معنى آية واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، بالشرح التفصيلي

كتابة:
معنى آية واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، بالشرح التفصيلي

سورة هود

واحدةٌ من السُّور المكيَّة -التي نزلت في مكة الكرمة- عدا ثلاث آيات منها -وهم الآية الثانية عشر والسابعة عشر والمئة والرابعة عشر- فهي مدينة، وتقع السُّورة في الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم، وبلغ عدد آياتها مئة وثلاث وعشرون آية، وبدأت السُّورة بحروف مقطَّعة شأنها شأن العديد من السُّور الأخرى، وسُمِّيت على اسم نبي الله هود -عليه السلام- وهو النَّبي الذي أرسله الله -تعالى- لقوم عاد، وقد ورد في تلك السُّورة "أن رجلًا قال: يا رسولَ الله قد شِبتَ، قال: شيَّبتني هودٌ وأخواتُها"،[١] ونزلت السُّورة بعد سورة يونس ورقمها أحد عشر في ترتيب سور القرآن الكريم، وقد ورد في السُّورة ذكرٌ للعديد من قصص أنبياء الله -تعالى- وحالهم مع أقوامهم، ومن بين الآيات التي وردت في السُّورة قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}،[٢] وسيتم الوقوف في هذا المقال على تفسير الآية وشرحها شرحًا تفصيليًّا بالاستناد إلى أقوال أهل التفسير والتأويل، وفيما يأتي سيكون ذلك.[٣]


معنى آية: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، بالشرح التفصيلي

إنَّ دأب الأنبياء مُذ خلق الله الأرض ومن عليها دعوة أقوامهم إلى توحيد الله ونبذ الأصنام وغيرها من مظاهر الشرك، وتعرَّض كلُّ نبيٍّ لألوان العذاب من قومه؛ فمنهم من قد آمن ومنهم قد كفر، ومن بين الأنبياء كان نبيُّ الله نوح -عليه السلام- الذي اشتغل في دعوة قومه حتَّى أوحى الله إليه أنَّه لن يُؤمن من قومك إلا من قد آمن منهم، وورد عن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه لما أوحى الله بذلك إلى نبيِّه نوح انقطع أمله من إيمان قومه فدعا عليهم {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}،[٤] وحُقَّ أمرُ الله بإغراق القوم الكافرين وإنجاء المؤمنين، فأوحى الله إلى نوح بصناعة الفلك {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}،[٥] وكان الفلك غير معروف في ذلك العصر، فسأل نوح ربه عن الفلك فأجابه بأنَّه بيتٌ من الخشب يسير على سطح الماء، فلمَّا سأل نوحٌ أين الماء؟ أجابه الله بأنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.[٦]

فكان نوحٌ -عليه السَّلام- هو أوَّل من صنع الفلك إذ لم يكن معروفًا في ذلك الوقت، وتُستخدم كلمة "الفلك" للمفرد والجمع على حدٍّ سواء، وقد قال تعالى {بأعيننا}، كناية عن حفظ الله ومراقبته لنوح من أن يقع في أيِّ خطأ عند صناعة الفلك،[٧] وأمَّا الفلك فهو السَّفينة كما ورد عن مجاهد، وقد قال ابن عبَّاس في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، أي أنَّ نوح لم يعلم كيفية صنع السَّفينة؛ إذ إنَّها لم تكن معروفةً في ذلك العصر فأوحى إليه -تبارك وتعالى- أن يصنعها على شكل جؤجؤ الطائر، وقد أفاد مجاهد في معنى قوله {ووحينا}، أي كما نأمرك، وقال قتادة {بأعيننا ووحينا}، أي بعين الله -تعالى- ووحيه.[٨]

