محتويات
سورة المؤمنون
سورة المؤمنون من السور المكيّة باتّفاق أهل العلم، وترتيبها من حيث النزول السادس والسبعون، تُسمّى سورة المؤمنون وسورة المؤمنين، فأمّا اسم المؤمنون فهو على الحكاية من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}،[١] وأمّا اسم المؤمنين فهو من إضافة السورة إلى المؤمنين، وقد ورد هذا الاسم في حديث عن عبد الله بن السائب -رضي الله عنه- إذ قال: "حضَرْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الفتحِ وصلَّى في الكعبةِ فخلَع نعلَيْه فوضَعهما عن يسارِه ثمَّ افتتح سورةَ المؤمنينَ فلمَّا بلَغ ذِكْرَ عيسى أو موسى أخَذَته سَعلةٌ فركَع"،[٢] وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الطور وقبل سورة المُلك، وآياتها 117 آية عند الجمهور، و118 آية عند أهل الكوفة،[٣] وترتيبها في المصحف الثالث والعشرون تقع بين سورتي الحج والنور، وقد وردت في هذه السورة آية كريمة يقول فيها تعالى: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}[٤] سيقف معها هذا المقال بالشرح والتفصيل وبيان معاني بعض المفردات ثم إعرابها.[٥]
معنى آية: لا تجأروا اليوم، بالشرح التفصيلي
تقف هذه الفقرة مع تفسير قوله تعالى: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}،[٦] وهذه الآية تكملة لما جاء قبلها من حديث على الكافرين، فيقول تعالى فيما سبق هذه الآية من آيات: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}،[٧] فالآيات هنا تتحدّث على المشركين والكفّار من أهل مكّة كون هذه السورة قد نزلت في مكّة قبل الهجرة النبويّة كما مرّ آنفًا، فيقول تعالى معرّضًا بالكافرين إنّ قلوبهم في غمرة منالقرآن الكريم على أرجح الأقوال، والغمرة هي الغفلة والتعمية والغطاء الذي يكسو القلب فيحول بينه وبين إدراكه الحق، وذلك قريب من قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}،[٨] فهؤلاء غير أنّهم قد سقطوا في الغفلة فهم أيضًا لا بدّ أن يعملوا أعمالًا أخرى كفريّة قد سبق القول عليهم أنّهم عاملوها لا محالة، فالكتاب قد كتبهم مع أهل الشقاء والعياذ بالله، وقد روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّه قال: "فوالذي لا إلَه غيرُه إنَّ أحدَكم ليعملُ عملَ أهلِ الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلّا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ"،[٩] وقيل المقصود إنّ الكافرين يعملون أعمالًا غير أعمال المؤمنين وهذه الأعمال ستوردهم النار، والمعنيان متقاربان والله أعلم.[١٠]
ثمّ تحكي الآية الثانية شعور كبار المشركين وهم في العذاب، فيقول تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}،[١١] فالمترفين هم سادة القوم ومنعّميهم الذين لم يعانوا العذاب يومًا، فإذا مسّهم العذاب استصرخوا واستغاثوا، وذلك قريب من قوله تعالى في سورة المزمل عن عذاب أولي النعمة وهم المترفين من كلّ قوم: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}،[١٢] وأيضًا قوله تعالى يصف مناداة القوم وهم في العذاب في سورة ص إذ قال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}،[١٣] وقال أهل التفسير إنّ العذاب هنا هو عذاب الآخرة في النار، وهو قول أكثر المفسّرين، وقال بعضهم العذاب هنا هو عذاب المشركين بسيوف المسلمين يوم بدر، وهذا القول نقله بعض السلف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقيل هو الجوع الذي دعا به رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على بعض أحياء العرب؛ فقد ثبت في صحيح البخاري أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد دعا على بعض أحياء العرب -وهم مُضَر- فقال: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأَتَكَ علَى مُضَرَ واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"،[١٤] فابتلاهم الله -تعالى- بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والكلاب، وقيل إنّ الجؤار هنا هو رفع الصوت كما يرفع الثور صوته عندما يصيح، والله أعلم.[١٥]
ثمّ يقول تعالى في الآية التي تليها: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}،[١٦] أي لا تصرخوا ولا تستغيثوا فإنّه لا ناصر لكم من دون الله تعالى، وقال ابن عاشور -رضي الله عنه- إنّ تخصيص الكبراء والمترفين بالعذاب مع أنّه عامّ لجميع الكفرة هو أنّ المترفين هم سبب إضلال العامّة؛ إذ لولا نفوذهم وسلطتهم عليهم لاتّبعت العامّة طريق الحق، فالعامة إذا تبيّن لها الحقّ اتّبعته، وذلك لسلامة العامّة من أهواء الكبراء والمترفين كالتكبّر والخوف من زوال نعيم السيادة وغير ذلك، وذلك قريب من قوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}،[١٧] والكبراء والمترفين هم أشد الناس شعورًا بالعذاب بسبب حياة الرفاهية التي كانوا يحيونها، ولأنّهم لم يعتادوا الآلام ونحوها من الأمور التي كان يشعر بها دهماء القوم وسوادهم، طبعًا مع الفارق الكبير بين العذاب والآلام الدنيويّة وبين عذاب الآخرة وآلامه، ومع ذلك فالعذاب يشمل الجميع ولكن قد خُصّص المترفين بالذكر لما سبق تبيينه، والله أعلم.[١٨]
معاني المفردات في آية: لا تجأروا اليوم
بعد الوقوف مع تفسير الآية الكريمة فإنّ هذه الفقرة تقف فيما يأتي مع تبيين معاني المفردات في قوله تعالى في الآية الكريمة من سورة المؤمنون: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}؛ وذلك من أجل زيادة الإيضاح والبيان أكثر عن معنى الآية:
