معنى آية سماعون للكذب أكالون للسحت، بالشرح التفصيلي

سورة المائدة

واحدةٌ من السُّور المدنيَّة -التي نزلت في المدينة المنورة- ويبلغ عدد آياتها 120 آية، وهي السُّورة الخامسة من حيث ترتيب السور في القرآن الكريم، وقد نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وتُعد واحدةً من السَّبع الطِّوال، واختصَّت السُّورة في الحديث عن التشريعات الإسلاميَّة التي أنزلها الله لعبيده كي يعملوا بها، شأنها في ذلك شأن السور المدنية الأخرى، إلى جانب ذكر بعض القصص عن أهل الكتب والاهتمام بتثبيت العقيدة والتوحيد في نفوس المسلمين، ويذكر أبو ميسرة في سورة المائدة أنَّ فيها ثمانية عشر فريضة، وهي خاليةٌ من الآيات المنسوخة؛ إذ إنَّها من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، ومن بين الآيات التي ذُكرت في سورة المائدة قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}،^[١] وسيقف هذا المقال للحديث عن معنى تلك الآية وشرح مفرداتها شرحًا تفصيليًّا، مع الوقوف على إعرابها والحديث عن أهمِّ ثمراتها، وفيما يأتي سيكون ذلك. ^[٢]

معنى آية: سماعون للكذب أكالون للسحت، بالشرح التفصيلي

إنَّ دأب الكافرين هو الإفك وتكذيب أنبياء الله -تعالى- ورسله، وقد نزلت العديد من الآيات في القرآن الكريم التي تفضح كذبهم وكفرهم وتكبرهم في الأرض، ومن بين تلك الآيات قوله تعالى في سورة المائدة: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}،^[٣] وقد وقف أهل التفسير والتأويل على سبب نزول تلك الآية فقال بعضهم إنَّها نزلت في جماعةٍ من اليهود قتلوا رجلًا، وقالوا لنذهب إلى محمد فنسأله عن الحكم، فإن أفتى بالدِّية قبلنا حكمه وإن أفتى بالقصاص فلا نسمع منه، وقال مفسرون آخرون إنَّ السبب في نزول تلك الآية هو أنَّ رجلًا وامرأةً يهوديَّان أقدما على الزِّنا، والحُكم في التوراة مثل الحكم في القرآن على الزَّاني المحصن أن يُرجم حدَّ الموت، فأرادوا أن يُبدِّلوا حكم الله فغيروا من الحكم رجمًا إلى الجلد والتَّحميم والركوب على الحمار بشكلٍ مقلوب، وأراد اليهود أن يُؤيدوا كذبهم بكلامٍ من النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: نذهب ونحتكم إليه، فإن أفتى بالجلد والتحميم قبلنا منه، وإن أفتى بالرَّجم لا نأخذ منه، فتكون فتيته -عليه الصلاة والسلام- حجةً لنا أمام الله تعالى، وقد ورد في ذلك عن جابر بن عبد الله أنَّه "جاءت اليهودُ برجلٍ وامرأةٍ منهم زنيا قال: ائتوني بأعلَمِ رجلَيْن منكم فأتَوْه بابنَيْ صوريَّا فنشدهما كيف تجِدان أمرَ هذَيْن في التَّوراةِ؟ قالا: نجِدُ في التَّوراةِ إذا شهِد أربعةً: أنَّهم رأَوْا ذكَرَه في فرْجِها مثلَ الميْلِ في المُكحُلةِ رُجِما، قال: فما يمنعُكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطانُنا، فكرِهنا القتلَ فدعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّهودِ ، فجاءوا بأربعةٍ فشهِدوا أنَّهم رأَوْا ذكرَه في فرْجِها مثلَ الميْلِ في المُكحُلةِ، فأمر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برجمِهما"،^[٤] ومعنى كلمة سمَّاعون للكذب أي متفاعلون معه ومستجيبون له.^[٥]

