محتويات
سورة البقرة
سورة البقرة هي سورة مدنيّة باتفاق، وهي أوّل ما نزل بالمدينة من القرآن، وقيل بل المطففين هي أوّل ما نزل من القرآن بالمدينة، وسمّيت بالبقرة لأنّه ذكرت فيها قصّة بقرة بني إسرائيل التي أمرهم الله -تعالى- بذبحها، وقد ورد اسمها عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح إذ يقول صلّى الله عليه وسلّم: "مَن قَرَأَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ"،[١] وكان بعض الصحابة يسميها فسطاط المسلمين، وقال عنها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إنّها سنام القرآن، وترتيبها من حيث النزول 87 نزلت قبل آل عمران وبعد المطففين على الأرجح، وبلغ عدد آياتها عند أهل المدينة ومكة والشام 285، وعند أهل الكوفة 286، وعند أهل البصرة 287،[٢] وترتيبها في المصحف الثانية بعد الفاتحة، وفي هذه السورة آية يقول فيها تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[٣] سيقف معها هذا المقال بشيء من التفصيل.[٤]
معنى آية: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
تقف هذه الفقرة فيما يأتي مع تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}،[٥] فيحكي أهل التفسير أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لمّا هاجر إلى المدينة المنوّرة بقي زهاء ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا يصلّى وأصحابه قِبَل بيت المقدس، وحينما كان بمكّة كان يصلّي نحو الكعبة الشريفة، وبيت المقدس كان قبلة اليهود في صلاتهم كذلك، فصار اليهود يقولون إنّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- يخالفنا ويستقبل قبلتنا، فثُقَل هذا الكلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل أُمِرَ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- حين هاجر إلى المدينة أن يصلّي تلقاء بيت المقدس ربّما من أجل أن يؤمن اليهود الذين كان عندهم في التوراة أوصاف النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فيكون الإيمان بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- حينها أقرب إليهم وهم والمسلمون يصلّون تجاه قبلة واحدة.[٦]
وقيل إنّ النبي لما رأى اليهود يصلّون تجاه بيت المقدس تمنّى لو يصلّي هو والمسلمون تجاه بيت المقدس، فقال اليهود إنّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- لم يدرِ أين قبلته حتّى دللناه، فكره ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- وصار يرجو الله أن يجعل القبلة إلى المسجد الحرام، قال تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}، وقال المفسّرون إنّ المُراد هو تقليب البصر، ولكنّ الله -تعالى- ذكر الوجه لزيادة الاهتمام، والمقصود بالتقليب هو التحوّل والتّصرّف، فكان يرفع بصره إلى السماء وكأنّه ينتظر الأمر بتحويل القبلة، ثمّ يقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، بمعنى سوف نُوجهك إلى قبلة تحبّها وتهواها وترتضيها، فكان الأمر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، يعني نحو جهة المسجد الحرام، واختلف المفسّرون حول ما إذا كان المقصود نحو الكعبة ذاتها أم نحو المسجد الذي يضمّ الكعبة في أثنائه، وقال الإمام الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ".[٦]
ثمّ يقول تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وهذا الخطاب للمؤمنين عامّة من كان منهم في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، من كان في البر أو البحر، فإنّهم عند الصلاة مأمورون أن يتوجّهوا تلقاء المسجد الحرام، ثمّ يقول تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، فإنّ اليهود لمّا توجّه المسلمون نحو المسجد الحرام ساءهم ذلك، ولكنّهم يعلمون أنّ ذلك كان بأمر من الله تعالى، ولكنّهم كانوا يعاندون ويحبّون أن يجادلوا بغير علم، فجاءهم الجواب أنّهم يعلمون أنّ أمر تحويل القبلة هو بأمر من الله -تعالى- وليس اجتهادًا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويرى الإمام القرطبي أنّ ذلك لم يكن مكتوبًا في كتاب اليهود الذي حرّفوه بأيديهم، ولكنّهم قد علموا بطريقتين: الأولى أنّهم يعلمون أنّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- نبي مُرسل، ولذلك فهم يعلمون أنّ ما يفعله هو محض أوامر إلهية، والطريقة الأخرى أنّ نسخ الأحكام في الشرائع هو أمر معروف عندهم، ولذلك لا يجب أن يستغربوا أمر نسخ القبلة بقبلة جديدة، فهم بذلك يعلمون أنّ تحويل القبلة هو حق، ولذلك ختم الله -تعالى- الآية يقوله: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} على سبيل الوعيد، والله أعلم.[٦]
معاني المفردات في آية: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
