ملك الفرنجة شارلمان

كتابة:
ملك الفرنجة شارلمان

تعريف حول الملك شارلمان

كان الملك شارلمان علامة فارقة في تاريخ أوروبا القديم، فهو الإمبراطور المقدّس الذي حكم بلاد الفرنجة سنوات وذاع صيته حتى اليوم، وفيما يأتي نبذة عنه:[١]


الاسم الكامل
شارلمان
تاريخ الميلاد
2 - 4 - 742م
مكان الميلاد
مدينة ليج البلجيكية أو آخن الألمانية
بلد الأصل
ألمانيا أو بلجيكا
المنصب
إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة
اللقب
الإمبراطور المقدس ملك الفرنج واللومبارديين
تاريخ الوفاة
28 - 1 - 814م
سبب الوفاة
الحمّى


نشأة الملك شارلمان وأسرته

ولد شارلمان لأسرة ملكيّة كان والده الملك الروماني بيبين الثالث وجدّه القائد المشهور شارل مارتل قائد الفرنجة في معركة بلاط الشهداء التي خاضها المسلمون مع الفرنجة في بواتيه على حدود فرنسا، تمتع بتربية صارمة من والده كونه كان يعدّه ليتولى الحكم من بعده كما جرت عادة الملوك والحكّام، فتعلّم شارلمان كثيرًا من العلوم والفنون وأتقن بعض اللغات مثل اللاتينية، وهو القائل: "عندما تمتلك لغة أخرى فإنّك تمتلك روحًا ثانية"، كان له أخ وحيد اسمه كارلمان مات بعد والدهما بنحو ثلاث سنوات؛ إذ توفي الأب سنة 768م والأخ كارلمان سنة 771م.[٢]


كان والده موظفًا في قصر الملك بما يشبه مدير القصر المطلق أو عمدة القصر كما يُقال، وقد عُيّن في هذا المنصب سنة 741م قبل ولادة شارلمان بعام، وفي عام 751م -أي بعد عشر سنوات- انقلب والد شارلمان على آخر ملوك سلالة ميروفنجي وصار الملك المطلق للإمبراطورية الرومانية المُقدّسة، وقد نصّبه البابا رسميًّا ملكًا للإمبراطورية سنة 754م، ومنذ ذلك الوقت أو بعده بقليل بدأ شارلمان يتلقى الدروس على يد البابا فولراد كبير أساقفة دير القديس دينيس، إذ يعدّ البابا فولراد هو المربّي أو المؤدّب الذي أشرف على تعليم شارلمان وتلقينه أنواع الفنون والآداب والعلوم التي تعلمها فيما بعد.[٢]

ألقاب ومناصب الملك شارلمان

عُرف شارلمان بكثير من الألقاب في حياته منها أسماء يُسمّى بها ومنها ألقاب ذات خلفية دينية نصرانية، فسُمّي في أوروبا بكثير من الأسماء والألقاب منها: كارولوس ماغنوس، تشارلز الأول، تشارلز لو جراند، تشارلز العظيم، كارل دير غروس وغير ذلك، ولم يتسلّم أيّ منصب قبل تولّيه عرش الحكم باستثناء منصب ولي العهد كونه ابن الملك السابق، وبعد توليه الحكم لم يخلع على نفسه أيّ لقب باستثناء لقب ملك الفرنجة واللومبارديين الذي خلعه على نفسه بعد توسيع مملكته واستلامه حكم الفرنجة المطلق.[٣]


تولي الملك شارلمان الحكم

كان الإمبراطور بيبين الثالث يهيّئ ابنه شارلمان للحكم من بعده، فعلّمه ودرّبه ليكون قائدًا عسكريًّا فذًّا وأديبًا عالمًا بفنون الأدب وتاريخه ودرّسه الدين المسيحي لكي يكون الإمبراطور المقدّس الذي يهيمن على الدولة بركنيها: المادي والروحي، فما لبث والده أن مات، ويبدو أنّ موته كان مفاجئًا لدرجة أنّه لم يوصِ لأحدٍ من ابنيه بعده على أنّه كان يعتني بشارلمان كثيرًا، فعند وفاة الإمبراطور بيبين الثالث انقسمت دولته بين ابنيه شارلمان وكارلمان بحسب أحكام الجمعية العامة للفرنجة.[٤]


