منزلة الشعر عند العرب قديمًا وحديثًا

كتابة:
منزلة الشعر عند العرب قديمًا وحديثًا





منزلة الشعر في العصر الجاهلي

حظي الشعر عند العرب بمنزلة عظيمة قد لا تفوقها منزلة أيّ شيء غيره، فالشعر هو المصور لآلامهم وآمالهم، والمعبر عن مشاعرهم وأهوائهم، وقد استخدم العرب في الجاهلية الشعر لعدّة أغراض منها:

  • استخدموه في وصف بيئتهم وهي الصحراء بكلّ تجلياتها وعناصرها، من الرحلة فيها والأخطار التي تواجههم والحيوانات الصحراوية وغيرها.

ومثال ذلك قول الأعشى الكبير:[١]

دمنةٍ قفرة تعاورها الصي

ف بريحين من صبا وشمال.


  • كما وصفوا فيه الحروب فيما يعرف بشعر الحماسة.

مثال ذلك قول عمرو بن كلثوم: [٢]

أنذرت أعدائي غدا

ة قناً حداة الناس طرّاً

لا مُرعياً مرعى لهم

ما فاتني أمسيتُ حرّاً
  • ووصفوا كذلك المرأة معدّدين عناصر جمالها ومصورين هذا الجمال بما يقابلون في بيئتهم من ظباء وغزلان وأزهار، فيما يعرف بشعر النسيب والغزل.

مثال ذلك قول امرئ القيس: [٣]

خليليَّ مرّا بي على أم جندبٍ

نقضِّ لبانات الفؤاد المعذب

ألم ترياني كلما جئت طارق

وجدت بها طيباً وإن لم تطيبِ

عقيلة أتراب لها لا ذميمة

ولا ذات خلق إن تأملت جانب


منزلة الشعر في العصر الإسلامي والأموي

اختلفت منزلة الشعر في العصرين الإسلامي والأموي عمّا كانت عليه في العصر الجاهلي، ونوضّح فيما يأتي الأمر بالتفصيل:

العصر الإسلامي

حين دخل العرب في الإسلام، بدأ الشعر يأخذ منحًى مختلفًا، إذ تراجع الاهتمام به قليلاً حتى ضاقت دائرته في بداية عهد الإسلام، نظرًا إلى أنّ القرآن الكريم قد نفَّر من الشعر السيء والشعراء، ولموت العصبية وقوة الروح الدينية.[٤]


ثمَ بدأ يطرأ بعض الاختلاف على الشعر خاصةً من ناحية الموضوعات، حيث تأثر الشعر في العصر الإسلاميّ بالقرآن الكريم، وبأحوال الإسلام فصارت موضوعاته دينية تُوظف لخدمة الإسلام، وتتحدث عن التقوى وخشية الله، أو تصف الرسول عليه الصلاة والسلام وتتحدث عنه،[٤] كقول الشاعر حسان بن ثابت:[٥]

ما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يُفقدُ

ولا تمتحي الآيات من دار حرمة

بها منبر الهادي الذي كان يصعدُ


العصر الأموي

بدأت العودة إلى الشعر تزداد وتنتعش في العصر الأموي، وعادت مواضيع الشعر المعهودة من مدح ورثاء وهجاء وغزل، ولكن مع الصبغة الإسلامية التي اكتسبتها بعد دخول الإسلام، ومع التأثر بالقرآن الكريم والأفكار الإسلامية[٦].


وهنا لا نغفل عن ذكر ما طرأ على شعر الغزل تحديدًا، من توجُّه نحو التطهر والصفاء والبراءة، وتحوّل نظرة الرجل إلى المرأة إلى نظرةٍ أقرب إلى القدسية، وهذا كلّه مهّد لظهور الغزل العذريْ وشيوعه، فأصبح أكثر الشعراء الغزليين عذريين، ليس هذا وحسب بل ويستلهمون الأفكار الإسلامية في قصائدهم،[٦] ومن نماذج شعر الغزل في هذا العصر قول جميل بثينة: [٧]

