محتويات
حادثة الإفك
وقعت حادثة الإفك بعد غزوة بني المصطلق؛ إذ نزلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من هودجها لقضاء حاجة ما، وعندما رجعت تفقدَّت عقدها فلم تجده فعادت لتبحث عنه، فلم يفطن الرجال لغيابها فحملوا الهودج وساروا، فما كان منها إلا أن انتظرت من يتنبه لغيابها فيأتي ليأخذها، ومرَّ صدفة الصحابي الجليل صفوان بن المعطل فركبت بعيره حتى أوصلها، فاستغلَّ عبد الله بن سلول هذه الحادثة فحاك الأكاذيب حول أم المؤمنين، وآذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرضه، وكادت فتنةٌ تشتعل ما بين الأوس والخزرج إثر تلك الحادثة لولا تدخَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- لتهدئة الأمر، ثمَّ أنزل الله قرآنًا في تبرئة عائشة قال فيه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}،[١] وسيقف المقال فيما يأتي مع شرح وتفسير هذه الآية.[٢]
معنى آية: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم، بالشرح التفصيلي
إنَّ حادثة الإفك هي واحدةٌ من أعظم الحوادث التي امتحن الله بها عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأوذيت -رضي الله عنها- في شرفها وهي فتاةٌ حديثة السِّن، تخلَّفت عن هودجها لبعض شأنها فرُميت في عرضها من رأس المنافقين، إلى أن أنزل الله تبرئتها في كتابه في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}،[٣]
وقد ذُكر في التَّفسير معنى تلك الآية أنَّ الذين جاؤوا بالكذب والتَّلفيق وقول الزور هم ثلةٌ منكم {عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}، وفئةٌ من النَّاس من بينكم {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ}، يُبيِّن الله في هذا الموضع من الآية أنَّ أمر المؤمن كلّه خير، وأنَّ ما جيء به من الكذب والافتراء والضَّلال ليس بأمرٍ شرٍّ بل هو خيرٌ سواء كان عند الله أو عند عباده المؤمنين؛ إذ في ذلك كفَّارةٌ لذنوب المؤمن البريء المرميِّ بالبهتان والباطل، ولا بدَّ أنَّ الله -تعالى- سيجعل لذلك المؤمن مخرجًا من السوء الذي أُحيط به،[٤] وقد ورد في ذلك عن عروة أنَّه كتب وبعث إلى عبد الملك بن مروان يسأله عن الذين جاؤوا بالإفك، فأجاب في ذلك أنَّه لم يُسمَّ أحدٌ منهم سوى حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، إلّا أنَّ هنالك آخرين لم يُعرفوا وهم عصبةٌ؛ أي: جماعة، وقال الضّحاك في ذلك إنَّ الذين جاؤوا بالإفك عصبةٌ منكم أي الذين قالوا لعائشة أم المؤمنين ذلك الكذب والتلفيق.[٤]
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}، أي لكلِّ من جاء بالكذب والافتراء ذنبٌ بقدر ما خاض في ذلك البهتان والزور، {وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ}، أي أنَّ الشَّخص الذي بدأ بالإفك والكذب والخوض في ذلك الحديث هو من يتحمل معظم الإثم، وقد اختلف أهل العلم والتَّفسير في توضيح آية {وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ}، فمال بعضهم إلى القول إنّ من تولَّى كبره هو الصحابي حسان بن ثابت رضي الله عنه، وقد ورد في ذلك عن مسروق عندما كان عند عائشة -رضي الله عنها- دخل حسان بن ثابت فأمرت بوضع وسادة له، فلما ذهب حسان قال لها مسروق: "ما تصنعين بهذا، وقد قال الله ما قال؟ فقالت: قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}،
وقد ذهب بصره، ولعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم: ذهاب بصره"، وذهب آخرون إلى القول إنَّ من تولَّى كبره هو عبد الله بن سلول، وقد احتجوا لذلك بقول عائشة -رضي الله عنها- إنَّ الذين تكلَّموا في ذلك الخبر هم عبد الله بن سلول، وقد نصّت أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- أنّه هو من تولَّى كبره، ومسطح وحسان بن ثابت، وورد في ذلك قول ابن عبَّاس عن الذين جاؤوا بالإفك -أي الذين افتروا الكذب على عائشة- عبد الله بن سلول -وهو من تولى كبره- ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، ورُجحِّ القول الثاني على الأوَّل أنَّ من تولى كبره هو عبد الله بن سلول، فقد كان يجمع النَّاس ويُحدِّثهم بالخبر وهو أوَّل من ابتدأ به.[٥]