قسّمت الجمعية إرث والده بينه و أخيه كارلمان، وتقضي الأحكام أن تنقسم المملكة بينهما مناصفةً، ولكن نظرًا لعلاقة بعض أعضاء الجمعية الحميمية بأخيه فإنّهم قسموا له جزءًا أكبر من جزء أخيه شارلمان وأكثر غنى بالموارد الطبيعية والمقومات الجغرافيّة التي تسهم في قوة المملكة، ولهذا توتّرت العلاقات بين الأخوَين وصارت العلاقة بينهما أقرب إلى الرسمية وكاد يشوبها بعض الخلافات التي من الممكن أن تتفاقم مستقبلًا لولا أنّ أخاه قد مات سنة 771م ليصبح شارلمان حاكم الدولتين ووريث الحكم الوحيد الذي لا ينازعه أحد في مملكته.[٤]


إمبراطورية الفرنجة ونهضتها في عهد شارلمان

منذ عهد شارل مارتل وما قبله بقليل كلنت الإمبراطورية الإفرنجية لعبة بيد السلالة الكارولينجية -نسبة إلى شارلمان فيما بعد- التي ينحدر منها شارل مارتل وبيبين وشارلمان، فقد استطاعت هذه الأسرة السيطرة على القصر من خلال منصب عمدة القصر أو رئيس القصر أو أيًّا كان اسم هذا المنصب بحسب اختلاف الترجمات في اللغات الأوروبية، فكانت هذه الأسرة تسيطر على الحكم وتُنحّي الملك عن شؤون الحكم، فكان الإمبراطورمن سليل أسرة تمتلك مقاليد الحكم منذ زمن، استلم شارلمان الحكم والإمبراطورية ترزح تحت وطأة اختلاف الأعراق والانقسام بين ملوك متعددين؛ إذ كان التقليد أن تكون الإمبراطوريّة إرثًا للملك، وعند وفاته توزّع بين أبنائه الذكور.[٥]


نتج من ذلك النظام انقسام كبير في دولة الفرنجة، إضافة لذلك فقد صارت هذه المملكة تضمّ شعوبًا من أعراق شتّى كان من الصعب أن يتوحّدوا جميعًا تحت راية ملك واحد، كلّ ذلك جعل شارلمان يقع تحت ضغط وتحدّ كبير للنجاح، فاستطاع أن يجعل من مملكته دولة قويّة وقسّم جهوده بين حملات عسكرية لإخضاع البلاد والبلدان المجاورة، ويدٍ مدّها لتنهض بالفنون والعلوم والآداب، ويدٍ مدّها لإصلاح الجانب الديني المهيمن على الدولة منذ عقود أو ربّما قرون، فكانت دولته بذلك من الدول القويّة التي تسيطر على العالم آنذاك، واستطاع أن يكوّن إمبراطورية عظمى ترعى المسيحيين حول العالم.[٥]


التبشير بالمسيحية وعلاقة شارلمان بالبابا

عام 800 للميلاد صار البابا للنصارى الكاثوليك هو البابا ليو الثالث، ومعلوم أنّ الكاثوليك هم الطائفة الأعظم بين طوائف النصارى الذين يتربعون على عرش البابوية، وهنا بدأ عهد جديد للإمبراطور شارلمان، فحتى هذا التاريخ -أي 800 للميلاد- لم يكن لقب شارلمان سوى الملك، غير أنّ البابا هنا خلع عليه لقبًا جديدًا هو الإمبراطور، وكان هذا اللقب هدية من البابا لشارلمان الذي قضى 30 عامًا من حياته في الحكم في الروب لتوسع رقعة دولته وإخضاع أقاليمها ونشر الأمان فيها، فبذلك يكون قد خدم الدين النصراني والكنيسة الكاثوليكية وحمى حدودها، ويكون أيضّا قد تقرّب أكثر من يسوع بحسب البابا.[٦]


أرسل شارلمان رسالة للبابا فحواها أنّ مهمّته هي محاربة "الكفّار" الذين هم خارج حدود المملكة، وأيضًا من مهامه حماية الكنيسة في الداخل ونشر الفكر الكاثوليكي، وطلب في رسالته من البابا أن يدعو له ولجيوشه بالنصر على أعدائهم، ومنذ ذلك الوقت صار شارلمان الإمبراطور الروماني "المُقدّس" حامي النصرانية في الداخل والخارج، وقد أسندت إليه صلاحيات كثيرة من البابا منها: عزل الأساقفة وتعيينهم، وأمر مجموعة من الأساقفة بمراجعة نصوص الكتاب المقدس وتعديلها، وأجرى تغييرات في حياة الأديرة وفصل الأساقفة والكهنة الذين ليس لديهم تعليم كافٍ.[٦]


