المبرد
المبرّد، هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، لقّب بـ المبرَّد لحسن وجهه وجوابه، ولد بالبصرة نحو سنة "210هـ/825م"، عاش المبرِّد في القرن الثالث الهجري أيْ التاسع الميلادي، وعاصر كثيرًا من خلفاء الدولة العباسية الذين اهتموا بالعلم والعلماء "كالمتوكّل"، وتلقى العلم على عدد كبير من أعلام عصره منهم: ابن إسحاق الجرمي، والمازني الذي وصفه المبرد بأنّه كان أعلم الناس بالنحو بعد سيبويه، كما تردد على "الجاحظ"، حتى عُدّ من شيوخه، وأخذ عن السجستاني والتوزي، وكان المبرِّد مُلمًّا بالعديد من العلوم البلاغية والنقدية والنحوية؛ لغيرته الشديدة على قوميته العربية، فألَّف العديد من الكتب في اللغة وآدابها ومن أهمها وأبرزها كتاب الكامل في اللغة والأدب الذي سيأتي الحديث عنه تاليًا. [١]
كتاب الكامل للمبرد
يعدُّ كتاب الكامل من أهمِّ كتب المبرّد، وأكثرها شيوعًا بين الناس، فهو أحد أركان الأدب الأربعة التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته بقوله: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكتاب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها". وقد قال فيه القاضي الفاضل "طالعته سبعين مرة، وكل مرة أزداد منه فوائد".
وقد جعل المبرّد من الكامل في اللغة والأدب مرجعًا مهمًّا يكشف ثقافته الواسعة وخلفيّته المعرفية وذخيرته الفكرية، التي جعلت منه عالمًا فذًا وبوأته مكانة عظيمة في حقل الأدب، وكتابه هذا دليل على ذلك؛ لاحتوائه على ذخائر كثيرة تنوعت في جل صفحات الكتاب ميزته عن باقي المتون الأخرى. هذا ويعدُّ الكامل في اللغة والأدب من أمتع كتب العربية؛ فهو يثقف النفس، ويهذب الروح، ويصقل العقل، ويوسع الأفق، وينمي في الإنسان ملكة حب المعرفة.
أما بالنسبة لموضوعات الكتاب فيتكوّن كتاب الكامل من جزأيْن، استهلهما الكاتب بمقدمة مختصرة يجلّي فيها منهجه ومقصده فيه، وبعد ذلك رتب المبرد كامله على أبوابٍ مختلفة ومتفرّقة، ضم الجزء الأول من الكتاب 45 بابًا والجزء الثاني "12" بابًا؛ صدره بالكلام عن قوله -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع"، وختمه بباب عنوانه: منتخب طريف الشعر وذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويّون.
ليس هناك ترتيب موضوعيّ للأبواب، ولا يختصّ كل باب بموضوع معين، إنّما جمعَ الكتاب فنونًا كثيرة من الأدب وألوان الثقافة العربية والأدبية والتاريخية والنحوية والأخبارية والقرآنية. وهو على اختلاف أبوابه يحتوي على مادة قرآنية غزيرة فسرها المؤلف تفسيرًا استمده من شواهد لغويّة ونحوية، بالإضافة إلى المادة المتمثلة في الأحاديث النبوية الصحيحة الإسناد، كما يضمّ الكتاب بين مجموعة من أمثال العرب التي خصص لذكرها بابًا، وبلغت خمسة وسبعين مثلًا، تجلّى ذلك في ذكر أصل المثل والمناسبة التي قيل فيها وشرحه.
ويذكر المؤلف أخبار الحكماء ويكثر منها، وفي مقدّمتهم الحسن البصري وأسماء بن خارجة والأحنف بن قيس وغيرهم، وقد تكرر ذلك في معظم صفحات الكتاب تحت عنوان "نبذ من أخبار الحكماء"، كما خصص المؤلف بابًا لذكر أمثال العرب، واعتنى بالشعر والشعراء عناية كبيرة؛ حيث أورد الكثير من أخبارهم ونماذج من أشعارهم. ومن أهم أغراض الشعر التي تطرق إليها: المدح والهجاء والعتاب والرثاء والفخر، وذكر بعض الشعراء أمثال أبي نواس وأبي العتاهية وبشار بن برد، كما ضمَّ الكتاب عددًا من خطب العرب من عصور مختلفة كخطبة عمر بن عبد العزيز وعتبة بن أبي سفيان وخطبة لمعاوية بن أبي سفيان وغيرهم.
