وصف الأم الحنون
أوَّل عهدنا بالدُّنيا هي، وأوَّل ما تمسكه ذواكرنا، والقبلة الأولى منها وإليها قبل أن نعرف معنى القُبَل، مبتدأ الحياة معها ومنتهاها على ذكرها وصورتها حيَّةٌ كانت أم لا، فإنَّ فضلها لا يُنسى وحبَّها لا يعوَّض في حبِّ أحدٍ وحنانها عصيٌّ على النُّكران حتَّى على النَّفس القاسية، فهي مَن تكابد الهمَّ لأجلنا منذ أن نكون صغارًا إلى أن نشبَّ وحتَّى آخر حياتها، لا يشغلها أمرٌ غير إسعادنا وراحتنا وإن قست تقسو سعيًا لذلك وخوفًا منَّا على ما سواه من كدرٍ وحزن، فكلُّ ما تبذله الأمُّ ينبع من قلبٍ محبٍّ وعاطفةٍ صادقةٍ، وما كان سوى ذلك لا يستوي مع الفطرة السَّليمة الَّتي فطر عليها البشر.
في دموعها حكاية حبٍّ طويلٍ وفي رجفة الأيدي المتعبة تفاصيل همٍّ وسهرٍ عانته لتبني وتربِّي، في عيونها دنيا كاملةٌ وهي أصلُ الدُّنيا وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، إذ لا حياة بلا أمٍّ ولا إنسان دونها ولا حبَّ ولا عطاء، فهي من تُكابد آلام المخاض وهي من تسهر اللَّيالي لتبني إنسانًا جديدًا يأخذ من حياتها حياته ومن سعادتها سعادته، وقد كتب الشُّعراء الكثير عنها وأكبروا عطاءاتها، وربَّما كان بيت حافظ إبراهيم من أشهر ما قيل في الأمِّ حيث قال:[١]
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها
- أعددت شعبًا طيِّبَ الأعراقِ
هي أساس المجتمع وصلاحه من صلاحها فإن فسدت فسد، والأمومة مسؤوليَّةٌ وتكليفٌ وليست مجرَّد تشريفٍ للمرأة، فالنَّاس لا يجلُّون كلَّ أمٍّ ولا يرفعون شأن كلِّ من ولدت ولدًا، فأصل الأمومة وجوهرها في حسن التَّربية والعناية بالولد وتحمُّل مسؤوليته بالتَّعاون مع الأب، إلَّا أنَّها على الأمِّ أصعب فهي من تقوم بشؤون ابنها منذ ولادته في إرضاعه وتنظيفه ومراقبته وتعليمه الكلام ثمَّ إعانته على شقِّ طريقه كلَّما كبر إلى أن يصبح مسؤولاً عن نفسه دون أن تغفل عين الأم عن ابنها ودون أن يجفَّ حنانها، فحبُّها لا يزول بزوال واجباتها تجاه أبنائها بل إنَّه في ازديادٍ دائم لا انتهاء له سوى بالموت وربَّما استمرَّ بعده.
أمٌّ هي، حرفان يتجاوزان حدود الكلام ويتَّسعان لمعانٍ كبيرةٍ، على صدرها رسمت أولى الذِّكريات وبين يديها كانت أولى الخطوات، مستودع الأسرار هي ومأمن الإنسان، حين تضيق عليه الأرض ومستراحه، حين تأكله الهموم، فمن لنا غيرها حين نبكي ومن لنا سواها حين نبتسم ونحظى بسعادةٍ كبيرةٍ، فإنَّها تأسى لهمومنا أكثر منَّا وتسعد لفرحنا أكثر فهي ترى حياتها بحياتنا فتصير مشاعرها مشاعرنا، فطُوبَى لمن نبض قلبنا نبضاته الأولى في رحمها وضحكنا ضحكاتنا الأولى في حضنها وسقطنا فأعانتنا ومرضنا فراعتنا، فلولاها لما كُنَّا ولو كنَّا لولاها فيا ليتنا ما كنَّا فإنَّها الهناء والحبُّ والإيمان الأوَّل بالنَّاس هي.
فضل الأم على أبنائها
عزيزٌ هو العمر ولا شيء أعزُّ على الإنسان من حياته، إلَّا أن حياة الأمُّ تهون دون أيِّ شيءٍ يسعد أبناءها، فمنذ أن تلد الأمُّ ولدها تتنازل عن هنائها لصالح هنائه وعن وقتها لما ينفعه وتتخلَّى عن راحة بدنها وفكرها وتسعى لراحته، فهو قطعةٌ من جسدها وروحها وترى فيه مع الوقت قطعةً من تاريخها وعمرها، فمنذ أن تلده يصبح شغلها الشَّاغل وتختصر فيه الدُّنيا بما فيها ولا تستكثر عليه عطاءً ولا يعزُّ عليها شقاءٌ، ولا تختصُّ وحدها بذلك فيشاركها الأب في فضلها وعطائها ويعينها على حسن التَّربية والرِّعاية، فإن وفِّقَت إلى زوجٍ صالحٍ للأُبوَّة كانت الأمومة عليها أيسر واللَّيالي أهنأ فالمسؤوليَّة تهون بالمشاركة والحمل يخفُّ بالعون.