تدخّل شارلمان بالليتورجيا -وهو علم اللاهوت النصراني العملي الذي يختصّ بالعبادات- وأجرى فيه تعديلات، وكان عنده شمّاس خاص اسمه "بول" كان يؤيده وينشر بعض العظات القصيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكان يحثّ شارلمان الاطلاع على كلام الباباوات الكاثوليك القدامى الذين قد أثّروا في العالم المسيحي ونشروا إرث أجدادهم بين الشعوب وكافحوا حتى غدت الإمبراطورية المسيحية على ما هي عليه في وقتهم، فصار شارلمان ينشر العقيدة الكاثوليكية في الإمبراطورية، ويحارب باسمها وينشرها في المناطق التي يضمها لدولته سواء أكانت وثنية أم نصرانية ولكن على غير نهج الإيمان الكاثوليكي.[٦]


السياسة والحملات العسكرية في عهد شارلمان

لقد كان شارلمان ذا ذكاء كبير وحنكة عالية استطاع من خلالها أن يكون زعيمًا وسياسيًّا بارعًا، إضافة إلى أنّه قضى ثلاثين عامًا في حكمه في امحاربّا متوسّعا حتى استتب له أمر الإمبراطورية وصارت القوة العظمى في العالم الغربي النصراني.


طريقة حكم الدولة وتنظيمها

لقد وجد شارلمان نفسه مُحاطًا بتقليد قديم جدًّا ينظر للحاكم من خلال إنجازاته العسكرية وثباته في الحروب، فلم يكن من شارلمان إلا أن عمل على ترسيخ صورة الحاكم القوي بين أركان مجتمعه، فدعم أفراد المجتمع بهبات ماليّة، وعزّز العادات والتقاليد وزرع في الناس الشخصية الرومانية التقليدية القوية وحاول ترسيخ هذه الصورة وتلميعها، ساعده في ذلك صورته في أذهان العامة وشجاعته وفروسيته وجسده المثالي للمحارب الأسطوري، كلّ تلك الصفات جعلت من شارلمان الحاكم القوي الذي يعتمد عليه شعبه كثيرًا في الملمّات، وقد عمل الملك شارلمان كثيرًا على تعزيز الإحساس الفرانكفوني في شعبه ليكون أكثر استجابة له عندما يحتاج إلى شعبه في الدفاع عن مُلكه.[٧]


الحروب في عهد شارلمان

منذ تسلّم شارلمان حكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة وحتى مُضي 30 عامًا خاض شارلمان حروبًا كثيرة على جبهات كثيرة مع مختلف الشعوب من الأوروبيين وغيرهم، وفيما يأتي حروبه مفصلةً:


الحروب ضد اللومبارديين

في عام 772م صار البابا الكاثوليكي هو أدريان الأول، وكان بينه وبين "ديسيديريوس" آخر ملوك اللومبارد معاهدة تقضي بضم بعض المدن في إكسرخسية رافينا لمصلحة الكنيسة البابوية، لكن ديسيديريوس أنكر هذه العهود ورفض الالتزام بها وفوق ذلك استولى على بعض المدن البابوية وغزا مدن البنتابوليس وتوجه إلى روما إلى مقر البابا نفسه، هنا استعان البابا أدريان بشارلمان وأرسل له كتابًا يوضح فيه ما كان بينه وديسيديريوس ويُطلعه على كل الأمور مفصّلا، فأرسل شارلمان رُسُلًا إلى ملك اللومبارد يستفهم منه ما جرى، فأنكر ذلك، فطلب شارلمان أن تلتقي جميع الأطراف في "تيونفيل" وهي بلدة في فرنسا، وهناك تواجه الجميع واستمر ديسيديريوس بالإنكار.[٦]


