محتويات
سورة المائدة
سورة المائدة سورة مدنية وهي من السبع الطوال حيث إنّ عدد آياتها 120 آية، وهي السورة الخامسة في ترتيب سور المصحف، وقد نزلت بعد سورة الفتح، وبدأها الله بخطاب موجّه للمؤمنين، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}،[١] وهي من آواخر السور نزولًا،[٢] وقد قالت السيدة عائشة أنّ المائدة هي آخر ما نزل من القرآن، وهي من أجمع سور القرآن لفروع الشريعة فقد ذُكر فيها كثير من الأحكام، وتدور موضوعاتها حول التأكيد على حفظ العهود والوفاء بها، بالإضافة إلى الحديث عن علاقة المسلمين فيما بينهم وعلاقتهم بالآخرين، كما تمّ بيان حكم الكثير من الأفعال وتحديد هل هي محرّمة أم مباحة إلى غير ذلك، ومن هذه الأحكام ما يتعلّق بالصيد والذبائح، وسيتناول هذا المقال معنى آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.[٣]
معنى آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
اهتمّت سورة المائدة بتقرير العقيدة الصحيحة وبيّنت أنّ توحيد الله هو المنهج الوحيد المستقيم الذي ليس فيه انحراف أو ابتداع، كما ذمّت التمسّك بالعقائد الفاسدة اتباعًا لأمر الآباء والأجداد وفعل أفعالهم بدون بصيرة أو تفكير، ومن هذه المعتقدات ما كان يفعله أهل الجاهلية بالأنعام من إبلٍ وبقرٍ وشياه، حيث قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}،[٤] ومعنى هذه الآية أنّ الله تعالى لم يأذن ولم يُشرّع شيء من هذه البدع والجهالات التي كان يفعلها الكفار وأهل الجاهلية بالأنعام والحيوانات التي خُلقت لأجل الانتفاع بها.[٥]
وقد أورد البخاري في صحيحه أثرًا عن سعيد بن المسيّب يذكر فيه معنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام: "قالَ: البَحِيرَةُ: الَّتي يُمْنَعُ دَرُّها لِلطَّواغِيتِ، فلا يَحْلُبُها أحَدٌ مِنَ النَّاسِ، والسَّائِبَةُ: كانُوا يُسَيِّبُونَها لِآلِهَتِهِمْ لا يُحْمَلُ عليها شيءٌ قالَ: وقالَ أبو هُرَيْرَةَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ عامِرٍ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، كانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ والوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ البِكْرُ، تُبَكِّرُ في أوَّلِ نِتاجِ الإبِلِ، ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بأُنْثَى، وكانُوا يُسَيِّبُونَها لِطَواغِيتِهِمْ، إنْ وصَلَتْ إحْداهُما بالأُخْرَى ليسَ بيْنَهُما ذَكَرٌ، والحامِ: فَحْلُ الإبِلِ يَضْرِبُ الضِّرابَ المَعْدُودَ، فإذا قَضَى ضِرابَهُ ودَعُوهُ لِلطَّواغِيتِ، وأَعْفَوْهُ مِنَ الحَمْلِ، فَلَمْ يُحْمَلْ عليه شيءٌ وسَمَّوْهُ الحامِيَ"،[٦] وعن هذا الحديث يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري أنّ الأثر موقوف على سعيد بن المسيّب وهو من كلامه ما عدا ما رواه عن أبي هريرة من قول رسول الله أنّ عمرو الخزاعي هو أول من سيّب السوائب.[٧]
وممّن شرح معاني البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ابن الجوزي في كتابه تبليس إبليس، حيث قال: البحيرة هي الناقة التي تلد خمسة أبطن فإذا كان الخامس أنثى شقوا أذنها وُحرّمت على النساء، والسائبة هي التي كانوا يسيبونها من الأنعام فلا يركبونها ولا يحلبون لبنها، والوصيلة هي الشاة التي تلد سبعة أبطن فإذا كان السابع ذكرًا أو أنثى فيقولون وصلت أخاها فلا تُذبح وينتفع بها الرجال دونًا عن النساء، وإذا ماتت أكلوا منها جميعًا، والحام هو الفحل الذي يُنتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيُسيبونه للأصنام ولا يحملون عليه، ويعلّق ابن الجوزي على هذا بأنّهم ينسبون فعلهم هذا إلى أمر الله فيقولون أنّ الله تعالى أمرهم بهذا، وهم بذلك مفترون وكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم.[٨]
