مراحل تدوين القرآن الكريم
عُني النبي -عليه الصلاة والسلام- بحفظ القُرآن الكريم في صدره، فكان يُكثر من تلاوته غيباً، وكان جبريل -عليه السلام- يُراجعه معه، لحديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: (كانَ يَعْرِضُ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عليه مَرَّتَيْنِ في العَامِ الذي قُبِضَ فِيهِ)،[١] واهتمّ صحابته كذلك بحفظه، وساعدهم على ذلك ما كانوا يتمتّعون به من قوة الحفظ والذاكرة، ونُزول القُرآن مُفرقاً، وقراءتهم له في الصلوات، والعمل به في حياتهم، وسماعهم من النبي -عليه الصلاة والسلام- الأجر الكبير المُترتّب على تلاوته؛ فالحرف يُضاعفه الله -تعالى- إلى عشر حسنات، بالإضافة إلى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان دائم المُتابعة لِحِفظهم وتعليمهم؛ فإذا دخل شخصٌ أو جماعةٌ الإسلام؛ أرسل معهم من قُرّاء الصحابة لِيُعلّمهم القُرآن، وقد جاء في كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة التي تُثبت وجود عددٍ كبير من الحُفّاظ بينهم، كرواية استشهاد سبعين صحابياً منهم في حروب الردّة.[٢]
المرحلة الأولى
وجّه النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة لأخذ القُرآن عن كِبار المُقرئين منهم، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (خُذُوا القُرْآنَ مِن أرْبَعَةٍ؛ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -فَبَدَأَ به-، وسَالِمٍ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، ومُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ)،[٣] بالإضافة إلى الخُلفاء الراشدين أيضاً، وقد تطوّرت أساليب حفظ القُرآن في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- واعتمدت طريقتين، فذكرنا حفظه في الصدور، ثُمّ السطور، وهي من طُرق جمعه الدائم على مدار الأزمان، فقد تمّ جمع القرآن تدويناً في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وذلك من خلال كتابة الآيات فور نُزولها؛ حيث كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كُلّما نزلت عليه آيات، يُنادي على كُتّاب الوحي أو أحدُهم ويُملي عليه ذلك، وقد حَصَر النبي جُهدهم في كتابة القُرآن فقط، فقال لهم: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، ومَن كَتَبَ عَنِّي غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)،[٤] مما ساعد على توفّر العديد من نُسخ القُرآن عند بعض الصحابة؛ كأُبيّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل، وغيرهم.[٢]
أدلة كتابة القرآن في عهد النبي
أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بعض الصحابة بكتابة القُرآن الكريم، وسُمّوا بِكُتّاب الوحي، ومما يدُلّ على كتابته في عصره ما يأتي:[٥]
- قوله الله -تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)؛[٦] فلفظ الكتاب فيه دلالةٌ على أنه كان مكتوباً.
- قوله -تعالى-: (رَسُولٌ مِّنَ اللَّـهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)؛[٧] وكلمة الصحيفة كذلك تُطلق على الشيء المكتوب.
- حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: (نَهَى أنْ يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ)،[٨] وكذلك الإذن منه في كتابته، ونهيِه عن كتابة غيره، ووجود كُتّاب الوحي، وقد جاء عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنّه كان جاراً للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان النبيّ يبعث إليه كُلّما نزل عليه شيئاً من القُرآن ليكتُبه.
- توجيه النبي -عليه الصلاة والسلام- لِكُتّاب الوحي بوضع الآيات والسور التي تنزّل في موضعها، ومُراجعته معهم بعد كتابته.
كتّاب الوحي في عهد النبي
كان عددُ كتّاب الوحي في عهد النبيّ ما يُقارب الأربعة والأربعين كاتباً، وكانوا يضعون ما يكتبونه في حُجرات النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن أشهرهم:[٥]
- عبد الله بن سعد بن أبي السّرح: وهو أوّل من كتب للنبي -عليه الصلاة والسلام- في مكّة؛ حيث كان من القلّة الذين يعرفون الكتابة، ولكنّه ارتدّ عن الإسلام، فتوقّف عن الكتابة، وعاد إليها بعد أن رجع إلى الإسلام بعد فتح مكة.