مع استمرار إنكار ملك اللومبارد ديسيديريوس أمر شارلمان أن تُنفّذ مطالب البابا، فأقسم ديسيديريوس أنّه لن يمتثل ولن يستجيب أبدًا، ساعتها كان لا بدّ من التدخل العسكري لحسم الجدل، فتوجّه شارلمان مع عمه برنارد باتجاه الشمال الإيطالي إذ معقل اللومبارد، فعبروا جبال الألب سنة 773م وطاردوا اللومبارديين الذين فرّوا إلى بافيا حيث أطبق عليهم شارلمان الحصار بجيوشه، وبينما هم يحاصرون اللومبارد توجه شارلمان إلى فيرونا لقتال "أدليكس" ابن ديسيديريوس الذي كان يجهّز جيشًا لفك الحصار عن بافيا، فطارده شارلمان حتى سواحل البحر الأدرياتيكي لكنه فرّ إلى القسطنطينية للاستعانة بملكها قسطنطين الخامس الذي كان مشغولًا آنذاك بحروبه مع البلغار.[٦]


استمرّ حصار شارلمان للومبارديين حتى خريف عام 774م، في هذا العام توجه شارلمان إلى روما ليأخذ مباركة البابا، فزعم شارلمان أنّ والده بيبين قد منح الكنيسة البابوية كثيرًا من المدن مثل: البندقية وإقليم توسكانا وإميليا وكورسيكا، وبفضل هذه المنحة من الإمبراطور العظيم منحه البابا لقب البطريارك او البطريرك، وهو لقب ديني نصراني رفيع يُعطى لرجال الدين، عندها عاد شارلمان لحصاره وكان اللومبارد على وشك الاستسلام، ففتح اللومبارد أبوابه لشارلمان خوفًا على حياتهم، فألقى شارلمان القبض على ديسيديريوس ونفاه إلى دير كوربي في فرنسا، بينما بقي ابنه في القسطنطينية حتى وفاته، وصار شارلمان ملك اللومبارد الجديد.[٦]


الحروب ضد المسلمين (الرونسفال)

مع تقدّم المسلمين في الأندلس وتشكيلهم قوة ضاربة فإنّ شارلمان كان ينظر إليهم بعين التوجّس والحذر خوفًا من حملاتهم المتواصلة ضد مملكة الفرنجة، فذات يوم في عام 775م ثارت بعض الولايات في الأندلس على حكم عبد الرحمن بن معاوية المسمّى عند المسلمين بالداخل أو صقر قريش، كانهدفه منع الداخل من توحيد الأندلس التي كانت ممزقة بين العرب والبربر قبل دخوله، فاستغل شارلمان هذا الخلاف وتواصل مع الولاة الثائرين لخلع الداخل، فوعده والي برشلونة -واسمه سليمان بن يقظان الكلبي- بمنحه المدن الشمالية في الأندلس، وسلّمه قائد جيوش عبد الرحمن الداخل الذي أسره في الحرب لكي يعبّر له عن ثقته.[٥]


دخلت جيوش شارلمان الأندلس وعبرت إقليم الباسك الذي يسكنه البشكنس الإسبان وقتل منهم خلقًا كثيرًا وتوجّه إلى سرقسطة وحاصرها، لكنّه لم يستطع اقتحامها نظرًا لتحصينها واستماتة أهلها بالدفاع عنها، إضافة لذلك فقد شهدت مملكة شارلمان ثورات في غيابه فلم يكن أمامه سوى العودة إلى دياره وأخذ معه سليمان الكلبي أسيرًا لأنّه أخفق في هدفه، وعندما عاد حدثت معركة بين جيشه والبشكنس الذين أرادوا الثأر لهزيمتهم الأولى، لكنّ شارلمان دمّر عاصمتهم وقتل منهم الكثير، وفي طريق عودته عندما وصل جبال الرونسفال وقعت مؤخرة جيشه في كمين قد نُصب له بتخطيط من عبد الرحمن بن معاوية.[٥]


أرسل عبد الرحمن بن معاوية جيشًا من عاصمة دولته وسلّح قسمًا من مسلمي الرونسفال إضافة لعدد كبير من البشكنس الباسك، فأطبق جيش المسلمين على مؤخرة جيش شارلمان يساندهم البشكنس بالسهام والرماح من قمم الجبال يطلقون على جيش شارلمان، فأوقع هذا الكمين قتلى كُثُر من جيش شارلمان على رأسهم قائد مؤخرة الجيش الفارس رولان الذي كان موته ضربة كبيرة لشارلمان وجيشه هذا الفارس الذي قد خلّدته ملحمة فرنسية عظيمة من أربعة آلاف بيت نُسجت على نمط ملاحم الإغريق إذ فيها من الأساطير ما فيها، وفيها إشادة بجيش المسلمين وشجاعته، واستردّ المسلمون بعد هذه الواقعة أسراهم الذي كان شارلمان يريد أخذهم معه للانتقام منهم.[٥]