كما قال الطبري أنّ الله تعالى يقول في هذه الآية أنّه سبحانه ما بحر بحيرة ولا سيّب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حاميًا، وأنّ هذا من فعل الكفار وتحريمهم على أنفسهم افتراءً على الله تعالى، كما ذكر أنّ البحيرة هي الشاة التي تُقطع آذانها ويُمنع ذبحها وتُحرّم، والسائبة هي المسيّبة المخلّاة، حيث كانوا يعمدون إلى بعض مواشيهم فيحرّمون الانتفاع بها على أنفسهم، أمّا الوصيلة فهي التي تكون مع ذكر في بطنٍ واحد من الأنعام فيُقال: "قد وصلت أخاها"، أي: منعت عنه الذبح فتُسمّى وصيلة، والحام هو الفحل من الأنعام يُحمى ظهره من الركوب والحمل عليه لأنّه قد ولد له عدد معين من اللأولاد.[٩]
وقد أورد الطبري الكثير من الآثار التي تشرح وتفسّر معنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، حيث إنّ أهل العلم اختلفوا في صفات هذه المسمّيات على أقوالٍ عدّة، ومن هذه الأقوال ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه قال: البحيرة هي الناقة، حيث كان الرجل إذا ولدت له ناقته خمسة أبطن فيعمد إلى الخامسة إذا كانت أنثى فيقطع آذانها، ولا يجزّ لها وبرًا ولا يذوق لها لبنًا، والسائبة هي ما يُسيّبه الرجل من ماله، والوصيلة هي الشاة التي تلد سبعة أبطن، فيعمد صاحبها إلى البطن السابع فإن كان ذكرًا ذُبح وإن كانت أنثى تُركت، وإن كانا توأم ذكر وأنثى فيُتركان ويُقال: "وصلت أخاها"، والحام هو الفحل الذي يلد له عشرًا فيُقال: "حام فاتركوه".[٩]
والتفسيرات كثيرة جدًا وقد نُقلت بتمامها في تفسير الطبري حيث قال البعض أنّ من هذه الأنعام ما يُترك للضيوف، ومنها ما يُطلق ولا يمنعه أحد من مرعى أو ماء، وقد كان أهل الجاهلية يُحرّمون بعض هذه الأنعام على الإناث ويجعلونها خالصةً للذكور فإن كان ميتة فيشركون الإناث في أكلها،[٩] وقد أورد ابن حجر عند شرحه لحديث ابن المسيّب الكثير من أقوال أهل العلم في هذه المسألة وقال أنّ البعض قالوا بأنّهم كانوا يحلبون هذه الأنعام ولكنّهم لا يشربون لبنها، حيث كانت من عادات الجاهلية أنّه إذا قدم الرجل من سفر أو شفاه الله من مرض أن يُقدّم هذه الأنعام بهذه الطريقة من باب النذر والتقرّب إلى الأصنام والآلهة التي كانوا يظنّون أنّها تملك الضر والنفع.[٧]
معاني المفردات في آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
المعاني اللغوية للمفردات والتراكيب القرآنية هي الأساس الذي يستند ويقوم عليه علم التفسير، فلولا معرفة المفسّر بأصل الكلمة وعلامَ تدل وعلى أيّ شيء تُطلق لم يستطع أن يُفسرها في السياق الذي وجدت فيه في القرآن الكريم ويبين دلالة استعمالها في الآيات، وفيما يأتي بيانٌ لمعاني المفردات في آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام:
- ما: حرف نفي.[١٠]
- جعل الله: بمعنى خلق وانشأ وصيّر واتخذ، وفي هذه الآية بمعنى شَرَع.[١١]
- من: حرف جر يُفيد التبعيض.[١٢]
- بحيرة: من البحر وهو الشق أو الخرق، حيث كانوا يشقّون أذن الناقة الموهوبة للطواغيت.[١٣]
- سائبة: من السيب وهو الجريان والترك، حيث كانوا يتركون المواشي الأنعام المسمّاة بالسائبة تسرح في المراعي ولا تُمنع عن ماءٍ وطعام.[١٤]
- وصيلة: من الوصل والاتصال وهو ضد الانفصال، حيث إنّ الوصيلة تكون أنثى مع ذكر بنفس البطن فتوصله وتمنع ذبحه، وغير ذلك من التفسيرات التي فيها معنى الاتصال.[١٥]
- حام: من الحماية وهو الفحل الذي لا يُركب على ظهره ولا يُحمل عليه، إذا أنتج عشرة أبطن من صلبه أو لقح ولد ولده.[١٦]
إعراب آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
إنّ الإعراب هو علم مبني على معنى الكلمة ومحلّها في الجملة، فإدراك معنى الكلمة يبيّن موقعها الإعرابي، وقد يكون للمفردة الواحدة أكثر من إعراب بوقتٍ واحد، فتكون مجرورة لفظًا ومنصوبة محلًا، وسيتبيّن ذلك من خلال إعراب آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام:[١٧]
- ما: حرف نفي.
