محتويات
سورة يوسف
من بين سور القرآن البالغِ عددُها مئةٌ وأربع عشرة سورةً تعدّ سورة يوسف من السّور التي تحمل في طيّاتها قصةً موثّرة؛ وهي قصّة يوسف -عليه السلام- كاملة، وكان ذلك سببَ تسميتها بذلك الاسم، وذلك جانبٌ من جوانب تميّزها؛ فهي تحتوي على قصةٍ كاملة، أمّا باقي القصص فتكون مُجزّأةً بين عدّة سور، وسورةُ يوسف سورةٌ مكيّةٌ نزلت قبل هجرة الرسول من مكّة، وهي السورة الثانية عشرة في القرآن الكريم؛ فتقع بعد سورة هود وقبل سورة الرعد، ويبلغ عدد آياتها مئةً وإحدى عشرة آية، أمّا ترتيبُ نزولها فقد نزلت بعد سورة هود وقبل سورة الحِجر؛ أي: هي السورة الثالثة والخمسون من حيث النزول، وتسرد السورة ما تعرّض له يوسف -عليه السلام- من أنواع البلاء والشدائد من إخوته حين وضعوه في البئر وفارق أهله، ثمّ بيعُه وهو طفل، وسجنُه وتآمرُ النّسوة عليه، ثم تولّيه خزائن مِصر، وكلُّ تلك الأحداث كانت تُتلى بالترتيب الذي حدثت فيه لتشكّل قصةً متكاملة.[١]
معنى آية: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، بالشرح التفصيلي
أمر الله تعالى عباده بقراءة القرآن الكريم وتدبّر معانيه؛ فالقراءةُ بلا فهمٍ للآيات لا تحقّق الثمرة المرجوّة منها، لذلك لا بدّ من محاولة فهم كلّ آيةٍ عند قراءتها وفهم معاني كلماتها؛ لقطف ما تحويه من ثمراتٍ وعبرٍ في طيّاتها، وسيعرض المقالُ تفسير إحدى آيات القرآن الكريم، وهي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}،[٢] وقد تباينت الآراءُ في تفسيرها، وجاء في تفسير تلك الآية:
قيل: همَّ يعني: تحدّث بينه وبين نفسه؛ أي: هو حديثُ النفس وما يدور فيها من خواطرَ وأفكار، وقد استدلّ البغويّ على ذلك بحديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حيث قال: "قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ وقَولُه الحَقُّ: " إذا هَمَّ عبدي بحَسَنةٍ فاكتُبوها له حَسَنةً، فإنْ عَمِلَها، فاكتُبوها له بعَشرِ أمثالِها، وإذا هَمَّ بسَيِّئةٍ فلا تَكتُبوها، فإنْ عَمِلَها فاكتُبوها بمِثلِها، فإنْ تَرَكَها ورُبَّما قال: فإنْ لم يَعمَلْ بها فاكتُبوها له حَسَنةً، ثمَّ قَرأ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}"،[٣] وقيل: القصدُ بهمَّ: همَّ بضربها، وقيل أيضًا: تمنّاها زوجةً له، وجاءت تتمّةُ الآية: لولا أن رأى برهان ربّه أيّ: فلم يهمّ بها، وأمّا البرهانُ الذي رآه فقيل فيه العديدُ من الأقوال التي لا صواب مطلق فيها؛ بل هي توقّعات؛ فمنهم مَن قال إنّ البرهان رؤية صورة والدهيعقوب، ومنهم مَن قال صورة سيّده الملِك، وقيل أنّه رأى بعضًا من آيات الله التي تنهاهُ عن فعل ذلك، ومنها: {وَلا تَقرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلًا}،[٤] وقد قال ابنُ جريرٍ إنّ كلّ تلك الاحتمالات جائزة، والصوابُ أن يُطلق كما قال الله تعالى في كتابه العزيز،[٥] فالمقصدُ من الكلام عدمُ ورود قولٍ عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن ذلك البرهان، وأما أقوالُ بني إسرائيل فلا يعوَّل عليها، فاللهُ تعالى حذّر يوسف من الوقوع في المعاصي؛ لأنّه يعدّه من عباده المخلصين البعيدين كلَّ البعد عن ارتكاب المعاصي والآثام، وذلك ما جاء في تتمّة الآية: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.[٦][٧]
