محتويات
سورة التوبة
سورة التوبة هي سورة مدنية ما عدا الآيات 128-129 فمكيتان، وهي السورة الوحيدة التي لا تبدأ بالبسملة، وذلك لأنّ الله تعالى قد ابتدأها بالبراءة من المشركين، حيث قال في مطلعها: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}،[١] وقد اختلف العلماء في كون هذه السورة من المئين أو من السبع الطوال، والسبب في هذا الاختلاف هو خلافهم في كون سورة التوبة وسورة الأنفال سورة واحدة أم أنّ كل سورة منفصلة عن الأخرى، وعدد آياتها هو 129 آية بالنسبة لمن عدّها سورة مستقلة، وتميّزت هذه السورة الكريمة بكثرة أسمائها، فهي تُسمّى بالتوبة وبراءة والفاضحة لأنّها تفضح المنافقين، ويُقال أنّها وسورة الفاتحة من أكثر السور أسماءً، وقال ابن كثير أنّ أولها قد نزل بعد رجوع الرسول الكريم وجيشه من غزوة تبوك، والحديث عن هذه الغزوة واضح فيها، وممّا ارتبط بها قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وسيتناول هذا المقال معنى آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بالشرح التفصيلي.[٢]
معنى آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بالشرح التفصيلي
إنّ سورة التوبة هي إحدى السور التي تطرقّت إلى الأمور العسكرية فتحدّثت عن غزوة تبوك وحُنين، وذُكرت فيها الكثير من الأحداث التي حصلت في تلك الفترة مثل الحديث عن مسجد الضرار وعن المنافقين بشكل عام، وفيها بيان لطبيعة علاقة المسلمين مع الكفار وأهل الكتاب والمنافقين، حيث نزلت فيها البراءة من العهود مع المشركين وأمر الله -عزّ وجل- رسوله ومن معه من المؤمنين بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية،[٣] وقد تضمنّت الحديث عن الثلاثة الذين خُلّفوا وهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، حيث قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}،[٤] فنزول توبة الله على هؤلاء الثلاثة هو السبب بتسميتها بسورة التوبة.[٢]
وقد فسّر الإمام الطبري هذه الآية وقال في معنى قوله تعالى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، أنّ الأرض برغم سعتها ورحابتها قد ضاقت على هؤلاء الذين تخلّفوا عن الجهاد مع رسول الله بسبب ما عانوه من الهم والندم والحزن، ولا بدّ من الحديث عن قصة هؤلاء ليُفهم معنى هذه الآية بشكلٍ دقيق، فقد ذكرها الطبري على لسان كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة وقال بأنّه لمّا كانت غزوة تبوك كان في أفضل أوقاته بالنسبة لامتلاك الزاد والراحلة، وكانت تلك الغزوة في فترة شدّة فالحرّ شديد والزاد قليل، وقد كان كعب ينتظر ثماره كي تنضج فتأخر عن اللحاق برسول الله وما زال يمهل نفسه حتى أدرك أنّه لم يعد بإمكانه اللحاق به والانضمام إلى جيشه المتوجّه إلى الشام.[٥]
فلمّا عاد رسول الله والمسلمون إلى المدينة خرجت طائفة من الذين لم يذهبوا للجهاد واعتذروا لرسول الله عن ذلك وذكروا أعذارهم فقبلها منهم واستغفر الله لهم وعاملهم بناءً على ما ظهر من علانيتهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى، إلّا أنّ كعبًا لم يكن لديه عذر فجاء إلى رسول الله وأخبره بما حصل بكلّ صدق، فقال له رسول الله اذهب حتى يحكم الله بأمرك فلمّا خرج من عنده عاتبه قومه على ذلك، وقالوا له لو أنّه وجد عذرًا كغيره من المخلفين، فسألهم إن كان هو وحده أم معه أحد فأخبروه بأنّ مرارة بن الربيع وهلال بن أمية لم يكن لديهما عذر وأجابهما رسول الله بنحوٍ ممّا قاله له.[٥]
