاتبات والتهديدات، فكتب له قصيدةً ينذر ويتوعّد بها افتتحها بقوله:[٥]

أَثَرتَ هِزَبرَ الشَرى إِذ رَبَضْ

وَنَبَّهتَهُ إِذ هَدا فَاغتَمَضْ

وَما زِلتَ تَبسُطُ مُستَرسِلًا

إِلَيهِ يَدَ البَغيَ لَمّا انقَبَضْ

حَذارِ حَذارِ فَإِنَّ الكَريمَ

إِذا سيمَ خَسفًا أَبى فَاِمتَعَضْ

فَإِنَّ سُكونَ الشُجاعِ النَهو

سِ لَيسَ بِمانِعِهِ أَن يَعَضْ


بقي هكذا يتهدّد ويتوعّد، إلى أن علم أنّ هناك فتاة تساعد ابن عبدوس في مراسلاته ليظهر بمظهرٍ جميلٍ أمام ولّادة، فكتبَ الرسالة الهزليّة التي سخر فيها من ابن عبدوس وقد جعلها على لسان ولادة، فغضبتْ منه ولادة وهجتهُ هجاءً شديدًا، وأمّا ابن عبدوس فقد حاكَ له تهمةً عند ابن جهور وهي أنّه يشترك في مؤامرة قد حيكت ضده، ولكنّه حوكم بتهمة أخرى وهي اتّهامه بالاستيلاء على عقار لبعض مواليه بعد موته، فوضعتْ الأغلال في يديه وقادوه إلى السجن.[٦]


قد جرت محاكمته أمام فقيه الأندلس ابن المكوي المالكي، وقد كان بينه وبين ابن زيدون عداوة قديمة، ممّا جعله يشدّد في أمره، ولمّا عرضتْ القضيّة عليه أمر بسجنه على الفور، فأصبح ابن زيدون يكتب الأشعار يوضّح لابن جهور -وهو الذي يقف وراء هذا السجن- ينفي فيها ما جاء به الوشاة وبراءته مما نسب إليه، ولمّا فقد الأمل من عفو الخليفة قرّر الهروب من السّجن وهرب فعلًا.[٧]


نهاية العلاقة بين ولادة وابن زيدون

هل استطاع ابن زيدون أن يكسب قلب ولّادة من جديد؟


بعد أن فرّ ابن زيدون من السجن فإنّه قصد إشبيلية وفيها كان المعتضد بن عبّاد، فقرّبه إليه وجعله وزيرًا له، وبقي بعد وفاته وزيرًا لابنه محمد المعتمد على الله، وظلّ في إشبيلية حتى وافته المنيّة هناك وهو ما يزال مقيمًا على حبّه لولادة ابنة الخليفة المستكفي[٨]، وخلال إقامته في إشبيلية بقي يعاتبها على غدرها به وصرفها هواها لابن عبدوس، ومن أشد ما صوّر جروحه وما أصابه من آثار ذلك الحب قصيدته التي بعثها إليها من إشبيلية يقول فيها:[٩]

أَضحى التَنائي بَديلًا مِن تَدانينا

وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقودًا بِأَنفُسِنا

وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولًا بِأَيدينا

وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا

فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا

نتُم وَبِنّا فَما اِبتَلّت جَوانِحُنا

شَوقًا إِلَيكُم وَلا جَفَّت مَآقينا

نَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائِرُنا

يَقضي عَلَينا الأَسى لَولا تَأَسّينا


لقد كان في قصة الحب بين ابن زيدون وولادة ابنة المستكفي وسليلة الملوك والخلفاء أثرٌ خالدٌ في الأدب العربي؛ إذ أثرَت هذه القصة المكتبة العربية بأشعار تُعدّ من عيون الشعر العربي، وألهَمَت المبدعين من بعدهم حتى يصوغوا هذه القصة في إطار قصصيّ أو مسرحيّ أو غير ذلك؛ إذ إنّ الحب الأرستقراطيّ قليل في الأدب العربي، وبذلك يكون مادة دسمة للدراسات الأدبية والنقدية.



لقراءة أشعار ولّادة في ابن زيدون، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: شعر ولادة لابن زيدون.

المراجع

  1. ^ أ ب ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (الطبعة 1)، تونس:الدار العربية للكتاب، صفحة 430، جزء 1. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ابن بسّام، الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة (الطبعة 1)، تونس:الدار العربية للكتاب، صفحة 430، جزء 1. بتصرّف.
  3. ^ أ ب شوقي ضيف، ابن زيدون، القاهرة:دار المعارف، صفحة 18. بتصرّف.
  4. ^ أ ب شَوقي ضيف، ابنُ زَيدون، القاهرة:دار المعارف، صفحة 18. بتصرّف.
  5. شوقي ضيف، ابن زيدون، القاهرة:دار المعارف، صفحة 23. بتصرّف.
  6. شوقي ضيف، ابن زيدون، القاهرة:دار المعارف، صفحة 23. بتصرّف.
  7. شوقي ضيف، ابن زيدون، ابن زيدون:دار المعارف، صفحة 23. بتصرّف.
  8. ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت:دار الكتب العلمية، صفحة 140، جزء 1. بتصرّف.
  9. سلامة موسى، الحب في التاريخ، المملكة المتحدة:مؤسسة هنداوي، صفحة 47. بتصرّف.
3818 مشاهدة
للأعلى للسفل
×