مظاهر التجديد في شعر أبي العتاهية

كتابة:
مظاهر التجديد في شعر أبي العتاهية

مظاهر التجديد في شعر أبي العتاهية

إنّ الشاعر أبا العتاهية من أشهر الشعراء في العصر العباسي الأول، وتعود هذه الشهرة إلى المادة الأدبية التي قدّمها، إذ أسهم بإضافة مادة شعريّة تعتمد على مظاهر تجديد خاصة به، من أهمها:


سهولة اللفظ وقرب المعنى

لماذا عُرف عن أبي العتاهية بأنّه عامّي المذهب؟

تميّز أبو العتاهية في شعره أنه ابتعد عن التعمّق في المعاني والتكلف في الألفاظ كما جاء الشعر القديم، إذ ابتعد عن الغموض، فكان لشعره المكانة المرموقة في قلوب الناس، وذلك لسهولة تداوله على ألسنتهم، فهو شاعر الدقة والطبع، فكان لهذا التجديد السبب المهم بأن نال الشعبيّة بين الناس، ومن أثر التجديد في شعره أنه يُبالغ أحيانًا إلى حد الابتذال، فهو يؤكد على ذلك لأنه يرى بأنّ الشعر الجديد كُتب ونُظم من أجل أن يقرؤه العامة، فكان لذلك الرأي الفرصة بأن يلتف الكثير من الناس حول شعره فيعجبون به، إذ أصبحوا يجدون بقصائده لونًا من الراحة والطمأنينة، وذلك يعود إلى سهولة اللفظ التي جعلت الأبيات الشعرية قريبة إلى أفهامهم وأذواقهم.[١]


لقد تميّز أبو العتاهية بأسلوبه الأدبي الجديد والذي يعتمد على اقتراب اللغة الشعريّة من لغة العامة، إذ مال بمذهبه إلى البساطة والبعد عن الألفاظ الغريبة والصنعة، ورُغم تفوقه وقدرته على أن يتخذ الطريق الوعر في شعره ولغته، إلا أنّه اختار البساطة، والقُرب من العامة، فذلك يُكسبه محبة الناس، إذ كان يُفضل أن يُفهم شعره من كافة طبقات المجتمع، لذلك فهو لم يتكلف حتى لا يكون شعره موجّهًا لفئة خاصة دون غيرها، وبذلك عُرف بأنه عامي المذهب في شعره[٢]، ولعل من أبرز الأبيات الشعريّة التي تدل على قرب المعاني وسهولة ألفاظها، هي قوله:[٣]

يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ

إِذا ما هُوَ ماشاهُ

وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ

دَليلٌ حينَ يَلقاهُ

وَلِلشَكلِ عَلى الشَكلِ

مَقايِيسٌ وَأَشباهُ

وَفي العَينِ غِنًا لِلعَي

نِ أَن تَنطِقَ أَفواهُ


الأوزان والقوافي والمقاطع الشعرية

كيف حوّل أبو العتاهية اللفظ العادي إلى شعر موزون؟

استخدم الشعراء في العصر العباسي بحور الشعر التي وضعها الفراهيدي، ولكنهم لم يلتزموا بها، بل أبدعوا وأضافوا بحورًا عِدة، فنظموا على أوزانها، وكان أبو العتاهية من أبرز الشعراء الذين استخدموا الأوزان الجديدة، فجدّدها في شعره، إذ أكثر منها لسهولة ألفاظها، فجاءت في أشعاره ساكنه وهادئة، إذ كانت ألفاظه وأبياته الشعريّة التي تقوم على هذه الأبحر الجديدة هي مقطوعات قصيرة، ولكنّها بسيطة وسهلة[٤]، وكان لهذا التجديد في أوزان أبي العتاهية هو السبب الذي تطلّبه العصر العباسي، إذ كانت حياة الترف والبذخ والانفتاح على الثقافات والأجناس الأخرى لها التأثير الواضح على الشعر، فكان الشعراء يريدون أن ينغمسوا في هذه العادات الجديدة، مهما اختلفت آراؤهم الخاصة ونقدهم للمجتمع.[٥]


تفرّد أبو العتاهية بأسلوب جديد في قصائده، فهو قد تبرأ من التعمق والغموض، إلا أنه أبدع في المقاطع الشعريّة وتبديلها، فمن أساليبه التي تفرد بها هي أن تكون الجمل لا تتحد مع المقاطع الشعريّة، ولا ينتهي المعنى المُراد حيث ينتهي البيت الشعري، إذ يجعل الجملة تتوزع على عِدة مقاطع شعريّة، ولكن هذه المقاطع كانت قد بيّنت القدرة الفائقة التي تميّز بها أبو العتاهية في نظم الشعر، تلك القدرة التي جعلته يُداخل بين المعنى السوقي واللفظ العادي، فيُحول ذلك كله إلى شعر موزون، وممّا روي عنه أنه كان يشير إلى