إلى الله أشكو لا إلى الناس حبها

ولا بدَّ من شكوى حبيبٍ يروّعُ

ألا تتَّقين الله فيمن قتلته

فأمسى إليكم خاشعاً يتضرَّعُ


أمّا المديح، فقد تأثر كذلك بالأفكار الإسلامية، فقد انصبَّ في أكثره على مدح الفضيلة الدينية في الممدوح، وقد أكثر الشعراء من مدح الخلفاء والولاة، ورسم إطار دينيٍّ يمتاز بالتقوى والفضائل لهم،[٦] ومن هذا قول كثير في الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز والذي عُرِف بتقواه وفضائله:[٨]

وصدَّقت بالفعل المقال مع الذي

أتيت فأمسى راضياً كل مسلمِ

وقد لبست لبس الهَلوك ثيابها

تراءى لك الدنيا بكفٍّ ومعصم

فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما

سقتك مَدوفاً من سِمامٍ وعلقمِ


وبمثل تأثر المديح، تأثر الهجاء، إذ صار منصبًّا على ذكر ابتعاد المهجو عن الدين وعدم سلوكه دروب التقوى والفضيلة،[٦] ومنه قول ذي الرمّة يهجو طائفة من الشيعة:[٩]

أمّا النبيذ فلا يذعرك شاربه

واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء

قوم يوارون عمَّا في صدورهم

حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء

مشمّرين إلى أنصاف سوقهم

هم اللصوص وهم يدعون قراء


وكذلك تأثر شعر الحماسة بالصبغة الدينية، بل ربما يمكن اعتباره الأكثر تأثرًا، إذ صار في معظمه يُنظم في الجهاد والفتوحات، وشعر الرثاء كان له هو الآخر نصيبٌ من هذا التأثير، فطبع هو الآخر بالتسليم لله والرضا بقضائه، وتركزت المراثي حول المجاهدين الذين يستشهدون في سبيل الله في المعارك والفتوحات الإسلامية.[٦]


منزلة الشعر في العصر العباسي

حين بدأت الحضارة الإسلامية العربية تستقر في العصر العباسي، ترافق ذلك مع انتعاش الحركة الشعرية، وتوجّهها نحو التجديد وابتكار الموضوعات والمعاني المختلفة، كما كان لاتساع رقعة العالم الإسلامي، والاختلاط بالحضارات المختلفة دور في التجديد الذي طرأ على الشعر في هذا العصر.[١٠]


وقد لعبت الفلسفة والمنطق دورًا كبيرًا في تجديد الشعر في هذا العصر، نظرًا لازدهار علم الكلام وشيوعه وكثرة حاملي أفكاره، واطّلاعهم على الفلسفة اليونانية واتخاذها وسيلة للدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم.


ومن نماذج الشعر الفلسفي في هذا العصر قول أبي العلاء المعري: [١١]

أراني في الثلاثة من سجوني

فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي

وكون النفس في الجسد الخبيث.


وقد طال التجديد الشعريّْ كل الأشكال الشعرية، فبعد أن كان الرثاء القديم ينحصر في الأشخاص، صار في العصر العباسي يطال المدن المنكوبة، والحيوانات والطيور الميتة، ومن نماذج رثاء المدن قول الشاعر أبي يعقوب الخريمي في رثاء بغداد:[١٢]

يا بؤس بغداد دار مملكةٍ

دارت على أهلها دوائرها

أين غضائرها ولذتها

وأين محبورها وحابرها.


كما طرأ التجديد في شعر الغزل نتيجة الاتساع والاختلاط بالأمم، فظهرت مصطلحات الفحش وارتبط بوصف الخمرة، كما في قصائد أبي نواس.


