محتويات
مفهوم البعثة النبوية
إنّ البعثة في اللغة هي اسم مرّة للجذر الثلاثي بعث، وتعني الإرسال ومنها البعثة النبوية،[١] التي كانت في يوم الإثنين في الحادي والعشرين من رمضان، وقد وافق هذا التاريخ العاشر من شهر آب سنة 610 ميلادي، وكان عمر رسول الله حينها 40 سنة قمرية وستة أشهر و12 يوم، وهذا بحسب ما حكاه علماء التاريخ والسيرة،[٢] أمّا عن غاية البعثة وهدفها فقد كان إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإزالة الوثنية وجذورها ونشر الإسلام في كافة أنحاء الأرض، وكانت بداية البعثة بإرسال الوحي جبريل إلى رسول الله ونزول فواتح سورة العلق، ولكنّ الأمر بالتبليغ جاء على مراحل وفي هذا يقول ابن القيم: "المرتبة الأولى: النبوة، والثانية : إنذار عشيرته الأقربين، والثالثة: إنذار قومه، والرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة، والخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر"، وسيكون الحديث في هذا المقال عن البعثة النبوية وما يتعلّق بها.[٣]
أحداث البعثة النبوية
إنّ البعثة النبوية كانت بمثابة ميلاد جديد للبشرية جمعاء، فالدين الإسلامي ينبذ كل ما هو سيئ ويدعو إلى كلّ ما هو حسن ويُشجّع على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهو دين ربّاني كامل لا يشوبه النقص ولا يعتريه العيب، وهو الدين الذي ارتضاه سبحانه لعباده؛ حيث قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}،[٤] كما أنّه الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى واعتناق أي دين آخر موجب لغضب الله وعذابه، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،[٥] ولكنّ نشر هذا الدين لم يكن بسهولة فقد تحملّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الكثير من العناء في سبيل ذلك وصبر هو وصحابته الكرام حتى بلغّوا دين الله وعملوا على نشره في أرجاء الأرض كافّة، كما مرّت الدعوة بأطوارٍ عدّة منها ما كان في مكة ومنها ما كان في المدينة المنورة، وفيما يأتي بيانٌ لمراحل الدعوة وأطوارها في مكة المكرمة مهد الإسلام وموطن نزوله:[٣]
الدعوة السرية
إنّ الدعوة السرية هي المرحلة الأولى للدعوة والتي تبدأ بنزول الوحي على رسول الله إلى نزول قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[٦]وقوله:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[٧]وقد استمرّت هذه المرحلة نحو ثلاث سنوات واتسمت بسماتٍ وخصائص تميّزها وتوضّح نقاط الفرق بينها وبين المرحلة التالية وهي الجهر بالدعوة، فأوّل ما بدأ الوحي عاد رسول الله إلى بيته وقصّ على زوجته خديجة ما جرى له فهدأت من روعه وطمأنته وكانت أول من آمن بدعوته من النساء، كما آمن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وكان طفلًا حينها هو وزيد بن حارثة فكان هؤلاء بالإضافة إلى صديق رسول الله أبي بكر الصديق من أوائل المسلمين الذين صدقّوا رسول الله وآمنوا برسالته.[٨]
ومن مميزات هذه المرحلة أنّ دعوة الناس كانت تتم بناء على معايير خاصة واصطفاء من الداعية نفسه فأبو بكر ر-ضي الله عنه- كان يعرض الإسلام على أصحابه فكان ممّن أسلم على يديه ثلّة من أكثر الصحابة فضلًا وتمسكًا، ومنهم عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام إلى غير ذلك من الأسماء التي كان لأصحابها أثرٌ واضحٌ في نشر دين الله وإعلاء كلمة التوحيد، وقد كان للمرأة في هذه المرحلة مشاركة واضحة حيث أسلم غالبية نساء الصحابة وحافظن على سريّتها، فالدعوة الإسلامية لا تخصّ رجلًا دون امرأة ولا سيّدًا دون عبد ولا كبيرًا دون صغير فهي عامة لجميع الناس على اختلاف ألوانهم وأصنافهم.[٨]