لا تتلخَّص عطاءات الأمِّ في السَّهر والتَّعب الجسديِّ والرِّعاية في مراحل الطُّفولة الأولى، ولا تتوقَّف مآثرها عند ذلك بل إنَّ روحها ودفء تفاصيلها هو ما يرسخ في الوجدان، فتسكن التَّفاصيل حتَّى تستوطن الذَّاكرة فهي كوب الحليب وشطائر الجبن وعرائس الزَّعتر، وهي فنجان القهوة وفُلَّة الدَّار ورائحته وهي ترتيب الأواني وبَسطُ السَّجاد وجمع الحطب في ليالي الشِّتاء، كلُّ تلك الأشياء تغدو مقرونةً بالأمِّ وحدها مهما رأى الإنسان وأينما سافر لا ينسى تلك التَّفاصيل الدَّافئة الَّتي كانت يومًا هناءه الكبير حين كان صغيرًا، وفي ذلك قال الشَّاعر الدِّمشقيُّ نزار قبَّاني:[٢]
- أيا أمِّي
- أنا الولد الَّذي أبحر
- ولا زالت بخاطره
- تعيش عروسة السُّكَّر
الحنين إلى الأمِّ وتفاصيل الطُّفولة الَّتي تصنعها لا يفارق الإنسان حتَّى لو دار الدُّنيا، فهي أوَّل عهده بالسَّعادة وأوَّل ما يختبره من رفاه تصنعه بيديها وقلبها وكلماتها، ومهما رأى الإنسان من فضل الله عليه لا ينسى أوَّل فضلٍ عاشه في كنفها ولا ينسى نعمة الله الأولى في حياته حين رزقه نعمة رؤيتها والاستقاء من حنانها، فإنَّ أصعب ما يمكن أن يمرَّ به هو حرمان هذه النِّعمة والابتعاد عن حضن الأم الَّذي لا يعوِّضه حضنٌ وعن حبِّها الَّذي لا ينفد وإنَّما هو في ازدياد ما كانت حيَّةً، فإنَّ أوَّل الحظ هو الأم وآخره طولٌ في عمرها وبركةٌ في صحَّتها، ولو أردنا أن نبدِّل السَّعادة بأيِّ كلمةٍ ثانيةٍ لكانت الأم.
حين ينجح الإنسان في حياته ويحقِّق شيئًا مهمًّا ويصبح ذا شأنٍ رفيعٍ فإنَّ مردَّ نجاحه إلى أبويه، وتختصُّ الأمُّ بهذا الفضل كونها تحمل الهمَّ الأكبر والعناء الأكثر، فمن حقِّها على أبنائها أن يذكروا فضلها ولا ينكروه وأن يكبروها ما أكبرتهم الحياة ويجلُّوا عطاءاتها ولا يغرُّهم الوصول ولا يُؤخذوا بالدُّنيا فينسوا أصل وجودهم فيها، فالإنسان الكريم لا ينسى مَن أكرمته بروحها وعمرها ورفعت مصلحته فوق كلِّ المصالح وآثرته عن نفسها في كلِّ شيءٍ، فإنَّ الأمَّ ليست من تبني الجسد بل من تبني العقل والقلب فتسهم في بناء مجتمعٍ سليمٍ متوازنٍ أقلَّ شرًّا وأكثر خيرًا.
واجبنا اتجاه الأم
إنَّ أقلَّ ما يمكن أن نكافئ به أهلينا هو العرفان بما كان منهم من فضلٍ وشُكر هذا الفضل وردُّه بأبسط صوره بالرِّعاية وسعة الصَّدر والكلمة الطَّيِّبة وخاصَّةً حين تتقدَّم بهم العمر والأمُّ حين تهرم تصبح أكثر شفافيَّةً وأكثر حساسيَّةً تجاه الأشياء فتلزم مراعاتها وتحمُّل انفعالاتها واحتواء رقَّتها بالحنوِّ والعطف، فإنَّ الآباء حين يكبرون يعودون أطفالاً بمشاعرهم وأحاسيسهم ومن حقِّهم أن يردَّ فضلهم بالحبِّ والرِّعاية والصَّبر، وأكبر سعادةٍ يشعر بها الآباء حين يروا ثمار تعبهم ورعايتهم لأبنائهم بحسن الخلق والتَّقدير والسُّمعة الطَّيِّبة، فتلك الأشياء أعمق من الشُّكر عندهم وأهمُّ من القول الصَّريح بفضلهم.