- جعل: فعل ماض.
- الله: لفظ الجلالة فاعل مرفوع.
- من بحيرة: من حرف جر زائد، بحيرة مجرور لفظًا منصوب محلًّا على أنّه مفعول به.
- ولا سائبة: الواو حرف عطف، لا: زائدة للتوكيد، سائبة معطوفة على بحيرة تُعرب مثلها.
- ولا وصيلة: الواو حرف عطف، لا: زائدة للتوكيد، وصيلة معطوفة على بحيرة تُعرب مثلها.
- ولا حام: الواو حرف عطف، لا: زائدة للتوكيد، حام اسم معطوف على بحيرة مجرور لفظًا، والكسرة مقدرّة على الياء المحذوفة، منصوب محلًّا على أنّه مفعول به.
- جملة "ما جعل الله": استئنافية لا محل لها من الإعراب.
الثمرات المستفادة من آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
سورة المائدة هي سورة مليئة بالأحكام الشرعية والتأمل في آياتها والتبحّر في معانيها يورث العلم والفهم ويعطي الكثير من الفوائد والثمرات، فكل آية فيها متضمنّة لأحكام قد لا توجد في السور الأخرى، وفيما يأتي ذكر لبعض الثمرات المستفادة من آية: ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام:
- فعل الجاهلية في ترك المواشي تسرح ووهبها للآلهة شبيه بفعل أهل الإسلام في ترك العبيد لوجه الله تعالى، ولكنّ الأسلوب والغاية جعلت من الفعل الأول محرّمًا ومن الثاني مرغوبًا به.[٩]
- المرأة في الجاهلية كانت تعدّ دون الرجل حيث إنّها لا تُشاركه إلّا في أكل الميتة من الأنواع المذكورة في الآية.[٩]
- الخطاب القرآني في غاية الإقناع حيث بيّن الله تعالى للكفّار أنّ حجتهم واهية في كون هذه الأنعام محرّمة على الإناث دون الذكور.[٨]
- ذكر القرآن الكريم هذه الأصناف بدون تحديد للمعنى الذي اختلف فيه أهل التأويل على أقوالٍ متقاربة، فالغاية ليست معرفة ما هي البحيرة على وجه الدقة وإنّما الابتعاد عن الأفعال المشابهة لأفعال الجاهلية والتزام الدليل في هذه الأمور.[٩]
- الهوى والعناد والتمسك بالموروثات البالية قد يجر الإنسان إلى المهالك كما فعل أهل الجاهلية من التمسك بالأصنام والتقرّب لها اتباعًا لمنهج آبائهم.[٥]
- الله تعالى لا يرضى لعباده إلّا كل طيب ويجنّبهم كل خبيث ولكن اتباع خطوات الشيطان يُصوّر الخبيث على أنّه طيّب وحسن.[٥]
- في استعمال "لا" النافية بشكل متكرر في الآية الكريمة دلالة على الإغراق في النفي وتوكيد له.[٥]
المراجع
- ↑ سورة المائدة، آية:1
- ↑ "سورة المائدة"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "موسوعة التفسير"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية:103
- ^ أ ب ت ث "سُورةُ المائِدَةِ"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:4623، حديث صحيح.
- ^ أ ب "كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ^ أ ب "تفسير: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام،"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح "تفسير الطبري"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى ما في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى جعل في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى من في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "معنى بَحِيرَةٍ في القرآن الكريم"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "معنى سَائِبَةٍ في القرآن الكريم"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "معنى وَصِيلَةٍ في القرآن الكريم"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "معنى حَامٍ في القرآن الكريم"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.
- ↑ "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-15. بتصرّف.