وكان أمر الله أن يصنع نوح -عليه السلام- سفينة النَّجاة؛ حتى يركبها مع من آمن بالله -سبحانه- فلا يمسهم ما سيمس القوم من الغرق، وكلُّ ذلك بمرأى من الله -تعالى- وبحفظه وعنايته، قال في ذلك الرَّبيع بن أنس أي سنحفظك حفظ من يراك ويرعاك، قال ابن عبَّاس {بأعيننا}، أي بحراستنا، وقد ورد الجمع في كلمة أعين كنايةً عن العظمة إذ ليس المُراد فيها هو كثرة الأعين، وقيل أنَّ المراد بكلمة بأعيننا أي بأعين الملائكة وبذلك يكون الجمع على هذا الوجه هو جمع تكثير لا جمع تعظيم، وقيل أيضًا بأعيننا؛ أي بعلمنا أو بوحينا أو بمعونته -سبحانه- لنوح على صنعها، وأمَّا كلمة بوحينا أي بما أوحى الله لنوح من كيفية صنع تلك السَّفينة.[٩]


معاني المفردات في آية: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا

إنَّ المعنى هو الفيصل الأول في فهم الكلم، فلا بدَّ لكلِّ باحثٍ متبحِّر في معاني القرآن الكريم أن يصل إلى مبتغاه عن طريق معاجم اللغة العربية التي هي في الأصل ما وُجدت إلا لإزالة الإبهام عن الكلمات، والمعنى هو واحدٌ من صور إعجاز القرآن الكريم إذ جاء مُعجزًا باللفظ والمعنى والتصوير والتشبيه والنظم وغيرها، وستقف هذه الفقرة لتوضيح معنى قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، بالاستناد إلى معجم المعاني في الللغة العربية:

  • اصنع: أي أنشئ، يُقال فلانٌ صنع ذلك الشيء بمهارة أي عمله وأنشأه بنفسه بإتقان، وصُنع الحاجة هو تعهدها وإتقانها وإحسان القيام بها، وقد يُقال فلانٌ أحسن صنع ولده أي أحسن تربيته، وصُنعُ كلُّ شيءٍ هو إيجاده، ويُقال عن العمل مُحكم الصنع إذا كن مشغولًا بإتقان.[١٠]
  • الفلك: معنى كلمة الفلك أي السَّفينة، فيُقال أزجى الله -تعالى- الفُلك أي سيَّرها ومشَّاها وساقها.[١١]
  • بأعيننا: المقصود في كلمة بأعيننا أي برعايتنا وحفظنا وحراستنا وأمرنا وبمرأى منا.[١٢]
  • ووحينا: وأصل الكلمة هو الوحي، أي ما يوحي الله -تعالى- به إلى أنبيائه من الكلام إلى عباده، وأمين الوحي هو المَلَك جبريل عليه السلام.[١٣]


إعراب آية: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا

إنَّ الوصول إلى معرفة وجوه إعجاز القرآن الكريم لا يكون إلا من خلال تعلُّم النحو والإعراب الذي يستطيع المُسلم من خلاله تذوق حلاوة كتاب الله، ولولا ذاك لما كان القرآن مُعجِزًا للعرب برمَّتهم مُذ أنزله الله إلى هذا اليوم، وإن لم يُتقن المرء مفاتيح الإعراب وأصوله فلن يكون إلا كالذي يسمع أنَّ القرآن مُعجزًا ويردد ذلك القول دون الوقوف على مفصليَّاته وتذوق ذلك الإعجاز،[١٤] وبعد أن تمََّ الوقوف على معنى قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، من ناحية التَّفسير والتأويل وشرح المفردات، لا بدَّ من الوقوف مع تلك الآية من ناحية الإعراب، وفيما يأتي سيكون ذلك:[١٥]

  • واصنع: الواو حرف عطف، اصنع فعل أمر مبني على السُّكون الظاهر على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
  • الفلك: مفعول به منصب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
  • بأعيننا: الباء حرف جر، أعيننا اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة، والنا ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة، والجار والمجرور متعلقان بحال من فاعل اصنع .
  • ووحينا: الواور حرف عطف، وحينا: اسم معطوف على أعيننا، والنا ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة.


