محتويات
سورة الصافات
واحدة من السور المكية -التي نزلت في مكة المكرمة- عدا بعض الآيات منها وهي من الآية الثالثة والعشرين وحتى الآية السابعة والعشرين فهي آيات مدنية، وقد بلغ عدد آيات سورة الصافات مئة واثنان وثمانون آية، وهي السورة السَّابعة والثلاثون من سور القرآن الكريم، وتقع في الجزء الثالث والعشرين من أجزاء القرآن الكريم،[١] وأمَّا سبب تسمية سورة الصافات بذلك الاسم؛ فلتذكير العباد بالملائكة وعبادتهم وطاعتهم لله فهم لا ينفكون عن تسبيحه وتحميده وتهليله وذكره، وقد نزلت سورة الصافات بعد سورة الأنعام في ترتيب السور حسب نزولها، وقد ابتدأت السورة بأسلوب القسم فالله يُقسم بملائكته، وقد عالجت السورة من المواضيع ما عالجته السور المكية من الحديث عن البعث والنشوء ويوم القيامة وتثبيت مفاهيم العقيدة الصحيحة في أذهان المؤمنين، ومن بين الآيات التي وردت في سورة الصافات قول الله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ}[٢]، وسيقف هذا المقال لشرح الآية الكريمة بالاستناد إلى أقوال أهل التفسير والتأويل وإعرابها واستنباط الثمرات منها.[٣]
معنى آية: إنهم ألفوا آباءهم ضالين، بالشرح التفصيلي
إنَّ القلب الذي ألف الضلال واعتاد عليه من الصعب أن يجد طريقه نحو النور، والعبد المُنهمك في الشرك ويأبى إلا أن يكون عبدًا للأصنام لن يستطيع أن يكون عبدًا مطيعًا لربه فقلبه مُعمَّرٌ بالكفر والعصيان، وضرب الله -تعالى- مثالًا عن الأقوام الذين أبوا النور واستأنسوا بالضلال في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}،[٤] فيصف الله الذين أضلوا عن سبيله واختاروا طريق الشرك والغواية فهم إذا قيل لهم آمنوا بربكم وانبذوا الأصنام التي تعبدونها استكبروا وعتوا عتوًّا كبيرًا، فهم يقتفون آثار آبائهم وحجتهم أنَّ ضلالهم موروثٌ عن آبائهم وليسوا هم أوَّل من أشرك بالله بل كان ذلك إرثًا عن آبائهم،[٥] فيصف الله ذلك المشهد بدقة ربَّانية عظيمة فيقول إنَّهم يُسرعون في سعيهم إلى الضلال ويُهرولون لاقتفاء آثارهم تلك الآثار التي اعتادوا عليها من الشرك والضلال، فيقول ابن عبَّاس في معنى إنهم ألفوا آباءهم ضالين أي وجدوا آباءهم على ذلك الضلال وبذلك قال قتادة وأضاف على معنى يهرعون أي يُسارعون إسراعًا، وقال ابن زيد يستعجلون إلى الضلال ويُسرعون إليه.[٦]
وقد بيَّنت الآية الكريمة أنَّها تصف المشركين الذين أرسل الله إليهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فحجتهم بعدم اتباع الإسلام والتوحيد أنَّهم وجدوا آباءهم يعكفون على عبادة الأوثان فكيف لهم أن يُخالفوهم، وقد ذكر الله ذلك في غير موضعٍ من كتابه مثل قوله في سورة الزخرف: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}،[٧] ولكنَّ ردَّ الله عليهم معلومٌ إذ يلومهم ويؤنبهم على خِيارهم فيقول لهم جلَّ شأنه في سورة البقرة: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}،[٨] ولكنَّهم جعلوا قدوتهم العادات الوثنية التي خلَّفها لهم أجدادهم ممن لم يهتدوا وسيلقون نفس جزاء آبائهم وبئس المصير.[٩]