بعد الوقوف مع تفسير قوله تعالى للآية الكريمة في سورة البقرة التي تقول: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}،[٧] فإنّ هذه الفقرة تقف مع بيان معاني بعض المفردات فيها لزيادة البيان والإيضاح، وذلك فيما يلي:
- تقلُّب: مأخوذ من القلب الذي هو في اللغة صرف الشيء عن وجهه.[٨]
- قبلة: القبلة هي الجهة التي يستقبلها المرء، ومنه قيل للكعبة قبلة لأنّ المصلّي يستقبلها في الصلاة.[٩]
- شطر: والشطر هو نصف الشيء أو ناحيته أو الجهة وهي المقصودة في الآية.[١٠]
إعراب آية: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
تقف الفقرة فيما يأتي مع قوله تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[١١] بالإعراب التفصيلي:
- قد نرى: قد حرف تحقيق،[١٢] وقيل حرف تكثير،[١٣] ونرى فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره نحن.[١٢]
- تقلّبَ: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٢]
- وجهِكَ: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة، والكاف ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة.[١٢]
- في السماء: جار ومجرور متعلقان بتقلُّب.[١٢]
- فلنولّينّك: الفاء حرف عطف، واللام مؤكّدة للقَسَم، ونولّينّك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد لا محل لها من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول.[١٢]
- قبلةً: مفعول به ثانٍ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٢]
- ترضاها: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف للتعذر، وها ضمير متصل في محل نصب مفعول به.[١٢]
- جملة {نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}: استئنافية لا محل لها من الإعراب.[١٣]
- جملة {نُوَلِّيَنَّ}: جواب قسم مقدّر لا محل لها من الإعراب.[١٣]
- جملة {تَرْضَاهَا}: في محل نصب صفة لقبلة.[١٣]
الثمرات المستفادة من آية: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
إنّ لقراءة القرآن بتدبّر ثمرات كثيرة لا حصر لها يجنيها المؤمن، فمنها تعمّق جذور الإيمان في قلب المؤمن؛ فإنّ المؤمن إذا رأى أنّه لا آية تعارض الأخرى، ورأى ذلك النظم الفريد للكلمات على نحو لا يمكن استبال لفظة مكان أختها فإنّه يزداد إيمانًا ويقينًا أنّه من عند الله تعالى، وكذلك من الثمرات أنّ المؤمن يشعر براحة نفسيّة تُخرجه من الحَيرَة أو القلق النفسي أو ما شابه ذلك ممّا قد يعتري الإنسان، فيجد الإنسان حينها غذاءً لروحه وعقله وفكره، وأيضًا من ثمرات التدبّر أنّ المؤمن يتخلّص من الخرافات الزائفة ويصبح عقله أكثر تفتّحًا من خلال رفده بالحقائق النافعة وإقصاء كلّ أشكال الأساطير والخرافات من دربه؛ فهو إذًا يربّي عقله على عدم الميل مع الأهواء والشبهات،[١٤] وهذه الفقرة تقف ختامًا مع الثمرات المستفادة من قوله تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}،[١٥] ومن ذلك:[١٦]
- إظهار الله -تعالى- محبّته للنبي -عليه الصلاة والسلام- حين ولّاه قبلة يحبّها ويرجوها وهي الكعبة المشرّفة قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.[١٦]
- ظهور كمال أدب النبي -عليه الصلاة والسلام- حين ترك التصريح بما يعتلج صدره من حنين للبيت الحرام، فاكتفى برفع بصره من دون أن يطلب ما يريد، وهذا غاية الأدب وكماله.[١٦]
- العلم بأنّ وعيد القادر فيه تحقيق لعقاب المجرم، والعلم كذلك بأنّ هذا الوعيد للكافرين هو وعدُ خيرٍ للمؤمنين بأنّهم سيُجزون أحسن الجزاء بامتثالهم الأوامر الإلهيّة، والله أعلم.[١٦]
المراجع
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، الصفحة أو الرقم:808، حديث صحيح.
- ↑ "التحرير والتنوير - سورة البقرة"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-18. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:144
- ↑ "سورة البقرة"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-18. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:144
- ^ أ ب ت "تفاسير الآية 144 من سورة البقرة"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-18. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:144
- ↑ "تعريف و معنى تقلب في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى قبلة في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى شطر في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:144
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (البقرة - 144)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.
- ↑ "ثمرات تدبر القرآن"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-22. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:144
- ^ أ ب ت ث "الحاوي في تفسير القرآن الكريم"، www.al-eman.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-19. بتصرّف.