أمّا عن العبادات فقد كانت الصلاة موجودة في هذه المرحلة وإن لم تكن قد اتخذت شكلها النهائي وظهرت أحكامها الخاصة، فقد كان رسول الله يُصلّي مع علي بن أبي طالب في الشعاب كما كانت قريش تراهم يصلّون ولا تنكر عليهم ذلك فإنّ قريشًا لم تعلن حربها على الإسلام في هذه المرحلة لأنّ الدعوة فيها قد اقتصرت على تصحيح العقيدة وتقويم المفاهيم ولم تتعرّض إلى تغيير الحياة السائدة آنذاك فهذه مرحلة إعداد وتنظيم للمرحلة التالية وهي مرحلة الإعلان والجهر،[٨] ولا تعني سرية الدعوة في هذه المرحلة أنّه كانت مكتومة بل إنّ السرية كانت نسبية[٩] والدعوة تكون لمن يُتوسّم فيهم رسول الله وأصحابه ومن حب الخير والصلاح ما يعطيهم القدرة على نبذ الشرك والدخول في الإسلام دون أن يكون للموروث الجاهلي تأثيرٌ شديد في نفوسهم.[١٠]
الدعوة الجهرية
مرحلة الدعوة الجهرية هي المرحلة التي بدأت عقِب نزول الأمر الرباني بالتبليغ وبإنذار العشيرة، وقد جاءت الأحاديث التي تبيّن حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بعد تلقيّه لتلك الأوامر، حيث أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، صَعِدَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- علَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجَ أرْسَلَ رَسولًا لِيَنْظُرَ ما هُوَ، فَجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، فَقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ ما أغْنَى عنْه مَالُهُ وما كَسَبَ}"،[١١] فالإسلام قد قوي وزاد أتباعه وصار لزامًا الصدع بأمر هذا الدين وتبليغ الرسالة، فجاءت هذه الدعوة بمثابة صيحة عالية وبلاغ مهم لإيقاظ الناس من غفلتهم وهدايتهم إلى الطريق الحق المستقيم.[١٢]
وقد تحمّل رسول الله الصعاب وتعرّض أصحابه للمشقّة والعذاب لأنّ قريشًا قد واجهت انتشار الإسلام مواجهة عنيفة ونكلّت بأتباعه تنكيلًا عظيمًا لا يثبت حياله إلّا أصحاب الهمم العالية والإيمان الراسخ القوي وقد كان هذا حال أصحاب محمد، كما عمد رسول الله في هذه المرحلة إلى بيان أنّ العصبية القبلية لا تفيد وأنّ المعيار الوحيد للنجاة من العذاب يوم القيامة هو الإيمان والتصديق وليس للجاه والنسب والقرابة أيّ أثرٍ في ذلك، والدليل ما روي عنه مخاطبًا أقاربه: "يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا"،[١٣][١٢] وقد استمرت الدعوة في علانيتها إلى وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أي ما يُقارب 20 سنة.[١٤]
علامات نبوة النبي قبل وبعد البعثة
إنّ علامات النبوة هي الدلائل والأمارات والقرائن التي تثبت نبوّة النبوة وصدق دعوته، فالأحداث العظيمة غالبًا ما تُسبق بإشارات وبشائر تمهّد له وتبشّر بقرب حصولها، وبعثة النبي محمد من أهم الأحداث التي تخصّ الإنسانية بكافة أطيافها، كما أنّ الوحي هو أمرٌ عظيم ولا تتحملّه إلّا النفوس العظيمة المهيأة لتلقيّه، وفيما يأتي بيانٌ لمفهو الوحي ولعلامات النبوة قبل البعثة وبعدها:[١٥]
مفهوم الوحي
إنّ الوحي في اللغة هو: الإعلام السريع الخفي، ويُطلق على الرسالة والإشارة والكتابة والإلهام، وقد استعمل الوحي بمعانيه اللغوية في القرآن الكريم، فالوحي هو الإلهام الفطري للإنسان، كما في وحي الله لأم موسى، والوحي هو الإلهام الغريزي للحيوان كما في وحي الله للنحل، والوحي هو الإشارة السريعة على سبيل الرمز كإشارة النبي زكريا لقومه، كما أنّ الأوامر التي تتلقّاها الملائكة من الله سبحانه قد عبّر عنها بالوحي، بالإضافة إلى وصف وسوسة الشياطين وتزيينهم لأعمال الشر بالوحي والإيحاء، أمّا الوحي بالمعنى الشرعي فهو: "إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة".[١٦]
