محتويات
سورة الحج
سورة الحج من السور التي اختلف فيها العلماء على أقوال، والرأي الذي رجّحه جمهور المفسّرين أنّها قد خلطت آيات مكيّة ومدنيّة، فالحكم عليها بأمر بعينه -مكي أو مدني- هو أمر صعب، وقد سُمّيت باسم سورة الحج في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا يُعرف لها اسمٌ ثانٍ، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أنّه سأل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "يا رسولَ اللهِ! فضلَتْ سورةُ الحجِّ بأنَّ فيها سجدَتينِ؟ قال: نعم"،[١] وأيضًا قد روي عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- "أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أَقْرأَهُ خمسَ عشرةَ سجدةً في القرآنِ، منها ثلاثٌ في المفصَّلِ، وفي سورةِ الحجِّ سجدتانِ"،[٢] ووجه تسميتها بسورة الحج هو ذكر أمر إبراهيم -عليه السلام- بالدعوة إلى الحج، وفي هذه السورة آية هي قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}،[٣] سيتوقّف معها هذا المقال بالشرح والتفصيل.[٤]
معنى آية: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، بالشرح التفصيلي
ما معنى هذه الآية؟ تقف هذه الفقرة مع تفسير قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[٥] في سورة الحج، وهذه الآية تصف حال فئة من الناس ورد ذكرهم في الآية السابقة لها، إذ يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}،[٦] وقد روى غير واحد من المفسرين -ومنهم الإمام القرطبي- أنّه هذه الآية وما سبقها قد نزلت في النضر بن الحارث أحد أعداء الإسلام؛ إذ كان يجادل في الله بغير علم، فكان يُنكر البعث ويُنكر نبوّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وكان يقول إنّ الملائكة بنات الله تعالى -حاشا لله- وروي كذلك عن ابن عبّاس أنّها نزلت في أبي جهل، والقول الأوّل أشهر،[٧] فتقول هذه الآية في وصف الذي يُجادل في الله بغير علم إنّه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}،[٨] والمُراد بقوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أنّ ذلك دلالة على الاستكبار عن الحق وهو قول ابن عبّاس، وقال بعض التابعين إنّ معناه أنّه يلوي عنقه، وذلك قريب من قوله تعالى في سورة الذاريات: {وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}،[٩] أو قوله تعالى في سورة المنافقون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}،[١٠] وهذا القول لمجاهد وقتادة وغيرهما رضي الله عنهما وعن سائر السلف الصالح.[١١]
وأمّا قوله تعالى {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ}، فمن المفسّرين من يرى اللام في قوله ليُضِلَّ هي لام التعليل؛ فتقدير الكلام حينها لكي يُضلّ، وهذا اختيار ابن كثير، ومنهم من يراها لام العاقبة؛ لأنّ ذلك الذي يُجادل بالله قد يكون لا يقصد ذلك، ورأى بعض المفسّرين أنّها لام العاقبة لأنّها تشبه قوله تعالى في سورة القصص: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}،[١٢] وسبيل الله هنا المقصود به دينه وهو الإسلام، ثمّ يقول تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}، أي إنّه سيُذل ويُهان في الدنيا، وسيلقى فيها الخزي والعار، وقد اختلف المفسّرون في ذلك فمنهم من قال إنّ معنى ذلك أنّ المسلمين سيقتلونه بأيديهم وهو ما حدث في غزوة بدر الكبرى، ومنهم من قال إنّ ذلك هو الذكر السيّئ والقبيح الذي سيجري على ألسنة المسلمين منذ يومها وإلى يوم القيامة ما دام القرآن الكريم يُتلى، كما حدث مع أبي لهب في سورة المسد إذ قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}،[١٣] ثمّ يختم تعالى الآية الكريمة بقوله: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}، ومعنى ذلك أنّ ذلك الذي يصدّ عن سبيل الله له يوم القيامة عذاب مقيم في النار، والله أعلم.[١١]
معاني المفردات في آية: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله
بعد الوقوف مع نبذة عن سورة الحج التي ورد فيها قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}،[١٤] وبعد الوقوف مع تفسير الآية الكريمة تقف الفقرة هذه مع شرح المفردات التي تحتاج إلى توضيح، ومن تلك المفردات:
- ثاني: الثاني هو الفاعل من الفعل ثنى، وثنيُ الشيء هو طويُه وردّ بعضه على بعض.[١٥]
- عطفه: عِطف الشيء جانبه، وقال بعض اللغويين المحدثين إنّ العطف للإنسان هو من رأسه إلى وركه.[١٦]
- ليضل: الضلال والضلالة كلّ ما هو ضد الهدى والرشاد، فهو الباطل والهلاك والعدول عن الصراط السوي المستقيم.[١٧]
- سبيل: وهي الطريق، وقد تُذكّر وقد تؤنّث، فيُقال هذا سبيل وهذه سبيل، وسبيل الله الهدى والطريق الواضح الذي دعا الناس إليه وهو التوحيد ونبذ الشرك.[١٨]
- خزي: الخزي في اللغة هو الذل والهوان كما ذهب جمع من علماء اللغة.[١٩]
إعراب آية: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله
هل لمفردات هذه الآية إعراب في اللغة العربية؟ قبل الختام تتوقّف هذه الفقرة مع إعراب قوله تعالى في الآية الكريمة من سورة الحج التي تقول: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}،[٢٠] ففي الإعراب زيادة وضوح وبيان؛ إذ معنى الإعراب في اللغة هو البيان والإفصاح، وإعراب الآية الكريمة فيما يأتي:
