محتويات
حكم الصّلاة على جنابة
لا تصّحُّ الصّلاة على جنابةٍ، والجنابةُ حالةٌ من عدمِ الطّهارة تحصلُ بالجِماع أو الاحتلامِ غالباً، وتستوجبُ الغُسلَ في كلِّ حالاتها، ويُطلِقُ عليها الفقهاء مصطلح الحَدَث الأكبر، ولا تصحُّ العديد من العبادات معها بأيِّ حالٍ من الأحوال للأدلة التي سنوردها فيما يأتي:[١]
- الدَّليل الأوَّل: نصوصُ القرآن الكريم: وردَ في القرآنِ الكريم في آية الطّهارة تحديداً الأمرُ بالتّطهُّر لأداء الصَّلاة، بالوضوء للحدثِ الأصغر و الغُسلِ للحدث الأكبر وهي الجنابة، حيث قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا).[٢].
- الدَّليل الثاني: نصوص السُّنة النَّبويَّة؛ أخرج الإمام البخاري في كتابه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا قَامَ في مُصَلَّاهُ، ذَكَرَ أنَّه جُنُبٌ، فَقالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ورَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا معهُ)،[٣] وفي هذه القصَّة دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ الصَّلاة على جنابةٍ لا تصحَّ، وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا أدركَ أنَّه على جنابةٍ هَرَعَ إلى الاغتسال.
- الدّليل الثالث: نصُّ الإجماع؛ أجمعَ العلماءُ سواء المتقدّمينَ أو المتأخّرينَ على وجوبِ التَّطهُّر من الحدثِ الأكبرِ والأصغر لصحَّةِ الصَّلاة، ولم يُعلَم أنَّ أحداً خالفَ في هذا الحكم قطّ.
إنّ الغُسلَ من الجنابةِ للصَّلاة شأنهُ كشأنِ باقي العبادات التي يجبُ فيها الغُسل من حيث استبدال الغسل بالتّيممِ في حال عدم وجودِ الماء، إذ لا تُترَكُ الصَّلاة بحالٍ من الأحوال، لا بالحدثِ الأصغر ولا بالحدث الأكبر، فلو انقطعَ الماء يتيمَّم ويمضي لأداءِ العبادة، وكذلك هو حال المسافر يتيمَّم إذا لم يجد الماءَ ولا يَتركُ الصَّلاة،[٤] وجاءَ بيانُ ذلكَ كلِّه في القرآنِ الكريمِ في قوله -تعالى- في سورة النِّساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)،[٥] وأمَّا من صلَّى جُنُباً ناسياً كان أو متعمّداً فإن صلاتهُ باطلةٌ ويجبُ عليهِ إعادتها، وهذا ممَّا لا خلافَ فيهِ.[٦]
حكم إمامة الجنب
لا يصحُّ على الجُنُبِ أن يصلِّي بالنَّاس، إذ إنَّ صلاتهُ باطلةٌ كما ذكرنا سابقاً سواءً كانَ قد صلَّى مُنفرِداً أو صلَّى جماعةً بالنَّاس إماماً، أمَّا المأمومُ -أي من صلَّى خلفَ الإمامِ-، فتكونُ صلاتهُ باطلةً بِلا خلافٍ إذا عَلِمَ بأمرِ جنابةِ الإمام، أمّا إن لم يعلم ففي ذلكَ خلافٌ،[٧] نذكره فيما يأتي:
- القول الأوَّل: قولُ الحنفيَّة؛ يرى أبو حنيفة أن صلاةَ المأمومِ خلف الإمام الجُنُبِ باطلةٌ مُطلقاً في كلِّ الحالات، تعمَّد الإمامُ أو كان ناسياً، وعَلمِ المأمومُ بذلك أم لم يعلم،[٨] لأنّهم يربِطونَ صحَّةَ صلاة الإمام بصحَّةِ صلاةِ المأموم.[٩]