ومن جهة أخرى عرض لنا المؤلف مواضيع مهمّة في البلاغة ممثلة في التشبيه، وأفرد لذلك بابًا ودراسة مفصلة بين فيها أن "العرب تشبه على أربعة أضرب، فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه، وهو أخشن الكلام"، وذيلها بشواهد شعرية لشعراء مبرَّزين منهم: امرؤ القيس والنابغة وذو الرمة والشماخ وعلقمة بن عبدة وغيرهم كثير. كما تناول في هذا الجانب الكناية وأقسامها، والمجاز وأنواعه، والاستعارة وألوانها، والالتفات والتجريد، وأفرد بابا آخر في الإيجاز والإطناب.
ثمّ انتقل من البلاغة إلى النحو، وهو من كبار أئمة المدرسة البصرية؛ فقد تطرّق إلى موضوعات نحوية من قبيل ما يجوزُ فيه يَفْعَل فيما ماضيه فَعَلَ مفتوح العين، وباب اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة، وباب فُعَل وباب النسب إلى المضاف، والنسب إلى علم المضاف، وإلى مضاف غير علم، وكان يورد الاستشهادات على كل قضية يطرحها، ويليها بشرح يتحرى فيه الدقة والعمق والتفريع.
وفيما يخص الأخبار الأدبية والتاريخية فقد أفرد المؤلف لذلك بابًا كبيرا ومفصلا ذكر فيه أخبار الخوارج، كما أولى اهتماما بشخصية الحجاج وبعض الأحداث التي زامنت عصر الحجاج، وضمن مواد الكتاب يسوقُ المبرد بعض الطرائف والنكت بين الحين والحين، والجدير بالذكر أن المؤلف تعمَّد تنويع مادة الكتاب، بغرض التنشيط والتشويق، ودفعِ الملل والسأم عن القارئ حتى لا يحس بالفتور.
منهج كتاب الكامل للمبرد
يظهر منهج كتاب الكامل من خلال المقدمة التي وضعها مؤلفه، فقد استهل المبرد كتابه بمقدمة مختصرة يجلي فيها منهجه ومقصده في الكتاب يقول فيها: "هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبًا من الآداب، ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة، والنية فيه أن نفسر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحا شافيا، حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفيا، وعن أن يرجع إلى أحد في تفسيره مستغنيًا".
وفي ضوء ما ورد في المقدّمة، يمكن القول بأنّ كامل المبرد هو في الأصل كتاب في الاختيارات الشعرية والنثرية، قدّمها المؤلف للمتلقي مشروحة ومفسرة، كما زوّده ببعض المسائل النحوية والصرفية، حتى أصبح الكتاب علي هذه الشاكلة كتابًا أدبيًّا لغويًّا نحويًّا شاملًا.
ولم يَسِرْ المبرّد في ترتيب أبواب الكامل لخطة معيّنة في ترتيب الموضوعات، بل عرضها عرضًا عفويًا، يتنقل فيه من موضوع لآخر ويستطرد في موضوعاته، ليكون الاستطراد منهجًا واضحًا بقصد إراحة المتلقي وانتقال لنفي الملل، أمّا من حيث الشواهد الشعرية، فقد أوردها بما يساعده في تفسير قاعدة أو معنى غريب، وقد أوضح منهجه في اختيارها بقوله: "وأحسن منه ما أصاب الحقيقة"، ولذلك يورد الكثير من أشعار المحدثين رغم التصور الشائع حول إجادة القدماء، وفي ذلك يقول: "هذه أشعار اخترناها من أشعار المحدثين، حكيمة مستحسنة".