محتويات
سورة النحل
سورة النحل هي سورة مكية وفقًا لرأي جمهور العلماء، إلّا ثلاث آياتٍ فيها وهي من قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}،[١] إلى آخر السورة، حيث نزلت هذه الآيات بعد عودة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من غزوة أحد وعزمه على التمثيل بسبعين من المشركين كما فعلوا بحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد قال ابن عاشور أنّ آيات هذه السورة تدلّ على أنّ منها ما هو مدني ومنها ما هو مكي، وعدد آياتها 128 آية، ونزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة السجدة وتُعد السورة الثانية والسبعين في ترتيب النزول، وسُميّت بهذا الاسم لأنّ لفظ النحل لم يرد في غيرها من السور، وروي عن قتادة أنّه كان يُسميّها بسورة النعم، وفسّر ابن عطية سبب هذه التسمية بكثرة ما تضمنته سورة النحل من ذكر لنعم الله على عباده، وسيبيّن هذا المقال معنى آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم، بالشرح التفصيلي.[٢]
معنى آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم، بالشرح التفصيلي
حاجج الأنبياء أقوامهم وبيّنوا لهم ما هو كائن بعد البعث وأيّدهم الله بالمعجزات الدالّة على صدقهم، ولكنّ معاندي الرسل كثُر ومنكري البعث والجزاء موجودين في كل زمان، وقد قال تعالى في سورة النحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ۚ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}،[٣] وقد قال الطبري عند تفسيره لهذه الآية، أنّ كفار قريش قد حلفوا جهد أيمانهم بأنّ الله تعالى لن يبعث من يموت بعد مماته، وإيمانهم هذه رغم شدتها إلّا أنّها باطلة وكاذبة لأنّ الله تعالى سيبعث الموتى وهذا وعدٌ عليه وهو لا يخلف الميعاد ولكنّ كفار قريش لا يعلمون بهذا الوعد بأنّ الله باعثهم يوم القيامة ويحلفون على نفي هذا البعث.[٤]
تفسير الطبري
وقد نقل الطبري أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية، حيث قال قتادة أنّهم حلفوا الأيمان تكذيبًا بأمر الله، فالناس انقسموا في شأن البعث بعد الموت إلى فريقين فمنهم من صدّق بهم ومنهم من كذّب، وفي الأثر أنّ رجلًا قال لابن عباس رضي الله عنهما: أنّ أناسًا يزعمون أنّ عليًّا مبعوث قبل يوم القيامة، ويستدلّون بهذه الآية، فقال ابن عباس: كذب أولئك، إنّما هذه الآية للناس عامّة، ولعمري لو كان عليٌّ مبعوثًا قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، وقيل في سبب نزولها، أنّ رجلًا من أصحاب النبي حلف عند رجل من المكذبين، فقال: والذي يُرسل الروح بعد الموت، فقال: وإنّك لتزعم أنّك مبعوث من بعد الموت، وأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت.[٤]
تفسير السعدي
وقد قال السعدي أنّ الله تعالى يُخبر في هذه الآية عن المشركين المكذبين للرسول الكريم، أنّهم حلفوا أيمانًا مؤكدة ومُغلّظة أنّ الله تعالى لا يبعث الأحياء مكذبين الله تعالى وناسبين إليه العجز عن إعادة الإحياء، ولكنّ الله تعالى كذبّهم ونفى مقالتهم وذكر أنّ الإحياء بعد الموت هو وعد الله الذي لن يخلفه، ومقالة هؤلاء ناجمة عن جهلهم العظيم وإنكارهم للبعث والجزاء، وفي الوسيط للطنطاوي أنّ هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}،[٥] وفي هذا دليل أنّهم جمعوا بين إنكار التوحيد وإنكار البعث بعد الموت.[٦]
تفسير الوسيط
وفي الوسيط أيضًا أنّ القسم هو الحلف، وسُمّي كذلك لأنّه يكون عند انقسام الناس ما بين مصدّق ومكذّب، والجهد بفتح الجيم هو المشقة، والمراد بقوله: جهد أيمانهم، أنّهم أكّدوا الأيمان ووثّقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق، على نفي وجود الحساب والجزاء بعد الموت، وذلك لأنّهم يزعمون أنّ إعادة الميّت إلى الحياة بعد أن صار عظامًا نخرة وترابًا هو أمر مستحيل، ووجه تأكيد ذلك بالقسم والحلف دلالة على يقينهم من قولهم هذا ومن صحة دعواهم، وقد قال ابن كثير أنّ الله تعالى يحكي عن المشركين بأنّهم أقسموا واجتهدوا في الحلف وغلّظوا الأيمان على أنّ الله تعالى لن يبعث أحدًا بعد أن يموت، وقد أخبر سبحانه أنّهم لجهلهم خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر.[٦]
تفسير الرازي
وقد قال الرازي أنّ في إنكارهم للبعث هذا يؤدّي إلى إنكار النبوة، فالرسول يُخبر بالجزاء بعد الموت ويُحذّر الناس من ارتكاب المحرّمات ويُخوّفهم النار ويُرغبّهم بالجنّة، وهذا لا يكون إلّا إذا كان هناك بعث بعد الموت، ففي معتقدهم أنّ الإنسان ليس هو إلّا هذا الجسد وإن فني وذهب فيستحيل أن يعود كما كان وإن عاد فإنّه سيكون شيئًا آخر غير الإنسان الأول، وقد أنكروا البعث وهو من العلم الضروري بقلوبهم وعقولهم كما أخبر عنهم القرآن، ولكنّ الله تعالى هو الذي أوجد الأشياء أول مرة وهو القادر على أن يُحييها ويوجدها مرّة أخرى، والبعث والحشر والنشر حاصل لا محالة وما التكذيب بهذا إلّا من باب إعمال العقل القاصر عن إدراك هذه الحقائق التي لم يسبق للإنسان أن رآها بعينه المجرّدة، ولكنّ عدم الرؤية لا ينفي إمكانية الحدوث وإنّما هو جهلٌ وعناد، فالله سيبعثهم ويبيّن لهم كيفية البعث ويظهر لهم كذب أيمانهم التي حلفوها.[٧]