وقال مجاهد وقتادة في معنى قول الله تعالى يهرعون أي يُهرولون وكأنهم يمشون إلى الضلال مشية الهرولة، وربما كان معنى يهرعون أي يحضون من خلفهم على الإسراع، إذ لشدة حبهم بالضلال فكأنهم يُسارعون ويدعون غيرهم إلى المسارعة إليه وبذلك قال أبو عبيدة والمبرد،[١٠] وقال السعدي في تفسيره وكأنَّ هذه الآية إجابة على سؤال ما الذي أوصل المشركين إلى هذه الحالة فيأتي الجواب إنهم ألفوا آباءهم ضالين، وإلف الشيء هو الاعتياد عليه فيُقال هذا الرَّجل ألف الأمر أي اعتاده واعتاد حصوله ووجوده، فهم اعتادوا ضلال آبائهم وأجدادهم فساروا على نهجهم الذي ألفوه، ويذلك سيجزي الله للكافرين جهنم؛ وذلك لأنَّهم اتبعوا آباءهم دون أن يحكِّموا عقولهم وبدون أن يتتبعوا الدلائل على حقيقة عبادة الأصنام، وقال ابن عاشور في تفسيره لقول الله تعالى إنهم ألفوا آباءهم ضالين فكانت هذه الآية بمثابة تعليلٍ عن سبب عذاب الله لهم، إذ إنَّ جرمهم الحقيقيُّ أنَّهم لم يُعملوا عقولهم عندما ساق لهم الله الدلائل والبراهين على بطل عبادة الأوثان وحقيقة أن للكون رب واحدٌ هو الله، فكانت إنَّ في هذا الموضع كأنَّها فاء السببية التي يُتبيَّن السبب بما بعدها، وأمَّا معناها -معنى إنَّ- في هذا المقام كأنَّها لام التعليل فكانت مهمة إنَّ هي ربط الآية بالتي قبلها.[١١]
والخطأ كل الخطأ أنَّهم لم يأخذوا أوامر الأنبياء بعين الاعتبار ولم يفكروا بل أجابوا دائمًا دون تفكيرٍ أنَّ ما يفعلونه ليس بجديد، فأوداهم تقليدهم الأعمى إلى جهنم وبئس المصير، فهم يُصرّون أنَّ الهدى الحقيقي هو ما كان آباؤهم يسيرون عليه ولذلك استحقوا العذاب الأليم، وقد بيّن الله في قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ}،[١٢] أنَّ أكثر الأمم فضّلوا العمى على الهدى والضلال على النور وقليلٌ مَن اتبع كلمات الله، ولكن لا عذر لمن لم يُؤمن لأنَّ الله بعث بأنبياءه مُبشرين لأقوامهم ومنذرين لهم، والله في ذلك جميعه هو أعلى وأعلم.[١٣]
معاني المفردات في آية: إنهم ألفوا آباءهم ضالين
إنَّ القدرة على الفهم تتطلب معرفةً بالمعنى وفهم الكلام يتطلَّب معرفةً بالمصطلحات وإحاطةً بها، ولا بدَّ للمُفسر أن يحيط علمًا باللغة العربية وأحوال الكلمة فيها، وستقف هذه الفقرة مع شرح مفردات قول الله تعالى:{إنهم ألفوا آباءهم ضالين}:
- ألفوا: آلف أي اعتاد واستأنس، فيُقال فلانٌ تآَلَف قلبه مع فلان أي استأنس به فكان صديقًا له، وآلف الأمر أي ألفه واعتاد عليه.[١٤]
- آباءهم: الآباء هي الجمع من المفرد أب، وهو الوالد الذكر ويشمل الجد أيضًا، فعندما يُقال آباء فإنَّها تشمل الأب والجد وجد الجد وإن علا.[١٥]
- ضالين: أصل الكلمة هو الضلال وتشمل في معناها الهلاك والنسيان والأكاذيب والباطل، والضلال في معناه الخاص هو الميل عن الطريق الواضح المستقيم قصدًا أو بغير قصد، وسواءٌ كان ذلك الميل قليلًا أو كثيرًا.[١٦]
إعراب آية: إنهم ألفوا آباءهم ضالين
الإعراب هو الظاهرة التي لا بدَّ لكلِّ مسلمٍ أن يتعامل معها بجدية من خلال فهم ذلك العلم والتَّمكن منه؛ لمعرفة معاني الكلام في اللغة العربية، وهو المحور الأساسي الذي لا بدَّ من إتقانه إتقانًا حقيقيًّا؛ حتى يتمكَّن المُفسر من تفسير كتاب الله، والإعراب هو الأساس لعملية ضبط أواخر الكلمات ضبطًا صحيحًا، وبعد أن تم تفسير قول الله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين}، لا بدَّ من إعراب تلك الآية إعرابًا تفصيليًّا، وفيما يأتي سيكون ذلك:[١٧]
- إنَّهم: إن حرف مشبه بالفعل، وهم ضمير متصل مبني في محل رفع مبتدأ.