أمّا شعر الوصف فيمكن اعتباره أهم الأشكال الشعرية التي طرأ عليها التجديد في هذا العصر، نتيجةً لتوسع رقعة الأمة الإسلامية، فبعد أن كان الشعر الجاهلي مقتصرًا على وصف الصحراء أصبح الشعر العباسي يصف القصور والبراك ووسائل التسلية واللهو.[١٣]


منزلة الشعر في عصر الدول المتتابعة

أطلق على الأدب في هذا العصر أدب عصر الانحدار، فقد تراجع الأدب جملةً، وتراجع الشعر تحديدًا، حيث كانت سمة هذا العصر هي التغير والتبدل من الناحية السياسية، فقد كان عصرًا مضطربًا غير مستقر رافقه شعور الناس بخيبة الأمل وضآلة مساحات الحرية.[١٤]


وهؤلاء لم يكن اهتمامهم منصبًّا على الشعر، بل لم يكترثوا بأمره حتى، مما دفع كثيرًا من الشعراء إلى ترك الأدب، وامتهان مهن كالنجارة والحدادة والجزارة ليتمكنوا من العيش.[١٤]


وقد أسهمت الحروب والانقسامات المتعددة في هذا العصر وما كان فيه من تبدل الدول، وسيطرة الدولة العثمانية، إلى تحوّل الشعر إلى سجل تاريخيّْ، يدوِّن انتصارات المسلمين، وكذلك آلامهم وهزائمهم وما يعانونه من ويلات الحروب والانقسامات.[١٥]


وكذلك ساهمت الحروب الصليبية في كثرة الشعر الداعي إلى استنهاض الهمم والحث على الجهاد لإعادة الأراضي المسلوبة،[١٥] كما في القصيدة الشهيرة مرثية القدس للأبيوردي والتي يقول في مطلعها:[١٦]

مزجنا دماً بالدموع السواجم

فلم يبقَ منا عرضة للمراجم

وشرُّ سلاح المرء دمعٌ يُريقه

إذا الحرب شبَّت نارها بالصوارم


منزلة الشعر العربي في العصر الحديث

لم تتراجع أهمية الشعر في هذا العصر لكن كان المؤثر الأهم فيه هو الاحتكاك مع الأدب الغربي وهذا نتج عنه مجموعة من التغييرات مثل[١٧]:

  • اختفاء بعض الأغراض الشعرية القديمة من المديح والهجاء وغيرها.
  • تحول الشعر نحو الأغراض الوطنية والقومية والاجتماعية وارتباطه بحياة الناس.
  • ظهور الشعر المسرحي والمدارس الشعرية الحديثة.
  • التجديد في الأوزان والقوافي ونشأة الشعر الحر.


المراجع

  1. الأعشى، "ما بكاء الكبير بالأطلال"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  2. عمرو بن كلثوم، "أنذرت أعدائي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  3. امرؤ القيس، "خليليّ مرا بي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  4. ^ أ ب "الشعر في عصر صدر الإسلام"، لغة الضاد، اطّلع عليه بتاريخ 19/4/2022. بتصرّف.
  5. حسان بن ثابت، "بطيبة رسم للرسول"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  6. ^ أ ب ت ث ج شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي: العصر الإسلامي، صفحة 176 - 182. بتصرّف.
  7. جميل بن معمر، "أهاجك لا أم بالمداخل مربع"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  8. كثير عزة، "عرّج بأطراف الديار وسلّم"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  9. ذو الرمة، "أما النبيذ فلا يذعرك شاربه"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  10. مصطفى الشكعة (1979)، الشعر والشعراء في العصر العباسي (الطبعة 1)، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 7 - 8. بتصرّف.
  11. "أراني في الثلاثة من سجوني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  12. أبو يعقوب الخريمي، "قالوا ولم يلعب الزمان بنا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  13. "قضايا من الشعر في العصر العباسي"، جو أكاديمي، اطّلع عليه بتاريخ 19/4/2022. بتصرّف.
  14. ^ أ ب علي حسين الهنداوي (21-12-2007)، "أدب عصر الانحدار"، صوت الوطن، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022. بتصرّف.
  15. ^ أ ب أ.د أنور الموسي (7-4-2020)، "أغراض الشعر التقليدية في أدب الدويلات"، مجلة إشكاليات فكرية، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022. بتصرّف.
  16. الأبيوردي، "قصيدة الأبيوردي عن القدس"، المسالك، اطّلع عليه بتاريخ 5-1-2022.
  17. علي حسين الهنداوي، الشعر في عصر النهضة الأدبية، صفحة 10-30. بتصرّف.
4718 مشاهدة
للأعلى للسفل
×