وقيل أيضًا: إنّ في الكلام تقديمٌ وتأخير؛ فهمّت هي على المعصيّة، أمّا يوسف فلأنّه رأى برهانَ ربّه لم يهمّ بها، وفي هذا أمران، الأوّل: قد خطرت في قلب يوسف تلك الخواطرُ التي هي من غرائز الإنسان، فلا يستطيع إيقاف الشعور بها؛ ولكنّ وازعالتقوى والخوف من الله تعالى قد منعه، وخواطرُ النفس أمرٌ لا معصية فيه، كمَن يخطر في باله الماء البارد أثناء الصيام ولكن لا يقربه إذ تقواه يمنعه، والأمر الثّاني: يوسفُ لم يَرد ذلك الخاطر في قلبه أصلًا؛ فقد جاء برهانُ ربّه قبل أن يمرّ ذلك الخاطرُ في باله،[٨] وذهب بعض النحاة إلى أنّ جواب لولا محذوفٌ يدلّ عليه ما قبله؛ فتكون جملة: همّت به جملةً أولى تامّة، وتكون الجملة الثّانية: همَّ بها جوابًا لـ "لولا" التي حُذِفَت مع اسمها، أمّا لولا الثّانية فجوابُها محذوفٌ يدلّ عليه ما قبله، فيكون الهمّ منه موجودًا على تقدير عدمِ رؤية البرهان، لكنّ البرهان قد وُجد ورآه يوسفُ فانتفى الهمّ منه، ومهما تعدّدت الأقوالُ فالخلاصةُ تدلّ على عفّة يوسف -عليه السلام- وبراءته من أيّ إثمٍ أو معصيّة.[٩]
معاني المفردات في آية: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
وبعد الحديث عن المعاني السياقيّة للمفردات في الآية، لا بدّ من الوقوف على معاني الكلمات لغويًا حسْب ورودها في المعجم؛ لتتوضّح معاني المفردات بشكلٍ أكبر، وفي الآية السابقة مجموعةٌ من الكلمات التي تحتاج إلى شرح، وهي:
- همّ: ويُقال في معنى الفعل همَّ: همَّ الرجلُ في الأمر أي: عزمَ على القيام به، وهمَّ الرجل لنفسه أي: طلب واحتال، ويُقال: همّه الأمر: أقلقه وأزعجه، وهمَّ السقم جسمه: ذهب لحمُه وأضناه السّقم، ويُقال همَّ فلانٌ واقفًا: نهضَ واقفًا، وهمّت الحيّة الرجل: عضّته.[١٠]
- رأى: فعل ماضٍ مضارعه: يرى، رأى الهلال: أبصره بعينه، ورأى العالِم شيئًا: اعتقده ونادى به، وهذا ما يراه أي: هذا ما يعتقده، ويقال: رأى خصمه أي: أصاب رئته، ويقال أيضًا: لم يرَ منه إلا الخير: لم يلقَ منه إلا كلَّ خير، ورأى الرّاية: أثبتها وركزها.[١١]
- برهان: اسمٌ مفردٌ جمعه: براهين، والبرهان: الحُجة والبيّنة الفاصلة، وبرهنَ النظريّة أي: أثبتها بالبرهان والحُجّة، وبرهنَ على كفاءته: أي أتى بدليلٍ ليثبتها، ويُقال: برهانٌ حسيّ: برهانٌ ساطعٌ يبدو وكأنّه مرئيّ، وبرهانٌ قاطع: أي مقنعٌ يقطع الشكّ.[١٢]
إعراب آية: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
كي يصلَ المعنى بشكلٍ كاملٍ وصحيحٍ لا بدّ من خطوةٍ صغيرةٍ تساعد على إتمامه وهي: الإعراب؛ فالإعرابُ هو أساس فهم المعنى والعكسُ صحيح، فلا يمكن الإعرابُ بلا فهمٍ للجملة المُعرَبة؛ فهما أمران متلازمان، يصحّ الأوّل بصحة الأمر الثاني، وبعد عرض معنى آية: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}،[١٣] لا بدّ من عرض إعراب كلمات الآية بشكلٍ مفصّل، وهي كالآتي:[١٤]
- الواو: حرف عطف.