- عُثمان بن عفان بن أبي العاص: وهو أحد الخُلفاء الراشدين.
- علي بن أبي طالب: وهو أحد الخُلفاء الراشدين، وكان ممّن كتب أكثر التنزيل.
- أُبيّ بن كعب بن قيس: وهو أوّل من كتب الوحي عند قدومه إلى المدينة، وكان من قُرّاء الصحابة.
- زيد بن ثابت: وكان من أكثر الكُتّاب مُلازمةً للكتابة؛ لأنّ ذلك كان عمله الوحيد.
- مُعاوية بن أبي سُفيان: حيث عرض أبوه على النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يكون ابنه من كُتّابه، فوافق على ذلك، فلازمه في الكتابة.
صفة الكتابة في عهد النبي
وكان كُتّاب الوحي يستخدمون ما تيسّر من أدوات الكتابة المختلفة في زمنهم: كالرّقاع؛ وهي القطع من الجلد أو القماش أو الورق، وأكثر كتابتهم كانت بهذه الأدوات، وكذلك الأكتاف وعظام الحيوانات، والعُسُب؛ وهو جريد النخل، واللّخاف؛ وهي الحجارة، وكذلك الأقتاب؛ وهي قطع الخشب التي توضع على البعير، وكذلك الألواح، والكرانيف؛ وهي التي تكون في جذوع النخل، وقد انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى والقُرآن كُلّه مكتوباً، ولم يكُن القرآن مكتوباً حينها في مكانٍ وصحيفةٍ واحدة، وكذلك لم يكن مرتّباً حسب السور، بل حسب النّزول، إلا أن الصحابة كانوا يعلمون ترتيب سوره وآياته من النبي -عليه الصلاة والسلام-، والسبب في عدم جمعه في مُصحفٍ واحدٍ هو تقطّع النّزول، فتنزل سورةٌ بعد أُخرى تارة، وتنزل بعض السورة، ثم بعضها الآخر في وقتٍ مُتأخِّرٍ عنها، إضافةً إلى أن الفترة بين آخر الآياتِ نُزولاً وبين وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- كانت فترةً قصيرةً وغير كافيةٍ لجمع القرآن في مُصحفٍ واحدٍ، ولم تكن الحاجة عندها مُلحّة لجمعه حينئذٍ، كما كانت بعده.[٥]
المرحلة الثانية
سبب تدوين وجمع القرآن في عهد أبي بكر
تولى الخلافة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فارتدّ عددٌ كبيرٌ من الناس عن الإسلام، فكانت حروب الردّة في موقعة اليمامة، واستُشهد فيها قرابة السبعين من قُرّاء الصحابة، فأشار عُمر -رضي الله عنه- على الخليفة بجمع القُرآن؛ مخافةً عليه من الضّياع، فتردّد الخليفة أبو بكرٍ في بداية الأمر؛ لِقدومه على فعلٍ لم يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبقي يُراجعه حتى شرح الله -تعالى- قلبه للفكرة، واختار زيد بن ثابت -رضي الله عنه- لجمعه؛ لِما رأى فيه من العقل، والأمانة، والورع، والدين، ولكتابته للوحي في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحُضوره العرضة الأخيرة للقُرآن، فقام زيد بتتبّع القُرآن من خلال أدواته التي كُتب عليها، ومن صدور الصحابة الحُفاظ.[٩]
كيفية تدوين وجمع القرآن في عهد أبي بكر
وضع زيدٌ خُطّةً مُحكمةً للجمع، وذلك بأخذ ما كُتب أمام النبي -عليه الصلاة والسلام- وبإملاءٍ منه، وما كان محفوظاً عند الصحابة على زمن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد كان يتأكّد من كلّ ذلك بشهادة عدليْن، وهما كما قال ابن حجر: الحفظ والكتابة، وقال السّخاويّ: رجلان عدْلان يشهدان أنه كُتب عند النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما كان يتأكّد من ثُبوت الآيات في العرضة الأخيرة على النبيّ، وعدم نسخها، فجمع -رضي الله عنه- القرآن بهذه الطريقة التي احتاط فيها لكتاب الله، وكان ذلك تحت إشراف أبي بكرٍ وعُمر وكبار الصحابة -رضي الله عنهم-، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أوّل من جمع القُرآن بين لوحيْن، وحفظه عنده إلى أن تُوفّي، وامتاز هذا الجمع بعدّةِ أمورٍ هي:[٩]
- جُمع القرآن في هذا المرحلة على أعلى درجات الدقّة، وأصحّ وجوه التثبّت.
