محتويات
عذاب قوم شعيب عليه السلام
جمع الله -سبحانه وتعالى- لقوم سيدنا شعيب -عليه السلام- صنوفاً من العذاب، وأنواعاً من العقوبات، وأشكالاً من البلايا المتنوعة؛ وذلك لما اتصفوا به من قبح الأفعال والأعمال، وتكذيب الرسل والأنبياء، والاستهانة بالإنذار والإمهال الإلهي؛ فكان عذابهم بالرجفة والصيحة والظُّلة.[١]
وقد جمع بعض المفسرين والمؤلفين بين هذه العذابات فقالوا: إنّ أول ما بُدأ بهم كان بالرجفة، فخرجوا من بيوتهم خوفاً من سقوط الأبنيّة عليهم، فصهرتهم الشمس بحرارتها، فكانت لهم الظُّلة التي أُحرقوا بها؛ ثمّ عمّتهم الصيحة فهمدوا بعدها.[١]
وقد ذكر الله -سبحانه- هذه العذابات في القرآن الكريم، في عدد من السور المباركة؛ فكان الإخبار عن العذاب في كل سورة بطريقة تناسب سياقها العام، وتوافق موضع الآيات المذكورة فيها؛ ويمكن ذكر هذه العذابات مع الآيات الكريمة التي تحدّثت عنها على النحو الآتي:
الرجفة
جاء ذكر الرجفة في سورة الأعراف؛ حيث ناسب الحديث عنها في هذه السورة؛ لأنّ قوم شعيب -عليه السلام- أرجفوه ومن معه من المؤمنين بالإخراج من القرية، وأخافوهم من الإكراه على اتباع ملّة الكفر والشرك؛ فكان الإرجاف للقوم مقابل الإرجاف للمؤمنين، والخيفة مقابل الإخافة.[٢]
قال -تعالى-: (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ)؛[٣] والرجفة هي شدّة الحركة والاضطراب،[٤] فأخذت الأرض تزعزعهم وتشتدّ بحركتها عليهم حتى كانوا خامدين هالكين.[٥]
الصيحة
قال -تعالى- في سورة هود: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)؛[٦] والحديث عن عذاب الصيحة في هذه السورة الكريمة مناسب لما ذُكر فيها من حوار شعيب -عليه السلام- وقومه.
الذين رموا نبيّهم بالكلام القبيح والاستهزاء والنقص، والتهكم على العبادة التي جاء بها هذا النبيّ الكريم، فكانت الصيحة مناسبة لإسكاتهم وزجرهم، ونهيهم عن هذا التعاطي، فجاءتهم صيحة تُسكتهم، بعد رجفة أسكنتهم؛[٢] بأن صاح بهم جبريل -عليه السلام- بصوت شديد مرتفع، أخرجت أرواحهم من أجسادهم، وصُرعوا على ركبهم من هول ما سمعوه.[٧]
الظُّلة
أخبر الله -سبحانه- في سورة الشعراء أنّ عذاب قوم شعيب -عليه السلام- كان بالظُّلة؛ وذلك إجابةً لما طلبوه من نبيّهم -عليه السلام- بأن يُسقط عليهم السماء، فكان الجواب لما رغبوا به؛ قال -تعالى-: (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).[٨][٢]
وقد ذكر بعض أهل العلم أنّ قوم شعيب -عليه السلام- أصابهم الحرّ الشديد، إذ بعث الله -تعالى- عليهم حرّاً حارقاً لم تنفعهم بيوتهم في الوقاية من ذلك، فأرسل الله -سبحانه- عليهم سحابة كبيرة، أسرع القوم إليها ونادوا بعضهم بعضاً ليستظلوا بها.[٩]
ولمّا وصلوها كانت أشدّ حرّاً مما سبق، فأهلكهم الله -تعالى- تحتها، وقيل إنّ أدمغتهم غلت في رؤوسهم كما يغلي الماء في القدر الموضوع على النار؛ وذلك من شدّة ما نالهم من الحرّ والغمّ،[٩] وقيل إنّ الحرّ تسلّط عليهم سبعة أيام، فخرج أحد القوم يبتغي مكاناً يستظلّ فيه، فرأى سحابة أرسلها الله -تعالى-، فلمّا جلس عندها وجد الراحة وبرد الظلّ؛ فانطلق يدعو القوم، ولمّا اجتمعوا تحتها تأججت ناراً فهلكوا.[١٠]
قوم شعيب عليه السلام هم أصحاب الأيكة
ردّ جمعٌ من أهل العلم على بعض المفسرين الذي قالوا بأنّ قوم شعيب -عليهم السلام- وأصحاب الأيكة قومان مختلفان؛ وأنّ لكلٍ منهما عذاباً متعلقاً به؛ فاستبعدوا أن تكون هذه العذابات المشار إليها سابقاً هي لقوم شعيب -عليه السلام- وحدهم؛ وقد بيّن ابن كثير -رحمه الله- القول الفصل في هذه المسألة، والذي يمكن تلخيصه وفق التسلسل الآتي:[١١]
- إنّ عدم ذكر صلة القرابة بين شعيب -عليه السلام- وأصحاب الأيكة بلفظ "أخاهم"؛ مناسب لسياق الآية الكريمة التي يقول فيها -تعالى-: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ)؛[١٢] إذ إنّ الحديث عن عبادة القوم للأيكة لا يتناسب مع ذكر الأخوة هاهنا، ولمّا نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر "أخاهم" ونسبته إليهم؛ قال -تعالى-: (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا...)؛[١٣] وهذه من اللطائف والنفائس القرآنية الشريفة والجميلة.
- إنّ القول بأنّ عذاب يوم الظُّلة مختص بأصحاب الأيكة فقط؛ يقتضي القول بأنّ تعدد الانتقام بعذاب الرجفة والصيحة دليلٌ على أنّ كلاً منهما عذاب لأمتين مختلفتين؛ وهذا مما لا يقول به أحد من أهل العلم.
- إنّ الحديث الذي يُستشهد به على أنّ أصحاب الأيكة وقوم شعيب -عليه السلام- أمتان مختلفتان هو حديث غريب، وفي سنده من تُكلّم به من الرجال، والأقرب أنّه من أخبار أهل الكتاب التي نقلها عنهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-.
- إنّ الله -سبحانه- ذكر المذمّة في أصحاب الأيكة من التطفيف في المكيال والميزان ما ذكره في قوم شعيب -عليه السلام-؛ فدلّ كل هذا على أنّهما أمة واحدة أُهلكوا بأنواع متعددة من العذاب.
المراجع
- ^ أ ب الخطيب الإسكافي، درة التنزيل وغرة التأويل، صفحة 766-767، جزء 2. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ابن كثير، البداية والنهاية، صفحة 437-439، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة الأعراف، آية:90-92
- ↑ عبد العظيم المطعني، خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، صفحة 349، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ أبو المظفر السمعاني، تفسير السمعاني، صفحة 180، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ سورة هود، آية:94
- ↑ أبو جعفر ابن جرير الطبري، تفسير الطبري جامع البيان، صفحة 559، جزء 12. بتصرّف.
- ↑ سورة الشعراء، آية:185-189
- ^ أ ب مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، صفحة 434-345، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 217، جزء 19. بتصرّف.
- ↑ ابن كثير، قصص الأنبياء، صفحة 287-289، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة الشعراء، آية:176-177
- ↑ سورة الأعراف، آية:85