ومن الأحاديث ذات المعنى القريب من هذه الآية، الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "قالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ له ذلكَ، وشَتَمَنِي ولَمْ يَكُنْ له ذلكَ، فأمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كما بَدَأَنِي، وليسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ مِن إعادَتِهِ، وأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ ألِدْ ولَمْ أُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لي كُفْئًا أحَدٌ"،[٨] وقد قال ابن حجر في فتح الباري أنّ الراغب الأصفهاني قد قال بأنّ القسم هو الحلف، وأصله القسامة وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثمّ استُعمل في كلّ حلف، ومعنى التركيب "جهد أيمانهم" أي أبلغ ما في وسعهم، وقال البعض أنّ المعنى أنّ الحلف بالله هو أكبر الأيمان لأنّ الجهد هو أكبر المشقّة، ولكنّ ابن حجر قد رجّح قول الراغب.[٩]
معاني المفردات في آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم
جاء قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم، في غير ما موضع من القرآن الكريم، حيث ورد في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة النور وسورة فاطر، وفيما يأتي بيان لمعاني مفردات هذه الآية الكريمة بشكل واضح ومفصّل:
- أقسموا: أي حلفوا اليمين، واليمين تكون بالله تعالى وبغيره.[١٠]
- جهد: الطاقة والشقة، والوصول في الأمر إلى غايته ومنتهاه.[١١]
- أيمانهم: جمع يمين وهو القَسَم،[١٢] ومعنى التركيب "جهد أيمانهم" أي: أغلظها وأوكدها وأوثقها.[١١]
إعراب آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم
الإعراب من أعرب أي أفصح، وإعراب الكلمات والجمل يعني بيان ماهية الكلمة وموقعها هل هي فاعل أم مفعول به، وغير ذلك، وإعراب القرآن هو العلم الذي يعنى بدراسة المواقع الإعرابية لكلمات الآيات القرآنية وجملها، وفيما يأتي إعراب آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم:[١٣]
- وأقسموا: الواو استئنافية، أقسموا: فعل ماض، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل.
- بالله: الباء حرف جر، لفظ الجلالة اسم مجرور، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل "أقسموا".
- جهد: مفعول مطلق نائب عن المصد فهو مبيّن لنوعه.
- أيمانهم: أيمان: مضاف إليه مجرور، هم: ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
- جملة "أقسموا": جملة استئنافية لا محلّ لها من الإعراب.
الثمرات المستفادة من آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم
الثمرات المستفادة من الآيات هي الفوائد والحكم المستخلصة من الآية الكريمة التي تدلّ عليها إشارة النص ويتم استنباطها من خلال التدبّر والتأمل في الآيات، بعد فهم تفسيرها ومعرفة معانيها، وقد تمّ الحديث عن معنى آية: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم، وفيما يأتي ذكرٌ لبعض الثمرات المستفادة منها:
- اشتراط التصديق بناءً على الرؤية والإدراك العقلي هو من القصور، فالكفّار لمّا لم تمكنّهم عقولهم من تصوّر إعادة إحياء الأجساد بعد فنائها في الأرض أرداهم إلى الجحيم وأبقاهم في الضلال، ومن عنادهم حلفوا على هذا بكل يقين وتصديق.[١٤]
- في قوله تعالى: ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، دليل أنّ أكثر الناس وقتئذ هم المشركون، وفيه ثناء ومديح للفئة القليلة، لأنّه إذا كان الأكثرون مكذبين فإنّ الأقلين مصدّقين.[١٥]
- حملت الآية تعجّب واستنكار من أمر المشركين المكذبين، فهم يحلفون بالله ويعظّمونه ولكنّهم ينسبون إليه العجز وعدم القدرة على البعث وإحياء الخلق مرة أخرى، وهو الذي أوجدهم من العدم.[٦]
المراجع
- ↑ سورة النحل، آية:126
- ↑ "التحرير والتنوير"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:38
- ^ أ ب "تفسير الطبري"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:35
- ^ أ ب ت "(النحل - 38)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "مفاتيح الغيب"، tafsir.app، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-29. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:4974، حديث صحيح.
- ↑ "كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-29. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى ٌأقسموا في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ^ أ ب "تعريف و معنى جهد في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى أيمان في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "سورةُ النَّحلِ"، dorar.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-29. بتصرّف.
- ↑ "قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-29. بتصرّف.