علامات نبوة النبي قبل البعثة
إنّ علامات النبوة قبل البعثة كثيرة جدًا، فقد بشّر بمقدمه نبي الله عيسى عليه السلام، كما كان الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى يعلمون بقرب قدومه، وقد حصلت الكثير من الحوادث التي تدلّ على أنّ رسول الله هو النبي الذي بشّر به عيسى وصفته موجودة لدى أهل الكتاب، ومنها البركة التي طالت بيت حليمة السعدية مرضعة الرسول وتسليم الحجر عليه والرؤية الصادقة التي كانت هي بداية الوحي.[١٧]
علامات نبوة النبي بعد البعثة
أيّد الله عزّ وجلّ نبيّه محمد بالكثير من العلامات والدلائل والمعجزات التي تخبر بصدقه وتؤكّد دعوته، فمعجزاته كثيرة جدًا وقد أوصلها الإمام النووي إلى ما يزيد على 1200 معجزة، كما أحصاها آخرون بأكثر من ذلك،[١٨] ومن علامات نبوته بعد البعثة إخباره بأمور غيبية حصلت فيما بعد وقد كان هذا الإخبار عن طريق القرآن والسنة، فمن الأخبار التي ثبتت بالقرآن: هزيمة الروم بعد عدّة سنوات وانتصار المسلمين في غزوة بدر، ومن الأخبار التي ثبتت بطريق السنة: إخبار رسول الله بأن عمر وعثمان وعلي وطلحة سيموتون شهداء، وبالأماكن التي سيموت فيها صناديد قريش في غزوة بدر قبل حصولها، بالإضافة إلى إخباره بأنّ فاطمة -رضي الله عنه- هي أول أهله لحوقًا به إلى غير ذلك من الأخبار والعلامات.[١٩]
مكانة البعثة النبوية بين المسلمين
إنّ البعثة النبوية هي التي كانت السبب في انتشال الناس من قيعان الجهل والضلال والانحدار الأخلاقي ورفعهم إلى قمم الفضيلة والأخلاق، فالإسلام دين سماوي متماشي مع حاجات البشرية الدنيوية وملبي لرغباتهم الفطرية وفق منهج تربوي عظيم، فالأديان التي كانت منتشرة قبل البعثة هي أديان وثنية تجعل الإنسان عبدًا وأسيرًا لإلهٍ اتخذه بنفسه من شجرٍ أو بشرٍ أو حجر، أمّا الإسلام فيمنحه العزّة والكرامة فالعبودية لله وحده وكلّما ترقّى الإنسان بعبوديته للخالق العظيم فإنّه سيّتحرّر من عبودية غيره ويرتقي في المكارم والفضائل، وهنا تظهر مكانة البعثة النبوية بين المسلمين فكما كان المجتمع ذليلًا قبل الإسلام فإنّه سيكون كذلك ببعده عن الدين الحنيف وسعيه وراء الماديات وإغفاله للحساب الأخروي، ولا سبيل لكشف هذا إلّا بإحياء البعثة النبوية في النفوس وتجديد الإيمان وإحياء العقيدة الصافية.[٢٠]
المراجع
- ↑ "كتاب معجم اللغة العربية المعاصرة"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ " تاريخ البعثة النبوية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ^ أ ب "بداية البعثة النبوية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية:3
- ↑ سورة آل عمران، آية:85
- ↑ سورة الشعراء، آية:214
- ↑ سورة الحجر، آية:94
- ^ أ ب ت "كتاب المنهج الحركي للسيرة النبوية"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "كتاب السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:4770، حديث صحيح.
- ^ أ ب "مرحلة الدعوة الجهرية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:4771، حديث صحيح.
- ↑ "مدة الدعوة العلنية في سيرته عليه الصلاة والسلام"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "من دلائل وبشائر النبوة قبل البعثة"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "دلائل البعثة ومقدماتها"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "علامات النبوَّة"، ar.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "من دلائل النبوة في القرآن والسيرة النبوية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.
- ↑ "كتاب السيرة النبوية - راغب السرجاني"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-19. بتصرّف.