وقد أمر رسول الله المسلمين أن يعتزلوا هؤلاء الثلاثة فلا يُخالطوهم ويهجروهم، فاجتنبهم الناس وكان لهذا جميعه تأثيرٌ كبير على نفوسهم وقد جلس كل من مرارة بن الربيع وهلال بن أمية في بيتهما يبكيان ندمًا وحزنًا أمّا كعب فقد استمر بالخروج ومخالطة المسلمين والصلاة خلف رسول الله في المسجد، واستمر هذا الحال خمسين يومًا وقد أُمروا بعدم الاقتراب من نسائهم، فاشتد الحال عليهم ووصف الله -عزّ وجل- حالهم بقوله: {حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}، ثمّ نزلت توبتهم فتغيّرت حالهم وانقلب ضيق الأرض إلى اتساع ورحابة.[٥]
ومن الآيات المرتبطة بهذه الآية قوله تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}،[٦] فقد عطف الله تعالى توبة الثلاثة الذين خُلّفوا على توبته على النبي والمهاجرين والأنصار، وقال القرطبي أنّ أهل التفسير قد اختلفوا في معنى توبته عليهم، فقال البعض بأنّ الله تعالى وفقهم للتوبة ليتوبوا، وقال آخرون أي فسح لهم المجال ولم يُعاجلهم بالعقوبة حتى تابوا وأنابوا، وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة، وقيل: تاب عليهم كي يرجعوا ويعودوا إلى حال الرضا.[٧]
كما ذكر الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية أنّ هؤلاء الثلاثة هم المقصودون في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}،[٨] وقال أنّ العلماء اختلفوا في دلالة قوله: "خُلّفوا"، فذكر البعض أنّ المعنى تخلّفوا وتأخروا، وقال آخرون أنّ رسول الله خلّفهم أي أعطاهم مدّة لتجهيز أنفسهم ولكنّهم توانوا حتى فاتهم اللحاق به، وقال آخرون المعنى أنّ توبتهم قد تأخرت وهذا المعنى الذي قاله كعب بن مالك عند الحديث عن تلك القصة، ومعنى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، أي أنّ الأرض على اتساعها قد أصبحت ضيّقة على هؤلاء بسبب هجر الرسول والمسلمين لهم،[٩] وقد قال البقاعي أنّ الله تعالى أشار إلى حالهم بحرف الجر "على" وهو يٌفيد الاستعلاء، أي أنّ الأرض مع شدّة اتساعها قد ضاق عليهم فسيحها واتساعها.[١٠]
معاني المفرادات في آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
بعض المفردات والألفاظ القرآنية كثيرة الاستعمال في اللغة العربية ومعناها معروف لدى العامّة ويستخدمونها في كلامهم بنفس المعنى والدلالة المعبّر عنها في القرآن الكريم، ولكنّ البحث في جذورها واشتقاقاتها وأصلها يزيد في العلم والفهم، ومن الأمثلة على هذه المفردات كلمتا الضيق والأرض في قوله تعالى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وفيما يأتي بيانٌ لمعاني المفردات في هذه الآية الكريمة من معاجم اللغة العربية وقواميسها:
- ضاقت: من الضيق وهو نقيص السعة، ويدلّ على الشدّة والهم والحزن.[١١]
- الأرض: الجمع "أرضون"، وهي المكان الذي عليه الناس.[١٢]
- رحبت: من الرُحب وهو السعة.[١٣]
إعراب آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
لقد تمّ الحديث عن قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا و وذكر سبب نزول الآيات التي تحدّثت عنهم والآيات المتعلقة بهذه القصة، وتفسيرها وتوضيح معاني مفرداتها، وفيما يأتي إعراب آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، من كتاب الجدول في إعراب القرآن:[١٤]
- حتى: حرف ابتداء.
- إذا: ظرف للزمن المستقبل، مبني في محل نصب متعلّق بمضمون الجواب.
- ضاقت: فعل ماض، والتاء للتأنيث.