- القول الثاني: قول الشافعيّة والحنابلة؛ وقد فرّقوا بين المأمومِ الذي عَلِمَ بجنابةِ الإمام أم لم يعلم، إذ يقولون ببطلان صلاةَ المأمومِ الذي عَلِم، ويُصَحِّحُونَ صلاةَ المأمومِ الذي لم يعلم، وذلكَ لأنَّ الجنابة ليست حالةً ظاهرةً على الإنسان، ولا يُطالَبُ المأمومِ بمعرفتها مِن بينِ أحوالِ الإمام، إذ عادةً ما يكونُ الإمامُ في الصَّلاةِ هو أقرأُ الحاضرينَ للقرآنِ الكريمِ، ويكونُ ممَّن عُرِفَ عنهم الصَّلاحُ والتَّقوى، ويصعبُ أن يجتمعَ الصَّلاح وقراءةُ القرآن مع تعمُّدِ الصَّلاة بالنَّاس على غيرِ طهارةٍ، لذا فالإمامُ الشَّافعيُّ يُعفِي المأمومَ من إعادةِ الصَّلاة في حالةِ عدم علمِه بذلك،[٨] ونجدُ بذلكَ أنَّ صلاةَ الإمامِ وصلاةُ المأمومِ غيرُ مرتبطتانِ عندهم مِن حيث الصِّحةِ ما لم يعلَم المأموم.[٩]
- القول الثالث: قول الإمام مالك؛ يربِطُ الإمامُ مالك حُكمَ صلاةِ المأمومِ بقصدِ الإمام، فإن تعمَّدَ الإمام الصَّلاة بالنَّاس على جنابةٍ بَطُلَت صلاتُه وصلاةُ المأمومين جميعهم، أمَّا إن كانَ ناسياً فلا تبطل صلاة المأمومين بذلك أبداً.[٩]
ما يحرم على الجنب
إنَّ الجنابةَ شأنُها شأنُ الحيضِ والنَّفاس، ويَحرُمُ بِها ما يَحرُمُ بالحدث الأصغر -أي كخروجِ الرّيحِ أو الذّهاب للغائط-، فالتَّطهّر منها كلِّها شرطٌ لقبول العبادات، ومِن جُملَةِ هذهِ الأمور المُحرَّمة على الجُنُب ما يأتي:[١٠][١١]
- أوَّلاً: الصَّلاة؛ وأنواعُ السّجودِ تأتي تَبَعَاً للصَّلاةِ؛ كسجودِ التلاوة، وجميعها ممنوعةٌ على الجُنُبِ، بدليلُ قوله -تعالى-: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا فَاطَّهَّرُوا).[١٢]
- ثانياً: الطَّواف حول الكعبة؛ حيث يُمنَعُ على الجُنُبِ الطَّواف في الحرم المكِّي حول الكعبةَ، فرضاً كانَ كطوافِ الإفاضة، أو سنَّة كانَ كطوافِ الوداع، ودليل ذلك قول رسولِ الله -صلى الله عليهِ وسلم-: (الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ)،[١٣] ووجه الدَّلالة من الحديث أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقرّر أنَّ الطَّواف كالصَّلاة يجب له ما يجب لها، والصَّلاة محرَّمةٌ على الجُنُبِ فيكون الطَّواف أيضاً محرَّمٌ عليه.
- ثالثاً: قراءة القرآن: والقراءة هنا تعني التَّلفُّظ بالآيات، ويُسثنى منها الذِّكر المعتاد والأدعية المأثورة التي تشتمل على آيات، ويستدلُّون بحديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لمَّا قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقرئُنا القرآنَ على كلِّ حالٍ ما لم يكن جُنبًا).[١٤]
- رابعاً: مسُّ المصحفِ الشَّريف؛ استدلالاً بقوله -تعالى-: (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).[١٥].
- خامساً: دخول المسجد أو الاعتكافُ فيه: يحرمُ على الجُنُبِ المكثوب في المسجد لأنَّ المسجد بيت من بيوت الله -تعالى- التي تقتضي الطَّهارةَ لدخولها أو البقاءُ فيها.