معرفته بهذا التجديد الذي أحدثه، فيقول: "لو شئت حديثي أن يكون كله شعرًا موزونًا لفعلت"[٦]، ومن أبياته الشعريّة في ذلك قوله:[٧]

يَذا الَّذي في الحُبِّ يَلحى أَما

وَاللَهِ لَو كُلِّفتَ مِنهُ لِما

كُلِّفتُ مِن حُبِّ رَخيمٍ لَما

لُمتَ عَلى الحُبِّ فَذَرني وَما

أَلقى فَإِنّي لَستُ أَدري بِما

بُليتُ إِلّا أَنَّني بَينَما

أَنا بِبابِ القَصرِ في بَعضِ ما

أَطوفُ في قَصرِهِم إِذ رَمى


حركة الزهد والتصوف

ما المقصود بالشعبية في شعر أبي العتاهية؟

عُرف أبو العتاهية بأكثر قصائده بأنه شاعر الزهد في العصر العباسي، بيد أنّ فكرة هذا الغرض كان تدور حول فِكرة المصير، أي مصير الإنسان بعد الموت، ومصيره في هذه الحياة، إذ تعمق في هذه الفكرة، وابتدع المعاني والصور الجديدة، إذ كانت هذه الفكرة تتعلق بالعاطفة الدينية والإسلامية، كما كان شعر الزهد عنده يحمل لونًا من الوعيد والترهيب من المصير المحتوم، ومن المُلاحظ في هذه الأشعار أنها كانت سهلة وواضحة، وكأن الكلام من النثر، وهذا هو مظهر التجديد لديه، والذي يُسمى بالشعبيّة في شعر أبي العتاهيّة[٨]، ومن أبرز أبياته الشعريّة التي عبرت عن فكرة المصير والموت هي:[٩]

لِدوا لِلمَوتِ وَاِبنوا لِلخَرابِ

فَكُلُّكُمُ يَصيرُ إِلى ذَهابِ

لِمَن نَبني وَنَحنُ إِلى تُرابٍ

نَصيرُ كَما خُلِقنا مِن تُرابِ

أَلا يا مَوتُ لَم أَرَ مِنكَ بُدّاً

أَبيتَ فَلا تَحيفُ وَلا تُحابي

كَأَنَّكَ قَد هَجَمتَ عَلى مَشيبي

كَما هَجَمَ المَشيبُ عَلى شَبابي

يُعد شعر الزهد عند أبي العتاهية لونًا من ألوان التصوف، ورغم ذلك فإنه كان مشغوفًا بالموسيقى والغناء، ذلك الشغف الذي وصل إلى درجة عالية، فهو عندما عزم على الزهد دعا أحد أصدقائه مخارقًا المغنى، إذ كان يُهيئ لقصائد الزهد مجلسًا خاصًا وطقوسًا لذلك، وذلك جعله صاحب طراز جديد في الشعر العربي، ومن ألوان هذا الطراز أنّ شعر الزهد كان يُشبه فن الخطابة لدرجة كبيرة، إذ اعتمد على التكرار في أبياته الشعريّة، فكان يأخذ موقف الخطيب الواعظ، فجعل من نفسه ناصحًا للناس وواعظًا لهم، ولعل ذلك أضاف على غرض الزهد خاصية جديدة، وهي من خصائص الخطابة الوعظية، فاتسم شعره الزهدي بأنه كان من أقوى الدوافع التي تعظ الناس وتحثهم.[١٠]


تحويل المواعظ النثرية إلى قصائد شعرية

ما المقصود بالأساس الإزدواجي في شعر أبي العتاهية؟

تتّصل أشعار أبي العتاهيّة بالكثير من الموضوعات، ولكن بعض هذه الموضوعات اتخذت طابعًا ولونًا خاصًا من التجديد، ولعل أشهرها الزهديات، فقد كان أبو العتاهية يملك القدرة الكبير بأن يُحوّل كلام العامة إلى الشعر الفني، وتلك كانت من العمليات السهلة التي تميّز بها، إذ كان يتخذ مختلف المواعظ النثريّة ويُترجمها شعرًا، وقد كان يتنوع بهذه الترجمة، فأحيانًا يترجمها ترجمة حرفيّة، وأحيانًا أخرى يقتصر على الترجمة الفنيّة، وتلك الخاصيّة كانت من المميزات الجديدة في الشعر العربي بالعصر العباسي،[١١]،

ومن أمثلة ذلك بعض الأبيات الشعريّة والتي كانت عبارة عن خطبة دينيّة، إذ ترجمها ترجمة حرفيّة، وحوّل العبارات النثريّة إلى أبيات شعريّة موزونة، ويقول فيها:[١٢]