- تجأروا: يقولون جأر الرجل يجأر جأرًا وجؤارًا إذا رفع صوته بتضرّع واستغاثة، وقيل هو رفع الصوت في الدعاء بدليل حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في صحيح مسلم الذي يقول فيه حين مرّ بوادي الأزرق: "كَأَنِّي أنْظُرُ إلى مُوسَى عليه السَّلامُ هابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتَّلْبِيَةِ"،[١٩] ويقول كذلك في حديث آخر يرويه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه: "لو تعلمون ما أعلمُ لبكيتُم كثيرًا ولضحكتُم قليلًا، ولخرجتُم إلى الصُّعُداتِ تجْأرون إلى اللهِ تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنْجون"،[٢٠] وقيل هو الجزع والصراخ، والله أعلم.[٢١]
- اليوم: اليوم هو مقدار معروف من طلوع الشمس إلى غروبها، وجمعه أيّام، وقيل إنّ أصله أيوام فأدغمت الواو، وورد لفظ الأيّام في القرآن بمعنى النِّعَم كما ذهب بعض من المفسرين وأهل اللغة، وذلك في قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}،[٢٢] والله أعلم.[٢٣]
- تُنصرون: النصر هو التأييد والغلبة لطرف على آخر، والمقصود هنا إنّه لن يستطيع أحد إخراجهم من العذاب مهما استغاثوا.[٢٤]
إعراب آية: لا تجأروا اليوم
إنّ معنى الإعراب في اللغة يعني التبيين والإيضاح،[٢٥] وهو تحديد هويّة كلّ كلمة في الكلام من حيث مهمّتها التي تؤدّيها في الكلام، فحين يُقال محلّ الكلمة من الإعراب فالمقصود حينها هو مهمتها التي ينبغي لها تأديتها في الكلام،[٢٦] وفيما يأتي تقف هذه الفقرة مع إعراب قوله تعالى في الآية الكريمة من سورة المؤمنون: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}، زيادة في البيان والإيضاح:
- لا: نا هية جازمة.[١٨]
- تجأروا: فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون من آخره لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل.[١٨]
- اليوم: مفعول فيه ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة متعلّق بالفعل تجأروا.[١٨]
- إنّكم: إنّ حرف مشبّه بالفعل، والكاف ضمير متصل مبني في محل نصب اسمه، والميم للجمع.[١٨]
- منّا: من حرف جر، ونا ضمير متصل مبني في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلقان بالفعل التالي لهما "تنصرون".[١٨]
- لا: نافية.[١٨]
- تُنصرون: فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو ضمير متصل مبني في محل رفع نائب فاعل.[١٨]
- جملة {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ}: في محل نصب مقول القول لقول مقدّر.[٢٧]
- جملة {إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}: تعليلية لا محل لها من الإعراب.[٢٧]
- جملة {تُنصَرُونَ}: في محل رفع خبر إنّ.[٢٧]
الثمرات المستفادة من آية: لا تجأروا اليوم
بعد أن تمَّ الحديث عن تفسير قوله تعالى لا تجأروا اليوم بالاستناد إلى أقوال أهل التفسير والتأويل لا بدَّ من النظر إلى الآية بعين الباحث عن الثمرات والعبر، وسيكون ذلك فيما يأتي:
- إنَّ من يُعاني من أهوال يوم القيامة وعذاب الدَّار الآخرة يبحث عن نصيرٍ له ويستصرخ من يُنقذه من عذاب الله تعالى، ولكن لا مجيب إلا الله في ذلك اليوم.[٢٨]
- إنَّ الله تعالى لا ينصر في الآخرة إلا من قد نصره في الدنيا من الأنبياء والرسل والعباد الصالحين، ونصر الله في الدنيا يكون باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه.[٢٨]
- دائمًا ما يبحث الإنسان عن نجاته في الظروف الحالكة ويستغيث بالله ويستنصره، وذلك شأن الكافرين الذين كذبوا رسول الله في دار الدنيا.[٢٩]
المراجع
- ↑ سورة المؤمنون، آية:1
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبد الله بن السائب، الصفحة أو الرقم:2189، أخرج ابن حبان هذا الحديث في صحيحه.
- ↑ "التحرير والتنوير - سورة المؤمنين"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ سورة المؤمنون، آية:65
- ↑ "سورة المؤمنون"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ سورة المؤمنون، آية:65
- ↑ سورة المؤمنون، آية:63-64
- ↑ سورة الإسراء، آية:45-46
- ↑ رواه الألباني، في تخريج كتاب السنة، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:175، الحديث إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- ↑ "تفاسير الآية 63 من سورة المؤمنون"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ سورة المؤمنون، آية:64
- ↑ سورة المزمل، آية:11-12-13
- ↑ سورة ص، آية:3
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:804، حديث صحيح.
- ↑ "تفاسير الآية 64 من سورة المؤمنون"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ سورة المؤمنون، آية:65
- ↑ سورة الأحزاب، آية:67-68
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د "لَا تَجْـَٔرُواْ ٱلْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (المؤمنون - 65)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:166، حديث صحيح.
- ↑ رواه السيوطي، في الجامع الصغير، عن أبي الدرداء، الصفحة أو الرقم:7420، حديث صحيح.
- ↑ "تعريف و معنى يجأر في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ سورة إبراهيم، آية:5
- ↑ "تعريف و معنى يوم في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى ينصر في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الإعراب في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ "ما هو الإعراب"، www.arageek.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ^ أ ب "تفسير السورة (المؤمنون)"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
- ↑ "تفسير الربع الثاني من سورة المؤمنون"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.