- ألفوا: فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة منعًا من التقاء الساكنين، وجملة ألفوا في محل خبر إنَّ.
- آباءهم: مفعول به أول منصوب وعلامة نصبه الفتحة، وهم ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة.
- ضالين: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الياء، والنون عوضًا عن التنوين في الاسم المفرد.
الثمرات المستفادة من آية: إنهم ألفوا آباءهم ضالين
القرآن هو كتاب الله والدستور الذي أنزله على عباده، فلا يكون النور للقراءة فقط بل لا بدَّ من التَّنبه إلى مقاصد آيات الله -تعالى- والثمرات التي لا بدَّ من الوقوف عندها ومحاولة استنباطها وتأملها، وبعد أن تم تفسير قو الله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين}، لا بدَّ من استنباط الثمرات من تلك الآية، وفيما يأتي سيكون ذلك:
- صراع الحق والباطل هو أزليٌّ وقديمٌ قدم هذه الحياة، ولا بدَّ للمسلم من التَّفكر وتحكيم عقله واللجوء إلى شرع الله قبل الميل إلى أي قرار، ولا بدَّ من مواجهة الباطل مهما كان تمكُّنه وعدم الانصياع إلى ما وجد كلّ امرئٍ أجداده عليه، فلو كان كلّ ما يفعله الآباء صحيحًا لما قال الله في كتابه ولكنَّ أكثر الناس لا يعقلون.[١٨]
- القدوة الحسنة هي من الأمور التي نبَّه عليها الله -تعالى- في كتابه في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}،[١٩] فلا بدَّ للمسلم من أن يكون عاقلًا تجاه القدوة التي سيتخذها وخير قدوة في الحياة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم.[٢٠]
- حكمة الله تتجلى في خلق الإنسان عندما اختصَّه دونًا عن خلقه الآخرين بالعقل الذي يستطيع من خلاله التفكير واتخاذ القرارات المناسبة له؛ لذلك فإنَّ الإنسان محاسبٌ عن أعماله؛ لأنَّه يُقدم على الخطوة وهو بكامل قواه العقلية، ولذلك فإنَّ المجنون غير مؤاخذٍ على أفعاله في الشريعة الإسلامية، فقد سقط عنه ما يُوجب محاكمته وهو العقل البشري الذي أبدع الله صنعته إنَّه عليمٌ حكيم.[٢١]
المراجع
- ↑ "سورة الصافات"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة الصافات، آية:69
- ↑ "تعريف سورة الصافات"، www.e-quran.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة الصافات، آية:69-70
- ↑ "القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة الصافات - الآية 69"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة الصافات - الآية 70"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة الزخرف، آية:22
- ↑ سورة البقرة، آية:170
- ↑ " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن سورة الصافات قوله تعالى إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ " تفسير القرطبي سورة الصافات قوله تعالى إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ (الصافات - 69)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة الصافات، آية:71
- ↑ "تفسير أحمد حطيبة"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى ألف في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى آباء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الضلال في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "أعياد الكفار وموقف المسلم منها"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية:21
- ↑ "الأسوة الحسنة وخطر القدوة السيئة"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19.
- ↑ "الرجولة العقلية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.