- ثاني: حال منصوبة من فاعل الفعل يجادل في الآية السابقة لهذه الآية، وعلامة نصبها الفتحة الظاهرة.[٢١]
- عِطفِه: مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة، والهاء ضمير متّصل مبني في محل جر بالإضافة.[٢٢]
- ليُضلَّ: اللام لام التعليل، ويضلَّ فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، والمصدر المؤوّل من أن وما بعدها في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل يجادل في الآية السابقة لهذه الآية.[٢٢]
- عن سبيل: عن حرف جر، وسبيل اسم مجرور بحرف الجر وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل يضل.[٢٢]
- الله: اسم الجلالة مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة.[٢٢]
- له: جار ومجرور متعلّقان بخبر مقدّم محذوف للمبتدأ المؤخّر خزي.[٢٢]
- في الدنيا: في حرف جر، والدنيا اسم مجرور بحرف الجر وعلامة جرّه الكسرة المقدّرة على الألف للتعذّر، والجار والمجرور متعلّقان بالخبر المقدّم المحذوف للمبتدأ المؤخّر خزي.[٢٢]
- خزيٌ: مبتدأ مؤخّر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.[٢٢]
- ونذيقه: الواو عاطفة، ونذيقه فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والهاء ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به أول.[٢٢]
- يومَ: ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة متعلّق بالفعل نذيقه.[٢٢]
- القيامةِ: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة.[٢٢]
- عذابَ: مفعول به ثانٍ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[٢٢]
- الحريقِ: مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة على آخره.[٢٢]
- جملة {يُضِلَّ}: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.[٢١]
- جملة {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}: استئنافيّة لا محل لها من الإعراب.[٢١]
- جملة {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}: معطوفة على ما قبلها -جملة له خزي- فهي مثلها لا محل لها من الإعراب.[٢١]
الثمرات المستفادة من آية: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله
ختامًا تقف هذه الفقرة مع الثمرات التي يمكن جنيُها وقطفُها من هذه الآية الكريمة التي يقول فيها تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}،[٢٣] فلعلّ ممّا يمكن للقارئ لهذه الآية أن يقف عليه هو أمر مهمّ جدًّا في ظلّ الحروب التي يشنّها أعداء الإسلام على الإسلام وأهله، ومحاولتهم الصدّ عن سبيله بكلّ ما أوتوا من طاقة في كلّ شيء، فمن سياق الآية وما جاء في كتب التفاسير عنها وعن شبيهاتها من الآيات القرآنيّة التي تثبت ضَعف أولئك الذين يصدّون عن سبيل الله، وضعف طرائقهم التي يحاولون من خلالها الصد عن دين الله الذي ارتضاه لعباده سبحانه، فكيدهم -لا بدّ- عائد إليهم، وقواهم الباطلة تهتزّ أمام أوّل زجرة من زجرات الحقّ التي تجعل الأرض تميد تحتهم.[١١]
وأيضًا ممّا يجب لفت النّظر إليه أنّ الله -تعالى- ناصرٌ دينه، وكلّ من وقف في وجهه لقي من الذل والهوان ما جعله آية للنّاس، كعمرو بن هشام المعروف بأبي جهل، وعبد العزّى بن عبد المطّلب المشهور بأبي لهب، والنّضر بن الحارث الذي نزلت في حقّه هذه الآية كما ذهب أكثر المفسّرين، فأولئك كانوا طغاة جبابرة يؤذون المسلمين ويعذّبونهم ويستضعفونهم قبل الهجرة، ويحسبون أنّهم مانعتهم قوّتهم من عذاب الله، ولكنّ الله -تعالى- يُملي للظّالمين حتّى إذا أخذهم أخذهم أخذَ عزيز مقتدر، فليعلم الذي يحارب الإسلام أنّ الإسلامَ منصورٌ بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل، والله أعلم.[١١]
المراجع
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم:578، حديث حسن.
- ↑ رواه ابن القيم، في أعلام الموقعين، عن عمرو بن العاص، الصفحة أو الرقم:2، حديث صحيح.
- ↑ سورة الحج، آية:9
- ↑ "التحرير والتنوير - سورة الحج"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:9
- ↑ سورة الحج، آية:8
- ↑ "تفاسير الآية 8 من سورة الحج"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:9
- ↑ سورة الذاريات، آية:38-39
- ↑ سورة المنافقون، آية:5
- ^ أ ب ت ث "تفاسير الآية 9 من سورة الحج"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ سورة القصص، آية:8
- ↑ سورة المسد، آية:1
- ↑ سورة الحج، آية:9
- ↑ "تعريف و معنى ثاني في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى العطف في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الضلال في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى السبيل في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الخزي في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:9
- ^ أ ب ت ث "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س "ثَانِىَ عِطْفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ لَهُۥ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ ۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ (الحج - 9)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-16. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:9