وأمَّا السُّحت فهو كلُّ ما ذكره الله -تعالى- من أكل الربا وغيرها من المحرمات، وقد أمر الله تعالى نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يحكم بين النَّاس بالقسط والعدل، سواءٌ كانوا يهودًا أم نصارى أم غيرهم من الكفار؛ وذلك عملًا بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ}،^[٦] وذلك ما يجب أن يفعله القاضي أو الحاكم إذا ما تنازعوا وجاؤوا يحتكمون إليه،^[٧] وقال بعض أهل التفسير والتأويل إنَّ الآية نزلت في كعب بن الأشرف ومن مثله ممن لا يحكمون إلا لمن يرشيهم، فكان الرَّجل يضع الرَّشوة في كُمِّه فيُريها لهم، فإذا ما رأوها حكموا له وانحازوا لتنفيذ مطلبه دون النَّظر في رأي الخصم أو كلامه، وأمَّا السُّحت فتُطلق على الرَّشوة في الحُكم كما ذهب كلٌّ من قتادة والضحاك وغيرهما، وقال آخرون في السُّحت أنَّه كل كسبٍ حرام لم يحله الله.^[٨]

وقال أبو جعفر في تفسير قوله تعالى سمَّاعون للكذب أكالون للسحت؛ أي أولئك اليهود الذين يسمعون الكلام الباطل ويتناقلونه فيما بينهم، مثل قولهم إنَّ محمد ليس بنبي وهو كاذب، أو قولهم إنَّ حدَّ الزاني المُحصن -كما ورد في التوراة- هو الجلد والتحميم، ويحكمون بالرّشوة ويأكلونها ويخالفون أوامر الله ولا ينتهون عما نهى، وقال في ذلك الحسن أنَّ تلك الآية للحُكَّام الذين يقبلون الرشوة فيأكلونها ويسمعون الكذب ويتناقلونه، وقد ذهب أكثر أهل التفسير في معنى السُّحت أي الرَّشوة، وقال عبد الله في معنى السحت إنَّه الرَّشوة في الدِّين، وقال عمر السُّحت هو الرَّشوة وهو مهر المرأة الزَّانية وبذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه، والسُّحت هو المُقابل الذي يقبل به الرَّجل إن تشفع لآخر في حاجةٍ له.^[٩]

معاني المفردات في آية: سماعون للكذب أكالون للسحت

إنَّ تفسير القرآن الكريم وآيات الله -تعالى- يتعذَّر على طالبه طالما أنَّه جاهلٌ باللغة العربية غير عالمٍ بشرح مفرداتها؛ إذ إنَّ القرآن الكريم مُنزلٌ باللغة العربيَّة مُعجزٌ بها، ولا بدَّ من التَّمكن منها قبل محاولة تفسيره وفهمه، وبعد أن تمَّ شرح قوله تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت من ناحية أقوال أهل التفسير والتأويل، لا بدَّ من الوقوف عليها من النَّاحية اللغوية حسب معاجم اللغة العربية، وفيما يأتي سيكون ذلك:

• سماعون: السَّمع هو إدراك الأصوات بالأذن، والسمع هو حاسة من حواس الإنسان، وسماع الأخبار هو تلقيها والعلم بها، ويُقال هذا الرَّجل سمع الله دعاؤه أي استجاب لدعائه.^[١٠]
• للكذب: الكذب في اللغة هو القول المُخالف للحقيقة مع إدراكها والعلم بها، وهو عكس الصِّدق.^[١١]
• أكالون: تتعدد المعاني الخاصَّة بكلمة "أكل" حسب السِّياق الذي أتت به، فالأكل بمعناه المُتداول هو الطَّعام وأَكَلَ بمعنى تناول، وأمَّا أكل المال فهو أخذه وصرفه، ويُقال أكلت النَّار المحصول أي دمرته وأتت عليه كاملًا.^[١٢]
• للسحت: السُّحت في اللغة هو الخبيث من المال وما كان قبيحًا غير مستحبٍّ مثل الربا أو الرشوة، وتُستدم كلمة سُحت للمفرد والجمع منها أسحات.^[١٣]