تقرُّ عين الأمِّ بأن ترى أبناءها ناجحين وبالغين لدرجاتٍ عاليةٍ في العلم والمعرفة، فإنَّ التَّعب والتَّضحية كلَّها تغدو مفخرةً لها حين ترى جنى هذا التَّعب وتلمس آثار التَّضحية، وتشعر أنَّها بنت إنسانًا ذا قيمةٍ وساهمت في المجتمع إسهامًا جيِّدًا بما قدَّمت له من أبناء صالحين مؤثِّرين وبناةٍ غير مخرِّبين، فإنَّ هذا ينسيها التَّعب ويطوي عنها عناء الأيَّام ويعزِّز ثقتها بنفسها كونها شخصًا قادرًا على التَّربية الصَّالحة والإسهام في جعل الحياة أجمل، لتستذكر كلَّ أيَّامها الَّتي تعبت فيها ولياليها الَّتي سهرتها بكلِّ رضىً وسعادةٍ لأنَّ أبناءها قد استحقَّوا كلَّ تلك العذابات الَّتي كانت لأجلهم.
ليس أصعب على الأمِّ من الشُّعور بأنَّ جهدها قد ذهب أدراج الرِّياح وأنَّ أبناءها قد عقُّوها بعد أن برَّت بهم وتنكَّروا لها بعد أن كان منها العرفان متمثِّلاً بالحبِّ والرِّعاية، وليس أقسى عليها من أن ترى أبناءها قليلي القيمة وسيِّئي السُّمعة بين النَّاس، فإن ذمَّهم النَّاس فكأنَّما يذمُّونها وإن ازدروهم فكأنَّما ازدروها، كيف لا وهم خلاصة جهدها وتعبها في الحياة، وأكثر ما يكسر قلب الأمِّ أن يتضجَّر أبناؤها منها حين تكبر ويستثقلوا رعايتها بعد أن رعتهم ويستكثروا عليها الحبَّ بعد أن علَّمتهم الحبّ، فما أقساها من لحظاتٍ حين يصير الإنسان عبئًا على من قدَّم لهم حياته وأفنى لأجلهم عمره فاستكثروا عليه بعض أعمارهم.
الوفاء طبعٌ غالبٌ فإن انعدم في صاحبه فلا سبيل لزرعه فيه، وليست الأمُّ مسؤولةً دائمًا عمَّا يصدر من أبنائها خيرًا كان أم شرًّا، فربَّما تحاول جهدها في جعلهم أحسن الخلق ولا تفلح، فالنَّاس طبائعُ لا تتشابه ولا تستوي مهما حاول المحاولون، والأبناء الأبرار رزقٌ كما أنَّ الآباء الأبرار رزقٌ أيضًا، فمن حسن طالع الإنسان أن يرزق بوالدين خلوقين وطيبين وناجحين وقادرين على حسن تربيته، ومن حسن طالع الآباء أن يرزقوا بالأبناء الأبرار ويوفَّقوا في جعلهم أشخاصًا بنَّائين وفاعلين في المجتمع، ومحظوظة هي تلك الأمُّ الَّتي تُمنى برؤية أبنائها على أحسن حالٍ وقد كبروا وعرفوا قيمة فضلها عليهم فردُّوا ما استطاعوا أن يردُّوا، وإنَّهم مهما استطاعوا فلن يردُّوا منه إلَّا القليل.
ربَّما نجد في قصَّة توماس أديسون خير دليلٍ على فضل الأمِّ ومدى تأثيرها في تغيير شكل الحياة، فهذا الرَّجل العبقريّ طُرِد من المدرسة في طفولته فلم تخبره أمُّه بهذا القرار ولم تستسلم للواقع، فقامت بمتابعة تعليمه بنفسها ووفَّرت له ما يلزم من كتبٍ ومجلَّداتٍ ثمَّ خصَّصت له غرفةً لتجاربه إلى أن صار عالمًا ومخترعًا كبيرًا حفر اسمه في تاريخ البشريَّة[٣]، وقد اعترف بفضل والدته ولم ينكره وممَّا قال فيها: "أمِّي هي من صنعتني، لأنَّها كانت تحترمني وتثق بي"[٤]، ولو لم يتلقَّ أديسون تلك الرِّعاية والثِّقة لما وصل إلى مكانته المهمَّة في العالم ولما أحدث فرقًا، فالأمر يبدأ وينتهي في بطون الأمَّهات وأحضانهن وعيونهنّ.
لقراءة أجمل الاقتباسات التي قيلت في الأمّ، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: كلمات عن الأم.
المراجع
- ↑ "كم ذا يكابد عاشق ويلاقي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 9/12/2020.
- ↑ "خمس رسائل إلى أمي-نزار قباني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 9/12/2020.
- ↑ "قصة توماس أديسون مع أمه"، صناع المال، اطّلع عليه بتاريخ 9/12/2020. بتصرّف.
- ↑ "توماس أديسون .. أمي هي التي صنعتني"، أقوال وحكم الفلاسفة، اطّلع عليه بتاريخ 9/12/2020.