دخول الملك شارلمان إلى برشلونة

بعد هزيمة الملك شارلمان في معركة جبال الرونسفال فإنّ غاراته على بلاد الأندلس صارت تتوجه نحو أوروبا وأحجم عن العودة إلى بلاد الأندلس نظرًا للشجاعة الفائقة التي أبداها المسلمون، ولكنّ الحال لم تبقَ على ما هي عليه؛ إذ إنّ شارلمان قد ولّى ابنه لويس على الحدود الشمالية في فرنسا المتاخمة للأندلس من جهة إقليم كتالونيا، فإقليم كتالونيا -الذي يضم برشلونة وجيرونا وتاراغونا- كان بعيدًا جغرافيًّا عن العاصمة قرطبة مقرّ الخليفة، فكان حكّام ذلك الإقليم يطمعون بالانفصال عن الأندلس وتأسيس ممالك خاصة بهم على غرار جيرانهم الفرنجة الذين تتألّف بلادهم من ممالك شتّى.[٥]


ذات يوم عام 797م أعلن حاكم برشلونة العصيان على الحكم القرطبي، فاستعان بالفرنجة لمساعدته ولكنّهم اشترطوا أن يسلّمهم البلاد ويبقى حاكمًا تحت اسمهم، فدخلت جيوش الفرنجة برشلونة، ولكن أرسلت حكومة قرطبة جيوشها واستعادت البلاد، غير أنّ هذه الاستعادة لم تدُم أكثر من عامين، ففي عام 800م حاصرت جيوش لويس بن شارلمان برشلونة واستمر الحصار أكثر من عام، وفي ربيع عام 801م اضطرّت حامية برشلونة لتسليم المدينة في وقت كانت فيه حكومة قرطبة تعاني من اضطرابات وضعف فلم تستطع مساعدة برشلونة البعيدة، وفي حكم المنصور بن أبي عامر استطاع استرداد برشلونة لكنّها عادت بعد مدة قصيرة لحكم الفرنجة إلى الأبد.[٥]


الحروب ضد الساكسون

مناطق الساكسون كانت تعني ألمانيا إضافة لأجزاء من إنجلترا، وهذه الحروب كانت هبي الأكبر والأطول في مسيرة الملك شارلمان؛ فقد استمرت ثلاثين عامًا حتى أخضعها نهائيًّا عام 804م، فقد كانت شعوب السكسون شعوبًا وثنيّة ومنها ما يعبد الشياطين ونحو ذلك، وكان شارلمان من الملوك الذين يعتنقون النصرانية ويدافعون عنها ويسعون إلى نشرها، فكانت شعوب السكسون من أولى الشعوب التي توجه إليها شارلمان لإخضاعها من أجل تأمين حدود مملكته وتوسيعها ولنشر الديانة النصرانية بين الشعوب المغلوبة.[٨]


بدأت أولى حملاته سنة 774م، وكان غالبًا ما يقود الحملة بنفسه على رأس الجيش برفقة فرقته الخاصة التي ترافقه في حروبه وهي فرقة من نخبة الفرسان اسمها "سكارا"، فقسّم بلاد السكسون إلى أربع مقاطعات حتى يسهل احتلالها، وبدأ بها واحدة تلو الأخرى ولم تطُل الحروب حتى سقطت بيده كاملة، ولكنّ روح التمرد عند أبنائها كانت تستيقظ كل عدة سنوات، ولكنّ شارلمان كان يخمد الثورات بقوة وعنف، وكان يسن القوانين التي تساعده، في ذلك وأجبر أهلها على اعتناق النصرانية، والذي لم يكن يدخل في النصرانية فإنّه يُقتل، ولذلك كانت الثورات كثيرة للدفاع عن معتقداتهم، ولكن في عام 804م أعلنوا الخضوع والدخول في النصرانية ونفي مظاهرعبادة الشياطين والأوثان.[٩]


