من هو شمس التبريزي

كتابة:
من هو شمس التبريزي

تعريف بشمس التبريزي

من أي اتجاه تشرق أنوار العرفان على الوجود؟

شمس تبريز محمد بن عليّ بن ملك دَادْ، ابنُ الإمام علاء الدين، عاشَ ما بينَ عامَي (1185م - 1248م)، ولد في تبريز، وهي رابعُ أكبر مدينةٍ في إيران، وهو عارفٌ مُسلمٌ متصوّفٌ، مذهبهُ شافعيّ، أعطى جُلَّ اهتمامه للمحبّة الإلهيّة والبحث عن سرّ العشق الذي يسمو بالإنسانِ إلى الخلودِ بقُرب المحبوبِ ونَيلِ وصالِهِ، أقامَ صداقةً روحيّةً بينه وبين جلال الدين الرومي فأثمرت تربيةً على مستوىً عالٍ من الارتقاء لكليهما، ثم فارقهُ شمس بوفاةٍ لم يصل العلماء إلى التأكد من طريقتها، فأغلبهم يقول إنّ شمس قد توفّيَ على يد قاتِليهِ ممن كانَ يعارضُ فِكرَهُ، ومنهم من يقول إنّه اختفى ولم تُعلَم طريقة وفاته.[١]


كانت أذربيجان في ذلك الوقت تحت حكم الأتراك الذين امتدّتْ سلطتهم إلى آسيا الصغرى، فاستَولَوا على خراسان وأصفهان في بلاد فارس، ثم وصلوا إلى أذربيجان، وضمّوا لحكمهم الدول التي كانت تحكم تلك المناطق، وعندما أصاب دولة السلاجقة الوهن الشديد أقامت أذربيجان وبعض الدول المجاورة اتّحادًا قويًّا سُمّي بالدولة الأتابكية أو الدولة الزنكية بقيادة نور الدين الزنكي، وجعلوا عاصمتها تبريز.[٢]


لعلّ اسمهُ يرمز إلى أنه محور الطّرق الصوفية جميعها، إذًا إن الشمس هي النجم الرئيس الذي تدور حوله الأرض[٣]؛ لأن مذهبه قائم على المحبة التي تجمع كل الطرائق المؤدّية إلى تحقيق الشرائع، وقد كتبَ الكثير من المؤلفين حول حياة شمس تبريزي وكلامهِ ومؤلّفاته، ولكنَّ الكثير عنهُ لم يكن مُتاحًا للمعرفةِ كما كان الأمرُ بالنسبة لجلال الدين الرومي، فالرومي جمعَ بين التهذيب الروحيّ وبين العلم والظهور في ميدان التدريس والتعليم للعلوم الشرعيةِ بما فيها من فقهٍ وأصولٍ وغيره.[١]

حياة شمس التبريزي

كيف تضم اللغة مساحات حياة العاشقين؟

تُعدُّ شخصية شمس التبريزي بما فيها من غموض وإبهام مصدرًا للإلهام الروحي لدى جلال الدين، ولدى الكثير ممن سلكَ طريق التصوف في ما بعد، فهي شخصية تزهد في ملذات الحياة الدنيوية رغبةً بالحياة الخالدة التي تتمثل بالعشق، وتغطي تلك الرغبة بين الخلق بلباس الناس العاديّين، فكان شمس تبريزي يرتدي لباسًا خشنًا يتكوّن من قلنسوة طويلة مصنوعة من اللباد الخشن تارةً، ويرتدي لباس التجّار الأغنياء تارةً أخرى، فليس المهمّ من منظورِهِ كيف يبدو الإنسان من الخارج، بل الأصل أن يكونَ القلبُ داخله صافيًا حتى يعكسَ الأكوانَ ويشهدَ عظمة خالقها ومحبّتهُ.[١]


يمكنُ القول إنّ شمس الدين لم يكن منتسبًا إلى فرقةٍ من الفرق التي كانت طُرُقها منتشرةً في عصرهِ، ولم يكن فيلسوفًا بالمعنى الحقيقيّ للفلسفة، لأنه يُضمرُ في أقوالهِ إنكارًا على الفلاسفة وضياعهم في البحث عن المعاني التي تحيّر العقل وتستولي على إدراك الإنسانِ دون الوصول إلى ثمرةٍ حقيقية، وفي ذلك كان قولُه: "الجهاتُ الستُّ نور الله، والفيلسوفُ الغِرُّ قد بقيَ فوق سبعِ سماواتٍ حيرانَ بين الفضاء والخلاء"، وينكرُ في هذا الميدانِ أن يتّخذَ الإنسانُ من العقلِ دليلًا كاملًا للوصول إلى الحقيقة دون الاستماعِ لما يبثّه القلبُ من صوتٍ، فيقول: "الفيلسوفُ يصبحُ مُنكِرًا، أي أنَّ كلَّ ما لا يعرفهُ عقلهُ لا يكونُ له وجود".[١]