- حاز جمعه على إجماع الصحابة، وقد تواتَر كلّ ما ورد فيه.
- كان جمعه شاملاً للأحرف السبعة التي نزل بها القُرآن.
نتائج جمع القرآن في عهد أبي بكر
كانت الأدوات والوسائل المُتوفّرة في عهد الصحابة قليلة، فقد استُخدم في جمع القرآن وكتابته: الحجارة، والجُلود، والأخشاب، والعظام، والعُسُب، واللّخاف، والأضلاع، وغيرها، وقد ورد ذكرُها وبيان معانيها في المرحلة الأولى، وكانت أبرز النتائج التي ترتّبت على هذا الجمع ما يأتي:[٩]
- كتابة القُرآن الكريم بِشكلٍ كامل، وزوال الخوف من ضياعه بموت حُفّاظه وقُرّائه.
- حفظ وجمع القُرآن الكريم في مكانٍ واحد بعد أن كان مُتفرّقاً، وإجماع الصحابة على كلّ ما كُتب وسُجّل فيه.
- صار بمثابةِ سجلٍّ يُرجع إليه عند الضرورة.
المرحلة الثالثة
توسّعت الفُتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عُثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فسمح للناس الانتشار في الأمصار، فتفرّق القُرّاء منهم في البلاد، وتعلّم كُل أهل مِصرٍ القراءة ووجوهها والأحرف السبعة ممّن سكن عندهم من القُرّاء، فأهل الشام مثلاً أخذوا بقراءة أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه-، وأهل البصرة أخذوا بقراءة أبي موسى الأشعري، ممّا جعل الاختلاف بين وجوه القراءة في الأمصار يُؤدي إلى تكفير الفتنة بين الناس، حتى قال بعضهم لبعض: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وكانت الفتنة في البلاد البعيدة والنائية أقل اختلافاً وفتنةً من غيرها، فتنبّه حُذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- لما حدث، وتوجّه إلى الخليفة بعد فتح أرمينية؛ لجمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ، وكان الجهل بنزول القُرآن على سبعةِ أحرف من أسباب الفتنة بين المُسلمين في الأمصار.[١٠]
قرّر الخليفة عثمان -رضي الله عنه- تدارُك الأمر قبل انتشاره، وذلك بجمع الناس على قراءةٍ واحدة؛ وهي التي كان يقرأ بها عامّة الصحابة في المدينة، والتي كتبها زيد بن ثابت -رضي الله عنه- في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبي بكرٍ -رضي الله عنه-، فخطب عثمان بالناس؛ لاستشارتهم، ودعوتهم للقيام بالمهمّة، ثُمّ أرسل إلى حفصة -رضي الله عنها-؛ لتُرسل له المُصحف الذي جُمع في عهد أبي بكرٍ -رضي الله عنه-، وردّه إليها بعد الانتهاء من نسخه، وعيّن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، للقيام بنسخه، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، وعندما انتهوا من نسخه، قام عثمان بحرق غيره من النُسخ، وكان ذلك بعد مُشاورة الصحابة وتأييدهم، وأرسل كُل نُسخة إلى مِصر، وأعاد المُصحف إلى حفصة -رضي الله عنها-.[١٠]
