صور الإخلاص في العمل
الإخلاص في العمل من أعظم الأمور التي يجب الالتزام بها، لما لها من أثر طيب في حياة الفرد والمجتمع بأكمله، ويبدأ إخلاص الإنسان بأن يكون مخلصًا لربه في قيامه بالعبادات على أكمل وجه وأفضل صورة، وهي أعظم صور الإخلاص، كأن تكون صلاة المسلم خالصة لوجه الله تعالى فيها خشوع تام ودون أي رياء، وأن يكون صيامه مطهرًا من أي رياء أو نفاق أو استعراض أمام الآخرين، وأن تكون الصدقة لوجه الله تعالى وحده، أي مخفية لا يعلم بها أي أحد لتكون خالصة دون أي طلبٍ للمدح والثناء من الآخرين، لهذا يجب أن يكون الإخلاص في العمل غاية ووسيلة في الوقت ذاته.
من الإخلاص الذي يظهر في العبادات أيضًا أن يكون الحج والعمرة بنية خالصة لله، فالبعض يذهبون للحج أو العمرة لأجل الفسحة أو طلب المدح من الناس، ومن صور الإخلاص في العمل التي حدثت في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما هاجر المسلمون معه من مكة إلى المدينة، وصف الهجرة التي تكون بينة خالصة لله ورسوله بأنها الهجرة التي ينال فيها المهاجر الأجر والثواب، أما الهجرة التي تكون بهدف المال أو الشهرة أو الزواج فالله تعالى يُحاسب صاحبها بحسب نيته، والنوايا لا يعلمها إلا الله تعالى.
قد يقرأ العبد القرآن الكريم ويكون في نيته شيء آخر غير الإخلاص لله تعالى في النية، وهذا يُسقط قيمة العمل، أما الإخلاص في العمل الوظيفي يجعل العامل يتغاضى عن جميع المغريات المادية والمعنوية وتكون نيته رضا الله فقط، ويظهر فيها مقدار الإخلاص في القول والعمل، ومن الأمثلة على هذا عندما يعمل الطبيب بمثابرة واجتهاد بنية خالصة لوجه الله تعالى، ويُعالج المرضى وهو يلتمس رضا الله بتخفيف الألم عنهم وليس فقط بدافع الحصول على المنصب أو المال، وأن يجتهد المعلم في تعليم طلبته بكل ما أُوتي من علم بنية نقية هدفها رضا الله.
تظهر صور الإخلاص الحقيقي عندما تنعدم الرقابة الخارجية على الإنسان، ويكون حر التصرف، فإن أدّى عمله على أكمل وجه كانت نيته خالصة وطيبة وتقبله الله تعالى بالأجر والثواب، لهذا لا يعلم أي أحد مدى إخلاص الشخص في العمل سواء في العمل الوظيفي أم في العبادات إلّا الله تعالى، وعلى المسلم أن يجتهد بالإخلاص وأن يحرص على تجسيد جميع صور الإخلاص بأفضل صورة، وأن يقتد بالأنبياء والصحابة والتابعين الذين أخلصوا النية لله تعالى وفازوا في الدنيا والآخرة، على عكس من تاجروا بدنياهم ونسيوا دينهم.
أهمية الإخلاص في العمل
للإخلاص في العمل أهمية كبرى لا يمكن التخلي عنها، وهذه الأهمية تنبع من كون الإخلاص هو ميزان للتفاضل في الأعمال يوم القيامة، فقد يأتي الكثير من الأشخاص يوم القيامة وهم يظنون أنهم عملوا الكثير من الأعمال، لكنهم لم يخلصوا فيها ولم تكون نيتهم لله، بل كانت لأجل الحصول على منافع دنيوية، فيصبح عملهم هباءً منثورًا، أما العمل الذي يكون خالصًا لوجه الله تعالى فيكون مثمرًا حتى لو كان صغيرًا أو قليلًا، المهم أنه لم يُخالطه أي نية لغير الله تعالى، ولهذا فإنّه طريقة للوصول إلى العمل المتقن الذي لا تشوبه شائبة أبدًا.
الإخلاص في العمل من صفات المؤمنين الصادقين الذي صدقوا عهدهم ووعدهم مع الله تعالى، خاصة أنّ المخلص في عمله سواء كان هذا العمل عبادة أم عمل وظيفي لا يلتمس إلا رضا الله تعالى، ولا يطلب الثناء والمديح من أحد أو من باب التفاخر، وهذا بحدّ ذاته يجعله قويًا وواثقًا من نفسه، لا يهمه العباد بقدر اهتمامه برضى الله وحده، كما أنّ الإخلاص منمكارم الأخلاق التي أمر الله تعالى الالتزام بها، والإنسان المخلص في عمله تكون سريرته نقية، وذهنه صافٍ لأنه خرج من حب الدنيا وطلب رضا الناس، فالناس لا يرضون عن بعضهم إلّا وفق الأهواء والمصالح الشخصية.