معاني المفرادات في آية: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم
هل لمفردات هذه الآية معاني؟ بعد أن تمَّ الحديث عن تفسير الآية حسب ما وقف عليه علماء أهل السُّنة والجماعة، لا بدَّ من التَّفصيل في شرح مفردات الآية القرآنية كما تبيَّن عند أهل اللغة، وقد كان لعلماء اللغة العربية توضيحهم الكبير في تلك المفردات، والتي سيتمُّ الوقوف عليها بالتَّفصيل فيما يأتي:
- الإفك: الإفك هو الكذب، وحادثة الإفك هي حادثة الافتراء التي تعرَّضت لها عائشة -رضي الله عنها- وفلانٌ أفَكَ أي كَذبَ، وأمَّا الإفك حسب ما اصطلح الفقهاء عليه هو الذنب والإثم العظيم.[٦]
- عصبة: العصبة هي الجماعة سواءٌ كان من النَّاس أو الخيل أو الطيور، ويُقال عن الرِّجال عصبةٌ إذا كان عددهم ما بين العشرة إلى الأربعين رجلًا.[٧]
- شرًّا: ويُقال عن الشيء شرٌّ إذا كان مذمومًا ومستهجنًا، والشَّرُّ المستطير هو الشرُّ الواضح البيِّن.[٨]
- خير: وأمَّا الخَير فهو الحَسَن من كلِّ شيء، ويُقال هذا الرَّجل خير النَّاس أي أحسنهم وأفضلهم.[٩]
- الإثم: هو الذنب والمعصية الذي يستحقُّ فاعله العقوبة.[١٠]
- تولى: تولَّى الشيء إذا تقلَّده وقام به، وأمَّا من تولَّى عن الشيء فقد أدبر عنه.[١١]
- كِبْره: أي معظمه وجُلَّه، يُقال تولَّى كِبْره أي تحمَّل معظمه.[١٢]
- عذاب: العذاب هو كلُّ ما صَعُبَ على النَّفس من ألمٍ شديد.[١٣]
- عظيم: أي كبير وهائلٌ وقوي وصعب.[١٤]
إعراب آية: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم
هل لمفردات هذه الآية إعراب في اللغة العربية؟ وبعد الوقوف على معاني الآية وقوفًا تفصيليًّا من حيث آراء العلماء واختلافهم واتفاقهم في تفسيرها، وبعد التطرُّق إلى معجم المعاني في اللغة العربية لشرح مفرداتها شرحًا وافيًا، صار لا بدَّ من الوقوف مع الآية الكريمة من ناحية النحو وإعرابها إعرابًا تفصيليًّا، وفيما يأتي سيكون ذلك:
إنَّ: حرف مشبّه بالفعل.[١٥]
الذينَ: اسم موصول مبني في محل نصب اسم إنّ.[١٥]
جاؤُوا: فعلٌ ماضٍ مبنيّ على الضمّ لاتصاله بواو الجماعة، والواو ضمير متّصل مبني في محل رفع فاعل، والألف للتفريق،[١٥] وجملة جاؤوا صلة الموصول لا محل لها.[١٦]
بالإفكِ: الباء حرف جر، والإفك اسم مجرور بحرف الجر، وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة، والجار والمجرور مُتعلّقان بالفعل جاؤوا.[١٦]
عصبةٌ: خبر إنّ مرفوع وعلامة رفعه الضمّة الظّاهرة على آخره.[١٦]
منكم: من حرف جر، والكاف ضمير متّصل مبني في محل جر بحرف الجر، والميم للجمع، والجار والمجرور متعلّقان بصفة محذوفة من عصبة.[١٥]
جملة {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}: استئنافيّة لا محلّ لها من الإعراب.[١٥]
لا تحسبوه: ناهية جازمة، تحسبوه فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون من آخره لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والهاء ضمير متّصل في محل نصب مفعول به أوّل.[١٥]
شرًّا: مفعول به ثانٍ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٦]
لكم: جار ومجرور متعلّقان بصفة محذوفة من شرًّا.[١٦]
بل: حرف إضراب.[١٦]
هو: ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ.[١٥]
خيرٌ: خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.[١٥]
لكم: جار ومجرور متعلّقان بصفة محذوفة من خير.[١٦]
لكلّ: جار ومجرور متعلّقان بخبر مقدّم محذوف.[١٦]
امرئٍ: مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة على آخره.[١٥]