وجوب الغسل من الجنابة وأحكامه
الاغتسالُ من الجنابةِ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ، وشرطٌ لأداءِ العبادات، وهذا ثابتٌ بالقرآن والسُّنة وفِعل رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، للأدلة المذكورةِ سابقاً في مَنعِ الصّلاةِ على جنابة، ويُستثنَى الصّيامُ من العبادات المحرَّمة على الجُنُبِ؛ فلو جامع رجلٌ زوجته قبلَ الفجرِ في رمضان، ولم يغتسل حتّى بعد طلوعِ الشّمسِ صحَّ صيامه،[١٦] والغسلُ هو وصولُ الماءِ إلى بدنِ الإنسانِ، وتَعرِضُ للغسل مسائلُ عدَّةٌ، كما أنَّ لَه كيفيةً مأثورةً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نُفَصِّلُ في مسائلهِ فيما يأتي:
- المسألة الأولى: جمعُ غسلِ الجنابةِ مع غسلٍ آخر فرضاً كان أو نفلاً: ولا حرجَ في ذلكَ، إذ لا بأسَ أن يغتسلَ المسلمُ للجنابةِ وللعيدِ معاً، أو للجنابةِ مع غُسلِ الجمعةِ معاً، وإذا كان الغسلُ الآخرُ فرضاً كغسلِ الحيضِ، فيجوز أن يجتمعا للمرأةِ في غُسلٍ واحد.[١٧]
- المسألة الثانية: تَعَدُّدُ الأفعالِ الموجبة لغسلِ الجنابةِ وجمعُها في غسلٍ واحدٍ: كأن يُجامِعَ الرّجلُ زوجته أكثرَ مِن مرَّة ويغتسلُ لذلكَ مرةً واحدة، أو أن يكونَ له عدَّة زوجاتٍ يَطوفُ عليهنَّ في ليلةٍ واحدةٍ، فيجوز له أن يغتسل لذلك مرّةً واحدةً، ولا حرجَ في ذلك، إلّا أنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- استحبّ الغسل عند كلّ واحدة، إذ يروي أبو رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاف ذاتَ يومٍ على نسائِه يغتسِلُ عندَ هذه وعندَ هذه، فسألهُ: (يا رسولَ اللهِ ألا تجعَلُه غُسلًا واحدًا؟ قال: هذا أزكى وأطيبُ وأطهرُ)،[١٨] فنرى أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يُنكِر مَن فَعَلَهُ على غُسلٍ واحدٍ ولم يُوجِب تِكرارَ الغُسلِ وإنَّما استحبَّه فقط.[١٩]
أما كيفيةَ الاغتسال للجنابة غُسلاً تامَّاً ممَّا أُثِرَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو فيما يأتي:[٢٠]
- أولاً: النّيةُ: ولا يُشتَرَطُ فيها التّلفُّظُ بالِلّسانِ.
- ثانياً: البسملة: وتكونُ بابتداءِ الغُسل بقول -بسمِ الله-.
- ثالثاً: الإتيانُ بأفعالِ الوضوءِ: فيأتي المسلمُ بأفعال الوضوء كاملةً -من مضمضة واستنشاق وغسل اليدين ومسح الرأس...-، وكأنَّه يتوضّأ للصلاةِ.
- رابعاً: إراقةُ الماءِ على الرأس: ويعيدهُ المُغتسِل ثلاثَ مراتٍ.
- خامساً: تعميمُ البدنِ بالماءِ: ويبدأ المُغتسِل بالشقِّ الأيمنِ قبلَ الأيسر.
المراجع
- ↑ دبيان الدبيان (2005ك)، موسوعة أحكام الطهارة (الطبعة الثانية)، الرياض: مكتبة الرشد، صفحة 251-253، جزء 11. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية: 6.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 275، صحيح.
- ↑ وهبة الزحيلي (1418ه)، التفسير المنير (الطبعة الثانية)، دمشق: دار الفكر المعاصر، صفحة 85، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 43.
- ↑ مجموعة من المؤلفين (2009م)، فتاوى الشبكة الإسلامية، www.islamweb.net، صفحة 1700، جزء 11. بتصرّف.
- ↑ ابن القطان الفاسي (2004م)، الإقناع في مسائل الإجماع (الطبعة الأولى)، مصر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، صفحة 144، جزء 1. بتصرّف.
- ^ أ ب القاضي عبد الوهاب (1999م)، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (الطبعة الأولى)، لبنان: دار ابن حزم، صفحة 279-280، جزء 1. بتصرّف.
- ^ أ ب ت وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، سوريا: دار الفكر، صفحة 1218-1219، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، سوريا: دار الفكر، صفحة 537-539، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، سوريا: دار الفكر، صفحة 624، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية: 6.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح النسائي، عن رجل، الصفحة أو الرقم: 2922، صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم: 146، حسن صحيح.
- ↑ سورة الواقعة، آية: 79.
- ↑ عبد الرحمن الجزيري (2003م)، الفقه على المذاهب الأربعة (الطبعة الثانية)، لبنان: دار الكتب العلمية، صفحة 110-111، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، سوريا: دار الفكر، صفحة 540-542، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصفحة أو الرقم: 219، حسن.
- ↑ محمد الزرقاني (1996م)، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (الطبعة الأولى)، لبنان: دار الكتب العلمية، صفحة 261-262، جزء 10. بتصرّف.
- ↑ ابن عثيمين (1420م)، كتاب من الأحكام الفقهية في الطهارة والصلاة والجنائز (الطبعة الأولى)، المملكة العربية السعودية: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 9. بتصرّف.