من ذلك الكلامِ وغيرِه والكثيرِ من شعر شمس تبريزي ومؤلّفاتهِ يتبينُ اهتمامُه بالقلبِ في مضمارِ الارتقاء بروح الإنسان لتتجهّز لوصال الحضرةِ الإلهيّة واستقبالِ أنوارها، فلا شيءَ غير القلب من منظورِه يمكن أن يكونَ محلًّا لاستقبال ِ تلك الأنوار والمعارف الربّانية، والعلم مهما عَلا بالإنسان فسيبقى وسيلةً توصلهُ إلى الإدراكِ لا غايةً في نفسهِ، والإنسان بقلبِه يعلو فوق جميع الكائنات الأخرى، ويتمكّن من السموّ بالعشق نحو الوجود الأعلى، فيقول في ذلك المعنى: "إنّ باب القلب هو الذي يجب أن يُفتَح".[١]


علاقة شمس التبريزي بجلال الدين الرومي

ما هو الحبلُ الذي ربطَ القلوب؟

وصف العديد من العلماء الباحثين في التصوف لقاء جلال الدين الرومي وشمس تبريزي أو السرّ الذي جمع بينهما بالإبهام والغموض، إذ لم يستطع كثر منهم أن يدركَ أبعاد تلك الصداقة المبنية على أنّ أحدهما شيخٌ مُرَبٍّ للآخر، وكل واحدٍ منهما يستطيعَ الشعور والفهم لأدقِّ المعاني التي يحملها الآخر في طيّاتهِ، فكانت تلك الصداقة مسيرةً في العالمِ العلوي يمضي بها التبريزي والرّوميّ في طريق العشق الواسع الذي لا نهاية له.[٤]


التقى شمس تبريز بجلال الدين الرومي في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، عام 642 هـ، حيثُ كان الرّومي قد رأى شمس في خانٍ لبيع السُّكَّرِ في قونية، وكانت تظهر عليه سماتُ الدراويش في ذلك العصر من تواضع الثيابِ، ولكنّه كانَ حادَّ التصوّفِ صافي المشرب، وقد شعر الرومي تجاههُ بالمحبةِ العميقة التي تسري بلا نهاية، وبنوعٍ من التلاؤمِ بين الأرواح.[٤]


أما شمس تبريزي فقد كان يروى عن قصة توجُّهِهِ إلى قونية بأنّهُ طالما تضرّعَ إلى الله تعالى بأن يجعَلَهُ يختلطُ بأوليائهِ، وينعمُ بصحبتهم في هذه الدنيا التي فيها يكون سير المحبِّ إلى الله تعالى ورضاهُ ومحبَّتهِ، وكان يرى في الرؤيا جواب سؤالِه، وهو أنَّ الله تعالى سيجعله يصحبُ أحد لأولياء، وعندما سأل: أين سيجد ذلك الولي لم يلقَ الإجابة، وقد تكررَ ذلك لهُ في ثلاثةِ أيّام، ثم قيلَ لهُ إنّه في بلاد الروم، حتى انقضتْ مدةٌ ولم يعثر عليهِ ولم يرَه، إلى أن قيلَ لهُ إنّ الأمورَ مرهونةٌ بأوقاتها.[١]



حينَ تمَّ اللقاءُ أخذ التبريزي بعنانِ فرسِ جلال الدين الرومي، وسألهُ: "يا إمام المسلمين، أيهما أعظم؟ أبو يزيد -ويقصد به أبا يزيد البسطامي- أم محمد - ويقصد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" فأجاب الإمام جلال الدين بأن السماوات السبع قد اهتزّت من هيبة ذلك السؤال، وكأنَّ نارًا قد شبّتْ في باطنِه وتصاعدت إلى رأسه، ثم أجاب: إنَّ محمدًا هو أعظمُ العالمين، فأين منه أبو يزيد؟[١]



