ماذا تعني لك الأسرة؟
في كلّ مكانٍ وفي كلّ زمان تكونُ النّواةُ الأولى للمجتمعات هي العائلة التي يضمّها منزلٌ، فتتجمّعُ في المساء حول مائدة الطعام، وتشتركُ مع بعضها في يوميّات الحياة، فتكونُ بهذا المعنى أساسًا لكل فردٍ في إنشاءِ بيئته التي تتكوّن منها شخصيّته، ويعمل بمضمونها على تنشئة الجيل الذي يربّيه حين يكوّن أسرته الخاصة.
وإذا ما فكّرَ الإنسانُ بالمعنى العام لهذه الكلمة، وتساءلَ بينه وبين نفسه: "ما هي العائلة؟ وكيف يتكوّن سرّ ارتباطها ببعضها؟" أجابتْه الملاحظةُ بأنّ الأسرة بمفهومها الشامل تعني جماعةً من الأشخاص التي يربط بينها صلة قرابة، تنحدر من زواج شخصين، فتكوّن عددًا من الأبناء، فيكون الجامع الأوّل لهذه الجماعة هو رابطة الدّم. أما مجموعُ الأُسَر فهو ما يشكّل مجتمعًا يأخذ بصفاته وبيئته نمطًا من الأنماط الحياتية، ويبقى في تطوّر وتبدّل مستمرّ من خلال تبادل العلاقات والمنافع بين أفراده. فالأسرة هي المنشأ الأول للعواطف السليمة بين الأفراد، والتفعيل الأول لدور الفرد الاجتماعي، والوسط الطبيعيّ الأول لنشأة الحضارات.
تعملُ الأسرة في مضمار تأمين الحاجات البشرية التي لا يستطيع المرء العيش دونها، كالطعام والشراب واللباس والتواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الآخرين، ومن خلال ذلك تعمل كل أسرة في ما بينها على تلبية احتياجات أفرادها الفطرية والنفسية والروحية، وتعمل أيضًا على تعليم أفرادها حسب المستوى العلمي الذي يسود المجتمع نفسه، ومن خلال ذلك تُعنى بغرس القِيَم الاجتماعية في ذات الفرد لكي يحقق ما يصبو إليه، وتحاول أن تحمي الفرد من الوقوع في المشكلات الجسدية والنفسية.
تكتسب الأسرةُ أهمّيتها القصوى من كونها اللبنة الأساسيّة لتكوين المجتمع، فالأسرة التي تتكوّن من أبٍ وأمّ ناجحَين في تكوين علاقة صحيحة وإحاطة الأبناء بالبيئة الملائمة للنجاح والتربية السليمة تساهمُ في تكوين مجتمع سليم ينهض بأبنائه نحو النهضة والتطوّر والعيش الكريم، أما الأسرة التي تُبنى على الشتات وعدم التوافق تتمزّقُ وتتركُ خلفها أبناءً يُعانون صعوبات الحياة، مما يؤثر على تحصيلهم العلمي وصحّتهم النفسية والجسدية، وبالتالي تساهم هذه الأسرة الممزقة في هدم ما يسعى المجتمع إلى بنائه من الترابط الأسري، والتآلف بين أفراد المجتمع جميعهم. وبهذا تتّضح أهميّة الأسرة في المجتمع، حيث يُمكن أن تُعدّ بذرةً ينطلقُ ازدهار المجتمع كله من محيطها، وتنبضُ بين جُدرانها كل معاني الحياة.
وإذا ما نظرنا من المنظور الإسلامي نجد أن الإسلام قد عُنِيَ كثيرًا بإنشاء الأسرة السعيدة، فوضع القوانين والقواعد التي تضمن للزوج حقه وتضمن للزوجة سعادتها، كما تضمن للأبناء حقوقهم، وتحثُّ على تربيتهم تربية سليمة، فبيّن الإسلامُ عظيمَ أجرِ الساعي إلى بناء الأسرة الصالحة.
