المعجزة
المعجزة في اللغة من الفعل أعجز، وهو طلب شيء ثمّ عدم الظّفر به، كأن يقول قائل: أعجزني الوصول إلى غايتي؛ أي طلب الغاية ولم يدركها،[١] وأمّا في الشرع فهي أمر خارق للعادة يُجريه الله على نبيّ من أنبيائه أو رسول من رسله، والغرض منها إثبات صق نبوّتهم ورسالتهم، كاليد البيضاء وانقلاب العصا أفعى لموسى -عليه السلام-، وعدم إحراق النّار إبراهيم -عليه السلام-، والإسراء والمعراج ونبع الماء من اليدين والقرآن الكريم لرسول الله محمّد -صلى الله عليه وسلم- وهذا المقال سيقف على معجزة الإسراء والمعراج وسيبسط القول عن دابة البراق.[٢]
معجزات لبعض الأنبياء
قبل الوقوف مع دابة البراق وتفصيلها فهذا الجانب يقف مع بعض المعجزات لبعض الأنبياء ممّن يتّسع المقام لذكرهم، ومن أولئك الأنبياء عيسى بن مريم بنت عمران -عليهما السلام- وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وأوّل معجزاته هو حمل أمّه به وولادته من دون أب، ثمّ حديثه وهو في المهد أمام قومه وتكليمهم، قال تعالى في سورة مريم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}،[٣] ومعجزة أخرى له -عليه السلام- هي أنّه كان يخلق بيديه من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيتحول إلى طائر حقيقي يطير بإذن الله، قال تعالى في سورة آل عمران: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}،[٤] وهذا جانب من جوانب معجزاته -عليه السلام- وليس جميعها.[٥]
وأيضًا من معجزات بعض الأنبياء معجزة نبي الله صالح -عليه السلام- وهي ناقة ولدت من هضبة من الهضاب، فقامت الناقة من بين الصخور، قال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}،[٦] فكانت تشرب في يوم وتدرّ لبنًا في يوم آخر، فاليوم الذي تشرب فيه لا يشرب فيه قوم صالح وهم ثمود، ولكنّها تعوّضهم عن ذلك بلبن يعادل ما شربته من الماء، فكانت تشرب ما يعدل ما يشربه قوم ثمود مجتمعين، ولكنّها لم تدم عندهم فخرج أشقى أشقياء الأرض وكان من ثمود فذبح النّاقة فحقّ عليهم العذاب فدمّرهم الله -عز وجل- تدميرًا، قال تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}،[٧] والفقرة القادمة ستقف مع قصة الإسراء والمعراج لتمهّد الحديث عن دابة البراق.[٨]
معجزة الإسراء والمعراج
إنّه من المتّفق عليه عند عموم المسلمين أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أُسري به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلًا وامتطى إلى هنالك دابة البراق، وكان ذلك في مكّة بعد البعثة وقبل هجرته إلى المدينة،[٩] وصلّى هنالك بالأنبياء جميعًا وكان إمامهم، يقول الإمام ابن كثير الدّمشقيّ في تفسيره الآية الأولى من سورة الإسراء بعد قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}،[١٠] فيقول ابن كثير هنا: "يمجد تعالى نفسه ، ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله غيره {الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِه} يعني محمدًا صلوات الله وسلامه عليه، {لَيْلًا} أي في جنح الليل {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} وهو مسجد مكة {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جُمِعوا له هنالك كلّهم، فأمَّهُم في محلتهم ودارهم، فدلَّ على أنَّه هو الإمام الأعظم، والرَّئيس المُقدَّم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين".[١١]
وبعد الصّلاة عرج -عليه الصلاة والسلام- إلى السّماء السّابعة حتّى تجاوزها ووصل إلى سدرة المنتهى، وهناك شاهد من عظمة ملكوت الله تعالى ما لم يشاهده من قبل، وهناك رأى جبريل -عليه السلام- بصورته الحقيقيّة وكان له ستمئة جناح، وهو رئيس الملائكة، وهناك فُرِضَت عليه الصّلوات وكانت خمسين صلاة في اليوم والليلة، ولكنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظلّ يسأل الله التّخفيف حتى صارت خمسة ولكنّها بأجر خمسين صلاة، فنودي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها: "إنّي قد أمضيتُ فريضتي وخفّفتُ عن عبادي وأَجزي الحسنةَ عشرًا"،[١٢] وفي رحلة المعراج التي رافقه فيها رئيس الملائكة جبريل -عليه السلام- التقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عددًا من الأنبياء، كآدم في السماء الأولى، وعيسى ويحيى وهما ابنا خالة في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والفقرة القادمة ستقف مع دابة البراق.[١٣]
دابة البراق