فقال التبريزي: فكيف التوفيقُ بين قول أبي يزيد "أنا سلطانُ السلاطين"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سبحانكَ ما عرفناكَ حقَّ معرفتك؟" فقال جلال الدين إنّ أبا يزيد سكنَ من جرعةٍ واحدة، أما المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانَ لهُ ظمأ في ظمأ، وكان له في كل يومٍ زيادةُ قربى، وكان يرى المزيد يومًا بعد يوم وساعةً بعد ساعة من أنوار الحق وعظمته، فصاحَ شمس الدين صيحةً عظيمة إلى أن وقعَ على الأرض.[١]



منذ ذلك اليوم كانت الولادة الحقيقية لجلال الدين الرومي، واللقاء المنتظر لشمس تبريزي، وهو اللقاء الذي فتح لكليهما آفاقًا من المعارفِ التي تنطوي عليها الصحبة بمعناها العرفانيّ، فلم يُرَ بعد ذلك اليوم جلال الدين إلا بِصحبة شمس، فهو الذي غدا في نظره الممثل الأول لأنوار الله تعالى وفيض التجلّيات الربّانية، وهو الذي تتمحور حولهُ فيضُ العناية الإلهية التي تقودُ جلال الدين إلى المعرفة الحقيقية التي لم تكن مُتاحةً له من قبل.[١]


ترحال شمس التبريزي

أين المكانُ الذي يقيمُ به عاشق قد تاهَ في الأكوان؟

اشتهرَ التبريزي بأنه كان كثير والأسفار، إذ لم يكن يقيمُ في بلدٍ إقامةً مُستقرّة، بل ينزلُ فيها كما ينزلُ المسافرون العابرون، فكان دائمَ الحركة والترحال من مكانٍ إلى مكان، لا يقيّده وطن ولا تكبِّلُهُ بلد، وسمّي لذلك بـ "شمس الطيّار"، كنايةً عن كثرةِ تنقّلهِ وسرعة مغادرته للمكان الذي ينزلُ فيه. سافرَ إلى بغداد، وإلى حلب، وزار دمشق، وقنية حيث التقى جلال الدين الرومي واعتكفَ معهُ أربعينَ يومًا كتبَ فيها قواعده الأربعين في العشق، وهي المعنونة بـ "قواعد العشق الأربعون".[١]



قيلَ في بعض الروايات إنّه أقام حوالي أربعةَ عشرَ شهرًا في حجرةٍ صغيرةٍ في مدرسةٍ من مدارس حلب، يدرّب نفسهُ على الرياضات الروحية، وتذكرُ العديدُ من الروايات أنّ شمس التبريزي كان حين ينزلُ في مدينة من المدن يجمعُ الصبيةَ الصّغار من تلك المدينة، ويفتحُ ما يُسمّى بالكُتَّاب لتعليمهم العلوم، فيُقدِمُ الصبيةُ على إعطائهِ مبلغًا من المالِ لقاءَ تعليمهِ فيمتنعُ عن الأخذ، ويطلبُ تأخير ذلك، حتى إذا أصبحَ المبلغُ كبيرًا وصارَ لهُ عند الناسِ كثيرٌ من النقود اختفى حيث لا يدري أحد، دونَ أن يأخذ منهم ما يستحقّه من الأجر.[١]


أبرز مؤلفات شمس التبريزي

ماذا يمكن لمحبّ يكويه الشوق أن يدوّن في الكتب؟

لشمس تبريزي عدد من المؤلفات التي ترجم أغلبها إلى لغات مختلفة، يمكن أن يكون أهمّها هو الكتب الآتية:


مرغوب القلوب

كتابٌ جمع فيه شمس تبريزي بين الحكمة والأفكار التي جعلها ركيزةً أساسية في ميدان انتسابه للدائرة العرفانية الصوفية، وهو مكتوبٌ باللغة الفارسية، وهو مخطوط صغير يتكون من إحدى عشر صفحة.[٥]


أنا والرومي

يمدحُ العديد من القراء بهذا الكتاب لما في ترجمة "وليام شيتيك" من براعة في إظهار ما يريد شمس تبريزي إيصاله من فكرِهِ وعلومه، والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات استطاع وليام أن ينقلَ صاحبها من إلى النورِ الذي يُعرف به الآخرون، فالترجمة الجيدة تسلّط الضوء بشكل أفضل على المؤلف الحقيقي وتحفظ مكانتهُ الحقيقية وتوصلها إلى جموع القرّاء.[٦]