لو أخلص جميع الناس في أعمالهم لسارت عجلة التطور بشكلٍ أسرع، خاصة في العمل الوظيفي الذي يجب أن يؤديه أصحابه بإخلاصٍ تام وإتقانٍ كامل حتى يكون صحيحًا دون أخطاء، فلو أخلص المصنّعون في الصناعة لما تعرضت المصنوعات للتلف السريع، ولو أخلص العامل في التنظيف لما اضطر الناس للاستعانة بعاملٍ آخر لإعادة التنظيف، لهذا فالإخلاص مجدٍ من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية، والدول التي يُخلص أبناؤها في خدمتها تكون متطوّرة لا تخشى الأعداء أو الغدر أو الخيانة، لأنّ الجميع فيها يعملون بمثابرة واجتهاد، ويكون هذا العمل نابع من أعماقهم.
الإخلاص في العمل بالقرآن
ذكر الله تعالى الإخلاص في العمل في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وأسماها أن يخلص الإنسان في الدين لله تعالى، وفي هذا قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}[١]، لهذا تتجلى معانيه في أسمى وأروع موقف عندما تقترن بالدين وأداء العبادات، وهذا يعني أن يكون دين المسلم بريئًا من الشرك والمراءاة وطلب الثناء من الناس، بل لوجه الله تعالى فقط، ومن قصص الإخلاص التي ذُكرت في القرآن الكريم ذكرت في قصة يوسف عندما حاولت امرأة العزيز أن تغوي النبي يوسف -عليه السلام- لفعل الفاحشة، لكن إخلاصه لدينه وربه منعه من هذا رغم أنّه لم يكن مراقبًا من أحد.
في سورة البقرة ذُكر الإخلاص أيضًا وكيف أنّ المؤمن ينتمي لدينه ويفتخر بإخلاصه لله تعالى، ويظهر هذا في قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّـهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}[٢]، كما سميت سورة كاملة في القرآن الكريم باسم الإخلاص، والتي تُعدّ آياتها إقرارًا كاملًا بوحدانية الله تعالى، ومن قرأها وهو مقتنعٌ بها كان دينه خالصًا لله، وإسلامه مخلصًا ليس فيه أي شرك أو شك، والآيات الكثيرة التي تحدثت عنه وأعلت من شأنه تُعدّ دليلًا على أنّه الأساس في الإسلام.
حساب الله تعالى للناس يوم القيامة يُبنى على مدى إخلاصهم في النية، وليس إخلاصهم في القول فقط، فإن كان صادقًا كان صدق العبد واضحًا، وإن لم يكن كذلك فعليه أن يبادر لتنقية نيته ويصبح إخلاصه في العمل واقعًا ملموسًا لنيل رضا الله، والمسلم الحقيقي يحرص على أن يكون قدوة بين جميع الناس، وأن يكون كذلك في عباداته وفي علاقاته الاجتماعية وعلاقاته مع زملاء العمل، ومخلصًا في نيته وفي كلّ قول وفعل، كما يجب أن تتطابق فيه الأقوال والأفعال، فلا يقول الإنسان شيئًا ويفعل عكسه، وأن يكون ما يظهره مثل ما يبطنه.
بيّن القرآن الكريم مفاهيم عدة وشاملة للإخلاص في العمل، وكيف يجب أن يكون كلّ شيء خالصًا لوجه الله، ولهذا فإنّ أفضل ما يقدمه العبد لنفسه أن يعودها على حسن النية، وأن يجدد النية في كل صباح قبل أن يقول شيئًا أو يفعل شيئًا بهدف قبول العمل من الله وهو كامل ليس فيه أيّ نوع من حب الذات أو الأنانية أو الافتخار بالنفس، ودون انتظار أيّ شكر من أحد، وهذه من سمات الأنبياء والصديقين التي يجب أن يتحراها المسلم عندما يفعل شيئًا، فلو أخلص جميع الناس لكان المجتمع أفضل بكثير مما هو عليه الآن، لكن حب الظهور يطغى عند البعض على كلّ شيء، فيخسرون.
عندما ذكر الله تعالى الإخلاص في القرآن الكريم جعله مقترنًا برضاه وعفوه ورحمته ومغفرته، مما يعني أنّه طريقة للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان والفوز بالجنة، والبعد عن الجري خلف زيف الحياة الدنيا، كما أنّ الإخلاص في العمل طريقة للنجاة من جميع الشرور، فالله ينقذ عباده المخلصين ويزيل عنهم الهم والغم ويُشعرهم بقيمتهم، ويزيد من احترامهم لذاتهم، لأنه يحتاج إلى العزيمة والإصرار، ويحتاج إلى أن يُجاهد الإنسان نفسه حتى ينتصر الخير في أعماقه على الشر، وحتى يُحارب الشيطان الذي يأمره أن تتلوّن نيته وأن يلهث وراء أهداف دنيوية لا تدوم.
يمكن للمسلم أن يصل إلى مرتبة الإخلاص بوصفه أعلى مراتب الإيمان بأن يدعو الله تعالى بكل إيمان وثقة أن يمنحه القدرة على أن يكون مخلصًا لربه ورسوله ودينه، وأن يُعين نفسه على هذا بقراءة القرآن والتركيز على الآيات التي ذُكر فيها الإخلاص، فهو مثل قارورة العطر الجميلة التي يفوح عطرها في الأنحاء، وهو سببٌ في التوفيق من الله تعالى، وطريقة لتحقيق النجاح والتميز، وله أثرٌ طيب يبقى حتى بعد رحيل الإنسان، لهذا على المسلم أن يتحرّى ذلك في كلّ لحظة من حياته.
لقراءة المزيد، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: تعبير قصير عن العمل.