ومن الأمثلة على ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٌ جارية، أو علمٌ يُنتَفَعُ به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له"[١]، وفي هذا الحديث معنى عظيم من معاني ديمومةِ الأجر والثواب بوجود ولد صالح ذو تربية سليمة يدعو لوالده. ومن ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّتهِ"[٢]، أي كلّ إنسانٍ سيُسألُ يومَ القيامةِ عن أسرته التي كان مسؤولًا عن تربيتها في الحياة الدنيا، فيُجزَى بحسبِ ما عمِل. وفي كثير من المواضعِ في القرآن الكريم وفي السنة النبوية كان الحثُّ على رعايةِ الأهل والتعليم والأخلاق عنصرًا مهمًّا في تحصيل الأجر والثواب العظيم ورضوان الله تعالى.
كما يشير النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى معنى عظيم في العقيدة الإسلامية حين يقول: "كل مولودٍ يولدُ على الفطرة، فأبواهُ يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"[٣]، ففي هذا الحديث معنى أهميّة تربية الأبوين في غرس العقيدة عند الطفل، فإذا لم تكن العقيدة سليمة فلا يمكن أن يكبر الطفل على العقيدة الصحيحة.
ما هي عوامل نجاح الأسرة؟
يُعدُّ نجاحُ الأسرةِ أوّل مبشّرٍ باستقامة المجتمع واكتمالِه، وإذا كان صلاحُ المجتمعِ مرهونًا بصلاحِ الأُسرِ التي يحتويها، فإنّ صلاح الأسرةِ أيضًا مرهونٌ بصلاحِ الأفراد التي تحتويها وتتكون منها، ومن هذا المُنطلق حثَّ الإسلام على رعاية كل عنصر من عناصر الأسرة ليكون قائمًا على مسؤوليّاته بأفضل ما يُمكن، فوضع الضوابط للرجل كي يحافظ على حقوق زوجته من الظلم أو الضياع، ووضع الضوابط للزوجة كي تكونَ ضمنَ قوامةِ الزوج حفاظًا عليها وحمايةً لها، ومنع من قتل الأب أو الأم لأطفالهما كما كانت عادة الجاهلية، إذ كانوا يئِدونَ البنات، ويقتلون أولادهم خشيةَ الفقر، فأنزلَ تعالى في القرآن الكريم قولَه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا}[٤]
وهنا أشار المفسّرون إلى لفتةٍ لغويّة مُدهشة، تتجلى بأنّ الله تعالى يرزقُ الأبناء قبل أهلهم، فرِزقهم يصلُ إليهم بتوفيق الله تعالى ثم يكون رزق الأهل بمعيّتهم، وهو تحذير صريح موجّهٌ للحفاظ على الأسرة من الدمار والقتل. من ذلك تنطلق أولى الأساسيّات المُحافِظة على تكوين الأسرة بحد ذاته، وعلى وجودها واستقرارها.
ومن عوامل نجاح الأسرة استثمار الوقت والبُعد عن الفراغ، فالفراغ أصل كل مفسدة، وعندما تكون الأسرة متعاونةً فيما بينها لتحقيق هدفٍ من الأهداف تتضافر الجهود في سبيل تحقيق ذلك الهدف، أما حين يكون الوقت ضائعًا بلا هدف مُشترك يُسهم الفراغ في إظهار المشكلات والسلبيات، وتضيّع الأسرة فرصة أفرادها في تطوير مهاراتهم واستثمارها في تحسين الوضع الاقتصادي والعلمي والاجتماعي على الصعيد الأسري الخاصّ والاجتماعي العام.
من جهة أخرى لا بدّ من اعتماد المنهج الإسلامي القويم أيضًا في تنظيم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، فلا يظلمُ أخ أخاه ولا أخته، ولا يتعدّى على حقوقه، بل يعامله بالإحسان والإكرام والمودّة، ويحميه ويُدافع عنه إذا تعرّضَ لمكروه، ويعاملهُ معاملة حسنةً ارتكازًا على العقيدة السليمة التي يؤمنُ بها، وهي أنّ الحياة الدنيا ليس لها دوام، وما هي إلا مرحلة عابرةٌ لدار البقاء وهي الدار الآخرة، ولا تنفع الشحناء والبغضاء إلا في حرمان الإنسان من المنازلِ العالية في الآخرة.