- عليهم: على: حرف جر، هم: ضمير متصل في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل "ضاقت".
- الأرض: فاعل مرفوع.
- بما: الباء حرف جر، ما: حرف مصدري.
- رحبت: فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل ضمير مستتر تقديره هي.
- المصدر المؤول "ما رحبت": في محل جر بالباء، والجار والمجرور حال من الأرض، أي: ضاقت حال كونها رحبة، أي: مع رحبها.
- جملة "ضاقت عليهم الأرض": في محل جر مضاف إليه.
- جملة "رحبت": صلة الموصول الحرفي "ما"، لا محل لها من الإعراب.
الثمرات المستفادة من آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
إنّ سورة التوبة هي سورة مليئة بالأحكام التي تخص الدولة والمجتمع الإسلامي، وقد روي في فضلها أنّ عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- حضّ على تعلّمها وخصّ بذلك الرجال، فالفوائد المستنبطة من آياتها كثيرة والحكم المستخلصة من قصصها جليلة، وفيما يأتي ذكرٌ لبعض الثمرات المستفادة من آية: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت:[٣]
- تجاوز الله تعالى عن ذكر ما حصل من الثلاثة الذين خُلّفوا وما ارتكبوه من الذنوب وإنّما ذكر حالهم وتوبته عليهم وفي هذا تسليةٌ لهم وتخفيفٌ عنهم.[١٠]
- من الفوائد التربوية المستخلصة من هذه الآية أنّه عندما يرى المربّي والمسؤول رجوعًا عن الخطأ وندمًا عليه من المتربيّن، فيجب أن لا يقوم بتذكيرهم بهذا الخطأ بل يُثني على التغيير الحاصل ويُشجّع على التطور المستمر.[١٠]
- ذكر الله تعالى أنّ هؤلاء "خُلّفوا" وجاء التعبير بصيغة المبني للمجهول وفي هذا إشارة إلى أنّ التخلّف لم يحصل منهم وإنّما وقع عليهم، فذنبهم لم يُذكر بالقرآن وإنّما الذي ذُكر هو حالهم وتوبة الله عليهم.[١٥]
- من رحمة الله تعالى بعباده إمهالهم حتى يتوبوا ويستغفروا لذنوبهم فيتوب عليهم ويغفر لهم.[١٥]
- حُسن التصوير القرآني في وصف الإنسان الذي يُعاني الهجر وما يعتريه من الضيق والحزن وكأنّ الأرض قد أصبحت ضيقة عليه، وقد ذكر الله تعالى ضيق المحل ثمّ أعقبه بضيق الحال وهو أنّ نفوسهم قد ضاقت عليهم أيضًا.[١٥]
- الصدق من محاسن الأخلاق التي لا تأتي إلّا بالخير، واللجوء إلى الله هو الحل مهما ظنّ الإنسان صعوبة الأمر وشدّة الكرب وعِظَم المصيبة.[٥]
- المسلم لا يقنط ولا يظن أنّ الله لن يغفر له بل يستغفر ويتوب مهما كان ذنبه عظيمًا.[٥]
- على الإنسان أن يدرك مكانه وموقعه في الإسلام ومدى تأثيره على المحيطين به فيبتعد عن كل ما يخدش بهذه المكانة ويؤثر في كونه قدوةً لغيره، فالذنب والمعصية عندما يقع من شخصية مؤثرة في العالم الإسلامي يكون وقعه أكبر وأشد ممّا إذا فعله إنسان بسيط من عامّة المسلمين.[١٥]
- في قصة الثلاثة الذين خُلّفوا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.[٩]
المراجع
- ↑ سورة التوبة، آية:1
- ^ أ ب "سورة التوبة"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ^ أ ب "موسوعة التفسير"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية:118
- ^ أ ب ت ث ج "تفسير الطبري"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية:117
- ↑ "قَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ "، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 08/08/2020. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية:106
- ^ أ ب "قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الضيق في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الأرض في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى رحبت في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ↑ "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث "سورةُ التَّوبةِ"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.