ديوان شمس تبريزي

يسمّى بالديوان الكبير، وهو مجموعة قصائد جمع فيها التبريزي كل ما قاله من شِعر في الغزل والحكمة ورباعيات تنطوي تحت موضوع واحد وهو موضوع العشق، وهي في اثنينِ وأربعين ألف بيت، وقد أشاد به المعاصرون في ذلك الوقت، إلا أنّه لم يحظَ بما حظيه مثنوي جلال الدين من شهرة واسعة، وقد اختار منه جلال الدين فيما بعد مجموعةً من القصائد ضمّها في قسمين، ترجمها إلى العربية الأستاذ الدكتور إبراهيم دسوقي شتا.[٧]


وفاة شمس التبريزي

أين النور الذي كان جلاء لأعماق القلب؟

كثُرتْ الغيرة القاتلة بين معارضي شمس تبريزي لما رأوه من اهتمام جلال الدين الرومي بصحبته ومحبته والأخذ عنه، فعاثوا فسادًا في العلاقة بينهما حتى يُطفئوا النورَ الذي يجمع كلًا منهما بالآخر، ولم تنجح محاولات شمس في إطفاءِ نار قلوبهم الحاقدة بالمآدبِ ومجالسِ الإنشاد وترقيقِ القلوب، إذ إنهم سرعان ما نَسوا ذلك وعادوا بثوراتهم التي غدت أسوأ من ذي قبل، وظل شمس يردد مرارًا بأنّه سوف يختفي عن الأنظار حتى يظنّ الناس بأنه قُتل، وبالفعل هذا ما حدث.[١]



في ليلةٍ ليلاء لم يعد أحد يعلم أين شمس تبريزي، قال كثيرون بأنه قُتل على يد أعدائه ثم ألقوه في البئر لكي يُخفوا فعلتهم، ويختلطَ على الناس خبر قتله باختفائه الذي كان مرارًا ما يفعله، وقال بعضهم إنّه قد اختفى بالفعل في مدينة خوي وتوفّي فيها إذ إنّ ضريحهُ قد بُني هناك، وإلى الآن لا توجد أخبار تجزم بأحد الرأيين.[١]



لم يكن جلال الدين يصدق أن شمس قد مات، وإنما كان على يقين بأنه قد ابتعد وهاجر كما هي عادته في السفر والترحال والابتعادِ عن العيون، وكان يصرفُ الجوائز لمن يأتي له بخبرٍ عن شمس إلى جانب بحثهِ عنه، وقد روى الأفلاكي أنّ رجلًا دخل عليه مرةً وقال إنّه رأى شمس، فخلعَ عليه جلال الدين عباءَته، فقيل لهُ: "إنّ الرجل يكذب، فلمَ أعطيتهُ كل هذا القدر مقابل كذبه؟ فقال جلال الدين: أعطيته هذا القدر مقابل كذبه، ولو صدقَ لكنتُ أعطيتُهُ روحي"[١] ، ويبقى شمس تبريزي رمزًا لا يمكن الوصول الكامل إلى معرفة أسرارهِ، أو وصفه بالشكل الأمثل وبالقدر الذي يستحق إلا من خلال العبارة الشهيرة: "وصفوهُ ولم يرَهُ أحد".[٨]

المراجع

  1. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص الدكتور محمد السعيد جمال الدين، قصائد مختارة من ديوان شمس تبريز لجلال الدين الرومي، صفحة 9. بتصرّف.
  2. علي محمد محمد الصلابي، الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد، صفحة 24. بتصرّف.
  3. "تعريف و معنى شمس في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني ، اطّلع عليه بتاريخ 11/02/2021م. بتصرّف.
  4. ^ أ ب خالد الحلاج، شمس تبريزي، صفحة 31 - 32 . بتصرّف.
  5. شمس تبريزي ، مرغوب القلوب، صفحة 5. بتصرّف.
  6. شمس تبريزي ، أنا والرومي، صفحة 2. بتصرّف.
  7. جلال الدين الرومي، مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي الجزء الأول، صفحة 7. بتصرّف.
  8. خالد محمد عبده، جوهرة كهف القلب، صفحة 10. بتصرّف.
5853 مشاهدة
للأعلى للسفل
×