الحروب ضد الآفار

كان الآفار عبارة عن مجموعة من القبائل الآسيوية البدوية التي انتقلت لتقطن في ما يُعرف اليوم بهنغاريا أو المجر، وفي عام 788م غزت هذه القبائل بافاريا وفريولي، ولكن في ذلك الوقت كان شارلمان مشغولًا بحروبه ولم يلتفت إليهم حتى عام 790م، وهناك توجه إليهم عبر نهر الدانوب ودمّر أراضيهم ونكّل بهم، واستمرت حملاته عليهم حتى عام 792م عندما ثار السكسون ضده، عادت الحروب من جديد بعد ذلك بين جيوش شارلمان التي انضمت إليها جيوش اللومبارديين، واستمرّ القتال بين مد وجزر حتى عام 800م عندما أعلن الآفار الدخول في النصرانية والانضمام لمملكة الفرنجة.[٦]


لم يدم هذا الاتفاق سوى عامين ليعود الآفار من جديد سيرتهم الأولى وينقضّوا على جيوش شارلمان، ليرسل شارلمان جيشًا عام 803م ووضع حدًّا للآفار إلى الأبد وهزمهم وقضى على اتحادهم مع البلغار، ثمّ ذهب إليهم بنفسه نهاية العام المذكور آنفًا واعترفوا به ملكًا على الآفار، وفي عام 805م طلب الآفار الإذن من شارلمان للاستقرار في جنوب شرق فيينا، وصارت أراضيهم في المجر جزءًا من مملكة الفرنجة واستمرت على هذه الحال حتى عام 900م.[٦]


إنجازات الملك شارلمان

لقد كانت سنوات حكم شارلمان طويلة بالقدر الكافي للخروج بإنجازات كثيرة خلًدتها كتب التاريخ، ومن تلك الإنجازات ما يلي:


التجارة في عهد الملك شارلمان

لقد استلم شارلمان الحكم وبلاد الفرنجة محاصرة من جميع أركانها، المسلمون من الجنوب إلى الشمال من الأعلى، صارت بلاد الفرنجة عندها أشبه بجزيرة منفصلة ولم بعد هنالك من بدّ سوى الاستعانة بالزراعة وجعل البلاد أشبه بمزرعة كبيرة، إلا أن كان هنالك مشكلة وهي أنّ معظم الفلاحين فقراء ومُستغلّون من التجار الكبار، فكان لا بدّ لشارلمان من التدخّل من خلال سن القوانين الناظمة لعمل الزراعة وحماية الفلاحين من الاستغلال ومن الاسترقاق الذي كان نشطًا في ذلك الوقت .[٥]


كذلك منع الغش وفرض رقابة على الأسواق ومنع المضاربات على المحاصيل قبل حصادها وجفّف منابع الربا والمكوس، وشقّ قناة تربط الراين بالدانوب حتى يتمكن من ربط بحر الشمال بالبحر الأسود، فكانت هذه الطريق للتجارة عوضًا عن طريق البحر المتوسط الذي يسيطر عليه المسلمون في الأندلس وفيما يواجه من بلدان المشرق الإسلامي، وفرض للفقراء إعانة تؤخذ من النبلاء ورجال الدين النصراني.[٥]


التعليم في عهد الملك شارلمان

كان التعليم في عهد الملك شارلمان منحطًّا وكان أكثر الشعب يعاني من الأميّة والجهل والتخلف، وكانوا لا يحسنون القراءة والكتابة سوى بعض رجال الدين، فأنشأ مدرسة في قصره وجاء بالمعلمين من إنجلترا وإيرلندا وغيرها من الممالك التي كانت متقدمة عليهم ثقافيًا، فصارت مدرسة القصر مركزًا نشطًا للتعليم وصار شارلمان وأسرته يحضرون الدروس، وخلال مدة قصيرة عاد الرونق إلى مدارس الفرنجة وصارت مملكة شارلمان تنشر العلم وترسل في طلب الكتب النافعة من شتى الأمكنة في العالم، حتى شارلمان نفسه صار يتعلم اللغة اللاتينية وفي أوقات فراغه يتعلم رسم الحروف ووصلها ببعض ليرسم الكلمات رسمًا صحيحًا.[٥]