أمّا عدد النُسخ التي قام الصحابة بنسخها؛ فلم يرد بذلك عددٌ صحيح وثابت، فقد نُقل عن حمزة الزيّات أن عثمان كتب أربعة مصاحف، وكذلك قال الدانيّ، وروى ابن أبي داود عن أبي حاتم السجستانيّ إنها سبعة نُسخ، وبعث واحداً إلى مكة، وآخر إلى الشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وجعل بالمدينة واحداً، وقال القسطلانيّ إنها خمسُ نُسخ، وكان لهذا النَّسخ الأثر العظيم في الحفاظ على القُرآن وألفاظه، وقال البغويّ: "يرحم الله عثمان لو لم يجمع الناس على قراءةٍ واحدة لقرأ الناس القرآن بالشّعر"، أمّا الفُروقات بين جمع أبي بكرٍ وعُثمان -رضي الله عنهما- هي: أن الجمع الأول كان مخافة الضياع نهائياً، والجمع الثانيّ: كان لرفع الحرج والفتنة بين الناس؛ لاختلافهم وجهلهم في وجوه القراءة، والأحرف السبعة، وكان كلا الجمعين حسب ترتيب الآيات والسور بتوقيفٍ من النبي -عليه الصلاة والسلام،.[١٠] وكان لجهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الأثر الكبير في حفظ القُرآن بشكله ومضمونه من التحريف والتغيير، فمُنذ نُزوله لم يقدر أحدٌ على الزيادة أو النُقصان منه.[١١]
بقاء القرآن الكريم محفوظاً
الأدلة على حفظ القرآن الكريم
تكفّل الله -تعالى- بحفظ القُرآن الكريم من الزيادةِ أو النُقصان أو الضياع، ودلّ على ذلك الكثير من الأدلة، ومنها ما يأتي:[١٢]
- قول الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)؛[١٣] وفسّر الطبريّ هذه الآية بأن الله -سبحانه- حفظ القُرآن من الزيادة أو النُقصان؛ سواءً كان ذلك في حُروفه، أو أحكامه، أو حُدوده، أو فرائضه، وقال قتادة يعني ذلك حفظه من زيادة الشيطان فيه شيئاً من الباطل، أو النُقصان من الحق الذي فيه.
- قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)؛[١٤] قال الطبريّ إن هذا القُرآن عزيزٌ بعزِّ الله -تعالى- الذي أنزله، فلا يقدر أحدٌ على تغييره، أو تبديله، أو تحريفه، ولا يقدر أحدٌ على تبديل معانيه، أو إلحاق ما ليس فيه به، سواءً كان إنسان أو شيطان.
- قوله -تعالى-: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)؛[١٥] قال ابن كثير إنه لا مُغيّر أو محرّف أو مُؤوّل لكلام الله -تعالى-، وقال السعديّ إنه لا مُغير أو مُبدل لصدق وعدل كتاب الله -تعالى-.
- قوله -تعالى-: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)؛[١٦] فكتاب الله -تعالى- محفوظٌ في صدور أهل العلم، ولا يُمكن لأحدٍ تغييره.
- قوله -تعالى-: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)؛[١٧] أي إن الله -تعالى- توعّد من يُحاول الزيادة أو النقص أو الافتراء من كتابه بالعُقوبة العاجلة.
- قوله -تعالى-: (حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)؛[١٨] فَوَصْف الله -تعالى- لكتابه بالعلوّ والرِّفعة دليلٌ على حفظه من التغيير والتحريف، وجاء عن ابن كثير إن كلمة حكيم تعني أنه بعيدٌ عن اللّبس والتحريف.
- قوله -تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)؛[١٩] فالقُرآن محفوظٌ من كُلّ شكّ، وتحريفه وتغييره من أعظم أنواع الشك التي نفاها الله عن كتابه الكريم.