وإذا ما نظرنا إلى المجتمع نفسه وجهوده في عمارة مكوّناته سنجد أنه لا بد من تعاون جميع المؤسسات التي تُعنى بالصلاح الأسري والاجتماعي، وتكريس جهودها للتعاون مع أبناء المجتمع المسؤولين عن الأُسر الصغيرة وإعانتهم في تنشئة الجيل الجديد الذي يحتاج جميع المقوّمات النقيّة والجيّدة ليستطيع استثمار طاقاته فيما بعد بالوجه الأمثل، ويكون مِعطاءً نافعًا في المستقبل.
ما هو دور الأسرة للمجتمع؟
تكوِّنُ الأسرةُ كما تقدّم اللبنة الأولى في صلاح المجتمع، وتقدّم خلاصتها البيئية والاجتماعية والعلمية ضمن إطار السلوك الذي تقوم به الأفراد، فتعمل القيم والأخلاق والتحصيلات العلمية والفكرية في رفع مستوى كفاءة المجتمع وملاءمته للتطور ومواكبة النهضة العالمية على المستويات كافّة. فعلى الصعيد الصحّي تساعد الأسرة الناجحة على الحدّ من انتشار الأمراض النفسية وما تسببه من أمراض جسدية مختلفة، كما تسهم في الحد من الأفكار السلبية لدى الناشئة التي يسببها فشل زواج ذويهم أو أهلهم، مما يؤدي إلى تناقص نسبة العلاقات الشرعية وزيادة العلاقات غير الشرعية، وتفشي الأمراض والفساد في المجتمع.
ومن جهة أخرى تؤمّن التربية السليمة للأطفال سلسلة طويلة من التربية التي لا يمكن للمجتمع أن ينهض دونها، فالجيل الذي يحمل القيم الأخلاقية العالية لا بد أن يربّي أطفاله فيما بعد على القيم الأخلاقية المناسبة، بينما انحدار التربية في جيل من الأجيال سيؤدي إلى تدهور في مستوى التربية العام، مما يجعل العلاقات الاجتماعية أكثر أنانية، وينزع التراحم بين الأفراد، ويساعد على سلب الحقوق وظلم الآخرين.
كما تقدّم الأسرة الناجحة بمستواها العلمي والفكري مساحةً واسعة للتقدم الفكري للمجتمع من خلال حرية التعبير والرأي، والتي من خلالها يتم تفعيل دور الفرد في النهضة الفكرية وإقامة المؤتمرات والندوات الثقافية، ومما لا شكّ فيه أن المجتمع الذي يهتمّ بالعلم والتعليم ورفع المستوى الفكري لا يكون بعيدًا عن الصواب أو بناء المجد، لأن العلم أساسُ الأمجاد والحضارات.
ومن ذلك كلّه يتبيّن أن الأسرة قد تُهمل رعاية بعض أفرادها مما يؤدي إلى اضطراب في الحركة المجتمعية السليمة، وهنا يتجلّى دور الوعي في الحفاظ على الرعاية الأسرية، وتمتين الصِّلات والروابط للأفراد فيما بينهم ليكونوا قادرين على صنع المادّة الخام لبناء المجتمعات، ويدركوا أهميّة هذه اللبنة الصغيرة، وأهميّة كل فرد من أفرادها مهما كان عمره أو ميوله، ومهما كانت مستوى طاقاته وقدراته، ومما يؤكد هذه الأهميّة أن معظم الدول التي تسعى إلى دمار الدول الضعيفة تبدأ من تهديم الأسرة فكريًا ونفسيًا واقتصاديًا وسياسيًا، لأنّ تهديم الأسرة يعني تهديم المجتمع بأكمله بلا شكّ.[٥]
المراجع
- ↑ رواه ابن تيمية، في مجموع الفتاوى، الصفحة أو الرقم: 1/191، حديث صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الأدب المفرد، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 151، حديث صحيح.
- ↑ رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 10241.
- ↑ سورة الإسراء، آية:31
- ↑ محمد الكدي العمراني، فقه الأسرة المسلمة في المهاجر، صفحة 201. بتصرّف.