الآثار في عهد الملك شارلمان

لقد ترك شارلمان وراءه كثيرًا من الآثار التي تشهد على عصره وتطوره وتقدمه، من بين تلك الآثار ولعلّها الأهم هي: قصور الملك شارلمان التي تشهد عليه وعلى قوته، فشيّدت له قصور في أطراف هولندا وألمانيا وفرنسا، معظم هذه القصور ظلت قائمة حتى الحرب العالمية الثانية إذ دُمّرت قصوره لا سيما القصر والكاتدرائية التي أقامها في آخن بين ألمانيا وفرنسا، فكانت هذه الكاتدرائية مصممة على غرار الكنائس البيزنطية السوريّة.[٥]


الإمبراطورية الرومانية المقدسة

لم يأتِ عام 800م حتى صارت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة تمتد من نهر إلبه في الشمال الشرقي إلى جنوب جبال البرنييه أو الرانس في الجنوب الغربي، ومن بحر الشمال إلى جنوب إيطاليا، وصار شارلمان المحارب باسم الكنيسة الكاثوليكية ونشر النصرانية في معظم أنحاء أوروبا، وحارب عبدة الأوثان والشياطين وأجبرهم على الدخول في النصرانية، وعيّن البابا إمبراطورًا مُقدّسًا وسيفًا من سيوف النصرانيّة، وصارت كلمة شارلمان نافذة عليهم جميعًا وبات كلامه قانونًا يلتزم به كل أتباعه.[١٠]


ابن الملك شارلمان لويس الأول

في عام 806م شعر شارلمان أنّه في أواخر حياته فقسّم دولته بين أبنائه الثلاثة، لكنّ اثنين منهم ماتا، وبقي واحد هو لويس، فصار وريث والده فنصّبه والده إمبراطورًا في حياته سنة 813م، لكنّ لويس هذا كان عابدًا لا يلقي بالًا لأمور الحكم إذ كان منصرفًا عن الحياة إلى العبادة حتى سمّي لويس الورع، واستمر يحكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة حتى وفاته عام 840م.[١١]


وفاة الملك شارلمان

بعد تنصيبه لابنه بعام واحد ذهب شارلمان الإمبراطور المقدّس إلى آخن في ألمانيا في مطلع العام 814م، وهناك دخل في حالة اكتئاب ربّما يكون سببها أنّ كثيرًا من خططه لم تتحقّق بعد مع شعوره أنّ الموت يحلّق فوق رأسه، وفي هذه الأثناء أصيب بمرض في الرئتين اسمه ذات الجنب، وهو التهاب لمنطقة حول الرئتين، وقد عانى الملك الحمّى الشديدة في مرضه، ولم يطُل به المقام أكثر من سبعة أيّام، مات بعدها ودُفن في تابوت مصنوع من الذهب والفضة في كاتدرائية آخن، وأوصى بأمواله وقفًا للكنيسة كي تستفيد منها في الأعمال الخيرية.[١١]


المراجع

  1. "Charlemagne", biography, Retrieved 8/7/2021. Edited.
  2. ^ أ ب Jesse L. Weston, The Romance Cycle of Charlemagne and His Peers, London:Forgotten Books, Page 15. Edited.
  3. "Charlemagne Biography", notablebiographies, Retrieved 8/7/2021. Edited.
  4. ^ أ ب Harold Lamb, Charlemagne The Legend and the Man, United States:Doubleday, Page 90. Edited.
  5. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز Janet L. Nelson, King and Emperor A New Life of Charlemagne, United State:University of California Press First edition, Page 112 - 135. Edited.
  6. ^ أ ب ت ث ج ح خ د Joanna Story, Charlemagne Empire and society, United kingdom:Manchester University Press, Page 170 - 190. Edited.
  7. Steffen Patzold, Charlemagne and me The Life of the Courtier Einhard Hardcover, Page 50. Edited.
  8. Robert Flierman, Saxon Identities AD 150_900, United kingdom:Bloomsbury Academic, Page 160 - 185. Edited.
  9. Ingrid Rembold, Conquest and Christianization Saxony and the Carolingian World 772_888, United kingdom:Cambridge University Press, Page 130 - 135. Edited.
  10. "Charlemagne", yourdictionary, Retrieved 11/7/2021. Edited.
  11. ^ أ ب "Charlemagne Biography", notablebiographies, Retrieved 11/7/2021. Edited.
5605 مشاهدة
للأعلى للسفل
×