روى الإمام مسلم في صحيحه أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث طويل: "أُتيتُ بالبُراق، وهو دابّةٌ أبيضُ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه..."،[١٤] فالذي يظهر من الحديث أنّ دابة البراق هي دابّة قريبة إلى هيئة الحصان والحمار ولكنّها ليست منهما، بل هي أشرف وأعلى وأحسن وأسرع؛ إذ تنظر أمامها فحيث ينتهي نظرها تكون خطوته ، وهذا الحال معجزٌ على أيّ حال، وقال علماء اللغة إنّ اسمه مُشتقٌّ من البرق؛ أي هو بسرعة البرق، وقيل هو اسم خاصٌّ به لزيادة تشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدم ذكره سابقًا، أو أن يكون ملكًا من الملوك قد مَلَكَه، وهناك أقوال أخرى كثيرة لم يُجزم بصحّتها ولا خطئها، وعن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بالبُراقِ ليلةَ أُسْرِيَ به مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فاسْتَصْعَب عليه، فقال له جَبْرَئِيلُ: "أَبِمُحَمَّدٍ تفعلُ هذا؟ فما رَكِبَكَ أحدٌ أَكْرَمُ على اللهِ منه"! قال: "فارْفَضَّ عَرَقًا"؛[١٥] أي: فانصبّ عرقُ البراق، وعندما وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى ربط دابة البراق بحلقة الأنبياء ودخل المسجد ليقيم الصلاة بالأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولم يثبت عند أهل السنة وعلماء الأمّة أنّ دابة البراق كانت لها أجنحة، بل جلّ ما انتهى إليه العلماء أنّ دابة البراق كانت مُعدّةً لركوب الأنبياء، وهذا يظهر عندما خاطب جبريل -عليه السلام- دابة البراق قائلًا: "فما رَكِبَكَ أحدٌ أَكْرَمُ على اللهِ منه"، وفحوى حديث أنّه كان يركبه أحد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه كان أشرف من ركب دابة البراق، وأمّا ما يروى عن الواقدي من صفات غريبة عجيبة عن البراق فهو كذب لا أساس له من الصحة، والواقدي قد كذّبه الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمّة الإسلام، وبهذا يكون قد تبيّنت ماهيّة دابة البراق إن شاء الله تعالى.[١٦]
حائط البراق
بعد الوقوف على دابة البراق وتفصيل ذكرها في الأحاديث الشريفة بقي أن يُذكر نبذة عن حائط البراق الشريف في المسجد الأقصى المبارك، وحائط البراق هو الحائط الذي ربط عنده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراق بحلقة الأنبياء، وهو أيضًا جزء لا ينفصل من المسجد الأقصى، وتأتي مكانته من كونه المكان الذي ربط به النبي -صلى الله عليه وسلم- البراق ليلة أُسري به، وأيضًا من كونه جزء من المسجد الأقصى، وقد خضع المسجد الأقصى لتصرّف المسلمين منذ عهد الفتح الإسلامي للقدس في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صدر الإسلام، ولم يخرج من سيطرة المسلمين حتى في الحروب الصليبية والاحتلال الصليبي للقدس، ولكن أثناء حكم العثمانيين سمحت السلطات العثمانية لليهود المقدسيين بالصلاة قبالة الحائط، ولكن منعتهم من وضع الكراسي لكي لا يصبح المكان فيما بعد مكانًا يهوديًّا للعبادة!
وحاول اليهود كثيرًا شراء الحائط ولكنّهم أخفقوا، ولكنّهم صاروا فيما بعد شيئًا فشيئًا يتجاوزن حدودهم المرسومة، ومع دخول الاحتلال الإنكليزي لفلسطين -الذي جاء أصلًا لإدخال اليهود ودعمهم بالسلاح ليحتلّوا أرض فلسطين- صارت مطالب اليهود تكبر وصار عندهم ادّعاءات أكثر، وصاروا يطالبون بهيكلهم الذي يدّعون أنّ المسلمين قد بنوا مسجدهم على أنقاضه، وبقي منه فقط هذا الحائط الذي يسمّونه حائط المبكى، فيذهبون إليه ويبكون عنده، ولكنّ هذه الادّعاءات كاذبة باطلة لا أساس لها، وحتّى من علمائهم وأحبارهم من يؤكّد كذب هذه الادّعاءات كعالم الآثار اليهودي فينكلشتاين الذي يرى أنّه ما من سند على صحّة ادّعاء اليهود، وهكذا يكون قد تم مقال دابة البراق ومعه قد وُضِّحَ ماهيّة دابة البراق، ومن ركب دابة البراق من البشر قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم.[١٧]
المراجع
- ↑ "تعريف و معنى معجزة في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ "الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ سورة مريم، آية: 27-30.
- ↑ سورة آل عِمران، آية: 49.
- ↑ "فضائل ومعجزات عيسى ابن مريم عليه السلام في القرآن"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ سورة الأعراف، آية: 73.
- ↑ سورة الأعراف، آية: 77-78.
- ↑ "الناقة معجزة صالح عليه السلام"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ "الإسراء والمعراج"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 30-12-2019. بتصرّف.
- ↑ سورة الإسراء، آية: 1.
- ↑ "القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الإسراء"، www.quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن مالك بن صعصعة الأنصاري، الصفحة أو الرقم: 3207، حديث صحيح.
- ↑ "الإسراء والمعراج"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 162، حديث صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 3131، حديث حسن غريب.
- ↑ "صفة البراق الذي ركبه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء"، www.islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.
- ↑ "حائط البراق"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 15-12-2019. بتصرّف.