منهم: جار ومجرور متعلّقان بصفة محذوفة من امرئ.[١٦]
ما: اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ مؤخّر.[١٥]
اكتسبَ: فعل ماضٍ مبني على الفتح الظاهر على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على كلمة امرئٍ، والتقدير: اكتسبه.[١٥]
من الإثمِ: من حرف جر، الإثم اسم مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة، والجار والمجرور متعلّقان بحال محذوفة من المفعول به المحذوف.[١٥]
والذي: الواو عاطفة، الذي اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ.[١٥]
تولّى: فعل ماض مبنى على الفتح المقدّر على الألف للتعذّر، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.[١٥]
كبرَه: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، والهاء ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.[١٥]
منهم: جار ومجرور متعلقان بحال محذوفة من فاعل تولّى المستتر.[١٦]
له: جار ومجرور متعلّقان بخبر محذوف للمبتدأ عذاب.[١٦]
عذابٌ: مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.[١٥]
عظيم: صفة لعذاب مرفوعة وعلامة رفعها الضمة الظاهرة.[١٥]
الثمرات المستفادة من آية: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم
ما هي الثمرات المستفادة من هذه الآية؟ إنَّ العِبر المُستقاة من آيات الله كثيرةٌ لا حصر لها ولا عد، فكلامه -سبحانه- تعاليمٌ وقوانين لا بدَّ للمسلم من فهمها والوقوف عندها؛ حتى يكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأمَّا الثمرات المُستفادة من الآية الكريمة -سابقة الذكر- فكثيرةٌ، وستقف هذه الفقرة للحديث عن أبرزها وأهمِّها:
- إنَّ من أهمِّ التَّعاليم الإسلاميَّة للمؤمن -في هذه الآية- ألَّا يخوض في الحديث في أعراض النَّاس، ولا يتناقل عن إخوته المسلمين كلام السُّوء.[١٧]
- من خلال حادثة الإفك شرَّع -سبحانه- حدَّ القذف الذي يُؤخذ به من يرمي المؤمنات الغافلات العفيفات.[٢]
- أشار الله تعالى إلى ضرورة التثبُّت من القول؛ حتَّى لا يكون المُؤمن ضحيَّةَ الإشاعات، ولا يكون غيره ناشرًا لها.[٢]
- بيَّن الله -عزَّ وجل- فضل أم الؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إذ أنزل فيها قرآنًا يُتلى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة.[٢]
المراجع
- ↑ سورة النور، آية:11
- ^ أ ب ت ث "حادثة الإفك .. دروس وعبر"، islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ سورة النور، آية:11
- ^ أ ب "القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة النور - الآية 11"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تفسير الطبري تفسير سورة النور القول في تأويل قوله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى افك في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى عصبة في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى شر في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى خير في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الإثم في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى تولى في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى كبره في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى عذاب في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى عظيم في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ محمد علي طه الدرة (2009)، [http:// تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه] (الطبعة 1)، دمشق:دار ابن كثير، صفحة 339، جزء 6. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.
- ↑ "مقاصد سورة النور"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-02. بتصرّف.