إعراب آية: سماعون للكذب أكالون للسحت

إنَّ الإعراب هو النقطة الأهمُّ التي لا بدَّ من مراعاتها في أثناء تأويل القرآن الكريم، فلا يُمكن فهم اللفظة والإتيان على شرحها وتفسيرها ما لم يُعرف ضبطها وموقعها من الجملة، إذ من الشروط الهامَّة للمفسر أن يكون متمكنًا من علم الإعراب الذي تُعرف به ضوابط آخر الكلمات، ولا بدَّ من مراعاة هذا الأمر عند تفسير قوله تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت، وستقف هذه الفقرة لإعرابها إعرابًا تفصيليًّا كما بيَّنه علماء اللغة والنحو:^[١٤]

• سماعون: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم مرفوع وعلامة رفعه الواو، والنون عوضًا عن التنوين في الاسم المفرد.
• للكذب: اللام حرف جر، الكذب اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، والجار والمجرور متعلقان ب"سمَّاعون".
• أكالون: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم، مرفوع وعلامة رفه الواو، والنون عوضًا عن التنوين في الاسم المفرد.
• للسحت: اللام حرف جر، السحت اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، والجار والمجرور متعلقان ب"أكالون".

الثمرات المستفادة من آية: سماعون للكذب أكالون للسحت

لم يُنزل الله -سبحانه- القرآن كلامًا ليُتلى فقط على أهمية تلاوته، بل أنزله ليُنظر فيه فتُأخذ منه الأحكام والشرائع ويُستفاد من ثمراته في الحياة الدُّنيا؛ ليصل المؤمن إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، فلا تستريح القلوب إلا باتباع كلام الله والأخذ بأوامره والابتعاد عن نواهيه، فبعد أن تمَّ الوقوف مع قوله تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت من ناحية التفسير والتأويل وشرح المفردات والإعراب، لا بدَّ من النَّظر إلى الآية بعين الباحث عن الثمرات المُستفيد من العبر، وفيما يأتي سيكون ذلك:

• إنَّ العدل مطلوبٌ من المؤمن مع جميع المخلوقات ومع المؤمنين وغير المؤمنين، فكما أنَّ الله عادلٌ مع خلقه لا بدَّ للمسلم أن يتحلَّى بالعدل حتى مع أبغض النَّاس إليه، وذلك من شأنه أن يُرغِّب غير المسلمين باتباع ذلك الدِّين الذي يأمر المرء أن يكون عادلًا حتى مع أعدائه.^[١٥]
• لقد وضع الله حدودًا للنَّاس في تعاملاتهم المادية؛ حتى لا يكون هناك ظالمٌ ومظلومٌ فالعدل هو أساس الشريعة الإسلامية، فنهى الله تعالى في غير موضع من كتابه عن أكل أموال النَّاس بالباطل وبدون وجهٍ حقٍّ ومن ذلك التَّعامل بالربا بين النَّاس أو بالرشوة وهو ما حرَّمه الله تعالى ونبيه الكريم في غير حديثٍ من الأحاديث النبوية، قال تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}،^[١٦] فالرشوة هي أساس الفساد في المجتمعات، ولا بدَّ لذلك الدِّين القويم من مكافحتها حتى يعمَّ السلام على هذه الأرض، والله في ذلك جميعه هو أعلى أعلم.^[١٧]

المراجع

1. ↑ سورة المائدة، آية:42
2. ↑ "سورة المائدة"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
3. ↑ سورة المائدة، آية:42
4. ↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم:4452، حديث صحيح.
5. ↑ "تفسير ابن كثير تفسير سورة المائدة تفسير قوله تعالى " سماعون للكذب أكالون للسحت ""، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
6. ↑ سورة المائدة، آية:49
7. ↑ "تفسير قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ...)"، binbaz.org.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
8. ↑ "تفسير آية: (سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم) "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
9. ↑ "القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة المائدة - الآية 42"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
10. ↑ "تعريف و معنى سمع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
11. ↑ "تعريف و معنى الكذب في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
12. ↑ "تعريف و معنى أكل في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
13. ↑ "تعريف و معنى السحت في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
14. ↑ "سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـًٔا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ (المائدة - 42)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
15. ↑ "الله يحب المقسطين"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
16. ↑ سورة البقرة، آية:188
17. ↑ "الرشوة في القرآن الكريم ونصوص الحديث النبوي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25.