الثمرات المستفادة من آية: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا

لقد أنزل الله كتابه العزيز رحمةً بالمؤمنين؛ كي يكون دستورًا لهم فيستطيعوا الالتزام بالصراط المستقيم من خلال التَّبصُّر في معانيه وآياته، وقد عمل العلماء على استخلاص الثمرات من آيه -سبحانه- واجتهدوا في ذلك اجتهادًا حثيثًا، فكان لكلِّ عالمٍ وجهته في الاجتهاد والاستنباط والاستخلاص، وبعد أن تمَّ الوقوف مع قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، من خلال التفسير والتأويل وشرح المفردات والإعراب، لا بدَّ من الإشارة إلى بعض الثمرات التي تمَّ الوصول إليها، وفيما يأتي سيكون ذلك:

  • إنّ الداعية لا بدَّ أن يتحلَّى بالصَّبر، فسبيل الدَّعوة إلى الله سبيلٌ شائكٌ معبَّد بالصعوبات غير مكللٍ بالورود، وذلك دأب أنبياء الله -سبحانه- فقد صبر نوحٌ على قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، واستعان بالله في رسالته ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، فآمن من قومه من قد آمن منهم بفضل الله ومنته، وأما الآخرون فقد استحبوا العمى على الهدى والضلال على النور فكان مصيرهم الغرق والعذاب الأليم.[١٦]
  • إنّ الإسلام حضَّ على العمل وأن يكون لكلِّ امرئٍ حرفةً يُتقنها ويعتزّ بها، فالإسلام دين العمل والاجتهاد وإعمار الأرض وليس دين الكسل أو التَّواكل، حيث قال تعالى في سورة التوبة: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}،[١٧] وقد كان لكلِّ نبيٍّ من أنبياء الله حرفةً يعمل بها إلى جانب الدعوة، فقد كان آدم مزارعًا تُساعده حوَّاء في شؤون الزراعة ويصنع الآلات التي تعينه على ذلك، وكان إدريس خيَّاطًا، ونوح نجَّارًا علَّمه الله كيفية صناعة السفن للنجاة فيها.[١٨]
  • إنَّ المُعتصم بحبل الله المُتّكل عليه في شؤون حياته لن يضره أي أذى، وإذا ما تكفَّل الله -سبحانه- بأمرٍ ما فإن أهل الأرض لن تستطيع أن تُضر صاحب الأمر، فقد تكفل الله بسفينة نوح وصناعتها وسيرها، فنجَّى المؤمنين وأغرق الكافرين وكان كلّ شيءٍ بعنايته وحراسته -سبحانه- فراكبو السفينة من عباده الصالحين.[١٩]
  • إنّ القرآن الكريم أشار إلى تاريخ صناعة السفن وأول مرةٍ صُنعت فيها السفينة ومن هو الصَّانع وكيف استدلَّ على صناعتها، فإذا ما أراد الله شيئًا وقال له كن فيكون، وعلَّم نوح صناعتها بناءً على القوانين العلمية التي تحميها من الغرق أو التلف، وفي ذلك بيانٌ الثمرات المستوحاة من قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}.[٢٠]

المراجع

  1. رواه السخاوي، في المقاصد الحسنة، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم:305، رجاله رجال الصحيح.
  2. سورة هود، آية:37
  3. "سورة هود"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  4. سورة نوح، آية:26
  5. سورة هود، آية:37
  6. "كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  7. "التحرير والتنوير سورة هود قوله تعالى واصنع الفلك بأعيننا ووحينا"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  8. "القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة هود - الآية 37"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  9. "القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة هود - الآية 37"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  10. "تعريف و معنى اصنع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  11. "تعريف و معنى الفُلك في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  12. "تعريف و معنى بأعيننا في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  13. "تعريف و معنى الوحي في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  14. "أهمية علم النحو في فهم القرآن"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  15. "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  16. "صبر الداعية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  17. سورة التوبة، آية:105
  18. "الأنبياء والرسل أصحاب مهنة وحرفة"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  19. "أجمل صناعة في الحياة .. تأملات في قوله تعالى: (ولتصنع على عيني) "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
  20. "وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ"، kalemtayeb.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
3055 مشاهدة
للأعلى للسفل
×