- قول النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن ربّه: (إنَّما بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ)؛[٢٠] أي أن القرآن محفوظٌ في الصدور، لا يتغيّر على مدار الأزمان ولو غُسلت جميع المصاحف بالماء.
أسباب أدّت إلى حفظ القرآن
وقد حرِص النبي -عليه الصلاة والسلام- مُنذ نُزول الوحي على القرآن بحفظه وإظهاره، فكان يستعجل حفظه بتحريك لسانه في شدّةٍ وحرج؛ مخافةَ نسيانه، فقال الله -تعالى- له: (لاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)،[٢١] فأمره الله -تعالى- بأخذ الوحي، وهو -سبحانه- يتكفّل بحفظ القرآن وجمعه وبيانه وتفسيره له، وكان الوحي يُراجِعُ القرآن مع في كُل عامٍ مرةٍ واحدة، وفي العام الذي توفّي فيه النبيّ راجعه معه مرّتين، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُراجعُه في جميع أوقاته؛ كصلاته، وسفره، وحضره، وكان يأتمرُ بأمره، ويجتنب نواهيه، ويُبلِّغه للناس، مما جعل الصحابة -رضي الله عنهم- يُلازمونه، ويتعلمون القُرآن منه ويحفظونه،[٢٢] ومن الأسباب التي ساعدت على حفظ القُرآن الكريم إضافةً إلى ما سبق ما يأتي:[٢٣]
- تميّز أسلوب القرآن الكريم ونظمه البليغ.
- تشريع قراءته في الصلوات، سواءً كانت فرضاً أم نافلة، سراً أم جهراً.
- تعلُّقه بالتشريعات والأحكام الشرعيّة وأُمور الحياة، كالصلاة، والمُعاملات، والعبادات، وغير ذلك.
- ترتيب الأجر والثواب على قراءته، وحفظه، وتعلُّمه، وتعليمِه، كقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).[٢٤]
- سهولة حفظه وتيسيره، لقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).[٢٥]
المراجع
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 4998، صحيح.
- ^ أ ب نور الدين محمد عتر الحلبي (1993)، علوم القرآن الكريم (الطبعة الأولى)، دمشق: مطبعة الصباح، صفحة 161-169. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 3808، صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم: 3004، صحيح.
- ^ أ ب ت علي بن سليمان العبيد، جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 20-29. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 2.
- ↑ سورة البينة، آية: 2-3.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 2990، صحيح.
- ^ أ ب ت عبد القيوم عبد الغفور السندي، جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 15-30. بتصرّف.
- ^ أ ب ت أكرم عبد خليفة حمد الدليمي (2006)، جمع القرآن (دراسة تحليلية لمروياته) (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 177-251، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ مصطفى ديب البغا، محيى الدين ديب مستو (1998)، الواضح في علوم القرآن (الطبعة الثانية)، دمشق: دار الكلم الطيب / دار العلوم الانسانية، صفحة 105. بتصرّف.
- ↑ "الأدلة الشرعية على تكفل الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم"، www.islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 11-10-2020. بتصرّف.
- ↑ سورة الحجر، آية: 9.
- ↑ سورة فصلت، آية: 41-42.
- ↑ سورة الكهف، آية: 27.
- ↑ سورة العنكبوت، آية: 48-49.
- ↑ سورة الحاقة، آية: 44-47.
- ↑ سورة الزخرف، آية: 1-4.
- ↑ سورة البقرة، آية: 2.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عياض بن حمار، الصفحة أو الرقم: 2865، صحيح.
- ↑ سورة القيامة، آية: 16-19.
- ↑ عبد الودود مقبول حنيف، نزول القرآن والعناية به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 47-48. بتصرّف.
- ↑ علي بن سليمان العبيد، جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 17-19. بتصرّف.
- ↑ سورة فاطر، آية: 29-30.
- ↑ سورة القمر، آية: 17.