أَشرِب فُؤادَكَ بِغضَةَ اللَذّاتِ

وَاِذكُر حُلولَ مَنازِلِ الأَمواتِ

لا تُلهِيَنَّكَ عَن مَعادِكَ لَذَّةٌ

تَفنى وَتورِثُ دائِمَ الحَسَراتِ

إِنَّ السَعيدَ غَدًا زَهيدٌ قانِعٌ

عَبدَ الإِلَهِ بِأَحسَنِ الإِخباتِ

أَقِمِ الصَلاةَ لِوَقتِها بِطُهورِها

وَمِنَ الضَلالِ تَفاوُتُ الميقاتِ

اكتسب أبو العتاهية الشهرة الواسعة في العصر العباسي، وخاصة بما أحدثه من تغيير واضح في أشعاره، فقد كان يطبع على أسلوبه الشعري التناص من القرآن الكريم، ومن الأدعية والابتهالات، إضافة إلى بعض الاقتباسات من الآداب الفارسيّة[١٣]، وبالعودة للقصائد الشعريّة التي أبدع بها أبو العتاهيّة وحوّلها عن مواعظ دينية فهي كانت تختلف من ناحية الشكل، إذ أكتسبت هذه الأشعار شكلًا جديدًا لم يكن معروفًا في الشعر العربي القديم، إذ كانت تعتمد في قوافيها على أساس ازدواجي، أي أن تقترب القصيدة من صورة

السجع، وأن يكن كلّ بيت منفردًا بقافية يشترك فيها شطراه، إضافة إلى أن هذه الأبيات كانت تفصل فكل بيت يشرح فكرة مستقلة، وبعض الأحيان تشترك جميع الأبيات بفكرة واحدة.[١٤]


التجديد في الأغراض الشعرية

كيف جدد أبو العتاهية في قصائد المدح؟

كان أبو العتاهية من أبرز الشعراء الذين جددوا في الأغراض الشعريّة، وذلك التجديد لا يعني دخول أغراض جديدة وإنّما هو تجديد في صلب الأغراض القديمة، مثال ذلك ما شاع في غرض الهجاء إذ ظهر بلون آخر، فهو لم يكن هجاءً شخصيًّا فقط، بل أصبح بلون الهجاء السياسي، فكان على شكل مقطوعات قصيرة، وليست قصائد مطولة كما هو معروف في العصر الجاهلي، أما المدح فقد جدد أبو العتاهية في قصائد المدح إذ كانت تعتمد على الثناء على الممدوح ووصف أخلاقه الحميدة، أما عند أبي العتاهية فقد جاء

المدح مرتبطًا بالحكم، وما ينبغي على الولاة والخلفاء الاتعاظ به كتقوى الله والأخذ بدستور الشريعة، ومن ذلك قول أبي العتاهيّة في الخليفة هارون الرشيد:[١٥]

وراعٍ يُراعِي اللهَ فِي حِفظِ أُمَّةٍ

يُدافِعُ عَنها الشَّرَّ غَيرَ رَقودِ

تَجاَفى عَنِ الدُّنيا وأيقَنَ أنَّها

مُفارِقةٌ ليستْ بِدارِ خُلودِ


لقراءة المزيد حول الشاعر، انظر هنا: نبذة عن الشاعر أبي العتاهية.

المراجع

  1. أحمد الطيب خوجلي عباس، الإتجاه التجديد وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، صفحة 170-171. بتصرّف.
  2. هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 57-58. بتصرّف.
  3. "يقاس المرء بالمرء"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 25/3/2021. بتصرّف.
  4. هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 44-45. بتصرّف.
  5. يزيد بودربالة، إشكالية الصراع بين المحافظين والمجددين في الشعر العباسي، صفحة 54-55. بتصرّف.
  6. هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 120-121. بتصرّف.
  7. "يذا الذي في الحب يلحى أما"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 25/3/2021. بتصرّف.
  8. أحمد الطيب خوجلي عباس، الاتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، صفحة 170-172. بتصرّف.
  9. "لدوا للموت وابنوا للخراب"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 25/3/2021. بتصرّف.
  10. حمسياتي، أبو العتاهية وخصائص شعره، صفحة 68-69. بتصرّف.
  11. أحمد الطيب خوجلي عباس، الاتجاه التجديد وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، صفحة 177-178. بتصرّف.
  12. " أشرب فؤادك بغضة اللذات"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 25/3/2021. بتصرّف.
  13. شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، صفحة 251-252. بتصرّف.
  14. أحمد الطيب خوجلي عباس، الإتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، صفحة 178-179. بتصرّف.
  15. حمود السلامة، إبراهيم الدريعي، أحمد المشعلي، الأدب العربي، صفحة 18-19. بتصرّف.
5420 مشاهدة
للأعلى للسفل
×