- قد: حرف تحقيق.
- همّت: فعل ماضٍ مبنيّ على الفتحة الظاهرة على آخره، والتاء تاء التأنيث الساكنة لا محلّ لها من الإعراب، والفاعل ضمير مستترٌ تقديره هي.
- به: الباء حرف جرّ، والهاء: ضمير متصّل مبنيّ على الكسر في محلّ جرٍ بحرف الجرّ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل "همّت".
- و: حرف عطف.
- همّ: فعل ماضٍ مبنيّ على الفتحة الظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستترٌ تقديره هو.
- بها: الباء حرف جرّ، والهاء: ضمير متّصلٌ مبنيّ على الفتح في محلّ جرٍّ بحرف الجرّ، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل "همّ".
- لولا: حرف شرطٍ غير جازم.
- أن: حرفٌ مصدريّ.
- رأى: فعل ماضٍ مبنيّ على الفتحة المقدّرة على الألف للتّعذّر، والفاعل ضمير مستترٌ تقديره هو، والمصدر المؤول "أن رأى": في محلّ رفع مبتدأ، والخبر محذوفٌ وجوبًا تقديره موجود.
- برهان: مفعول به منصوبٌ وعلامة نصبه الفتحة الظّاهرة على آخره.
- ربّه: مضاف إليه مجرورٌ وعلامة جرّه الكسرة الظّاهرة على آخره، والهاء ضمير متّصلٌ مبنيّ على الكسر في محلّ جرٍّ بالإضافة.
- وجواب لولا محذوفٌ يفسّره الكلامُ قبله؛ أي: لولا أن رأى.
الثمرات المستفادة من آية: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
ما من آيةٍ في صفحات القرآن الكريم إلا وتحوي في طيّاتها العديدَ من الثمرات والعِبر، والتي يستفيد منها المسلم في أموره الحياتيّة، ومن ذلك آية: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}[١٥] حيث تحوي مجموعةً من الثمرات، وهي كالآتي:[٨]
- الخواطر بأنواعها إيجابيّةً كانت أم سلبيّةً لا يُحاسب عليها المرء؛ فهو أمرٌ من فطرة الإنسان وجِبلّته فلا يُكلّف في ضبطه؛ فذلك فوق قدرته واحتماله، ولا يكلّف اللهُ نفسًا فوق طاقتها، والإسلام دينُ يُسر، فلا يُحاسَب المرءُ إلّا على سلوكه وأفعاله؛ فالحسنةُ يُثاب عليها والسّيئة يُحاسَبُ عليها.
- يجب على الإنسان طاعة الله تعالى في السّر والعلانية، وأن يستحضر تقوى الله في نفسه دائمًا، وأن يجعلها وازعه في كلّ أموره ويؤمن بأنّ الله لن يضرّه ما دام قاصدًا وجهه الكريم في جميع أفعاله، وذلك ما فعله يوسف -عليه السّلام- حين أغوته امرأة العزيز؛ حيث وضع تقوى الله بين عينيه، ورفض الوقوع في الفاحشة، بل أصبح مثالًا للعفّة وضبط النفس عن الشّهوات.
المراجع
- ↑ "سورة يوسف"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية:24
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:3073، صحيح.
- ↑ سورة الإسراء، آية:32
- ↑ " تفسير ابن كثير تفسير سورة يوسف تفسير قوله تعالى " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ""، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-18. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية:24
- ↑ "تفسير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه...)"، binbaz.org.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-18. بتصرّف.
- ^ أ ب "كيف همّ يوسف بامرأة العزيز مع أنه عفيف"، islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ "نصوص وفهوم (1): {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى همّ في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى رأى في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى برهان في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية:24
- ↑ "إعراب الآيات (23- 29)"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية:24